مستعمرة
العقاب
سمر
يزبك
المدرسة السلوكية
في علم النفس تقدم لنا مبادئ
وتعليمات في السلوك، لعل أشهرها
التعليم بالاقتران الشرطي، حسب
بافلوف الشهير. كما تبين كيف تمّ
استخدام هذ النظرية في تطبيقات
عملية على البشر، وذلك في
مجالات عدة (الاعلانات، الحرب
النفسية، ترويض الجماهير، غسيل
الأدمغة). ولعل أهم هذه الحالات
ـ بعيداً عن كلب بافلوف، بالطبع
ـ هي أنساق الترويض الشرطي،
المتمثلة بإنزال العقاب القاسي
حيال أي تصرف ينال من السلطة.
وهو عقاب مستمر ومتواتر ومدروس
يحوّل الفرد إلى رقيب على ذاته،
ويشكل داخل شخصيته جهازاً
مخابراتياً مستقلاً يعمل بدافع
الخوف من العقاب. فكلّ فعل لا
يؤدي النتائج التي تصب في ذات
السلطة، مصيره العقاب. والعقاب
المولد للرعب يحوّل البشر إلى
آلة من الخوف، لا تنتج إلا
الجمود والثبات والسكون، رغم أن
مجتمعاتنا لا ينقصها غياب
الإعمال العقلي بعد أن مرّ
القرن الثامن عشر ولم يمطر
خيراً عميماً فوق عقول العرب.
والأمر الثاني،
الذي لا يقل خطورة عن الأول،
يتمثل في التنفير، بمعنى تدريب
الإنسان على تجنب ما هو مثير
للنفور والألم، وتمرينه بحيث
يصبح تجنب التنفير جزءاً لا
يتجزء من شخصية الفرد. هنا يرتبط
كل فعل بألم شديد، وهذا التدبير
في حقيقته كان يطبق لعلاج بعض
السلوكات الجنسية الشاذة، لكنه
في علاقة الفرد بالسلطة يتحول
إلى قاعدة. فالسلطة المستبدة
تقرن كل فعل خارج عن سيطرتها
بالتنفير منه، فيقترن فعل نقد
الدولة أو مخالفتها الرأي ـ أي
ببساطة ممارسة حق المواطنة
بالإنتماء إلى بلد معني
بالإنسان، والإنسان معني فيه ـ
بفعل إلى ملازم شرطي هو السجن،
أو التكنيل بالشخص أو ذويه، أو
النفي، أو الملاحقة.
وهذا يعني اشتراط
فعل حرية الرأي، بمصادرة حياة
الآخر، وبالتالي تصير الحرية
نوعاً من العقاب القاسي، وتتحول
شيئاً فشيئاً في الوعي الجمعي
إلى مخاطرة بالحياة، وتهور،
وانتظار أقصى العقوبات الممكنة
وغير الممكنة من السلطة. وهذه
الأخيرة تذهب إلى أقصى ما لديها
في تعليم الأفراد كيفية
الاستجابة لها، بالاستسلام
والتبلد المطلق وانعدام أي رد
فعل ممكن، من خلال مثيراتها
المنفرة تلك، فيتكيف الأفراد مع
الصدمات المتتالية للقمع،
ويتحولون إلى جزء من آلية
السلطة نفسها ليصبحوا بمأمن
منها. وهم في هذا دون كيان أو
مرجعية أو ذاتية، لأن ذواتهم
تتماهى مع ذات السلطة، وبذلك
يأمنون الألم، ويسكنهم الخوف
الملازم لفعل البقاء.
وفي سوريا كان
لتحول الخوف من رد فعل الى جزء
من سلوك، الأثر البالغ السوء في
الحياة الثقافية والسياسية على
حد سواء. فالثقافة والسياسة
كانتا على الدوام مترابطتين،
ونادراً ما نجد معارضاً سورياً
غير مثقف. ولهذا فقد ارتبط هبوط
الحركة الثقافية وغياب الدور
الفاعل للمثقف، مع الغاء
السياسية في سوريا، واشتداد
تدابير التنفير والعقاب. بدأ
هذا منذ أواخر السبعينات وحتى
نهاية الألفية الثانية، قبيل
انطلاق ما يسمى بربيع دمشق،
وانبلاج طيف خٌيّل لكثيرين أنه
يمهد في سوريا لحراك سياسي
ومجتمعي قادم.
لكن الربيع هذا لم
يستمر طويلاً، واعتُقل العديد
من ناشطيه ومثقفيه، وتُوج
الخيار الأخير للسلطة في الذهاب
نحو أقصى درجات التنفير والعقاب.
المثال حملة الاعتقالات
الأمنية الأخيرة التي طالت
مثقفين وناشطين في منظمات
المجتمع المدني، بينهم مثقفون
معروفون باعتدالهم وبدعواتهم
للمصالحة الوطنية الداخلية،
وهي خطوة تذكر بموجة الاعتقالات
التي شهدتها مراحل سابقة. وطيلة
أكثر من عقد ونيف، أخذت موجة
الاعتقالات الأمنية تنحسر بسبب
السبات الكامل والتام الذي أطبق
على البلاد، وترافق مع استقرار
الخوف وانقلابه إلى سلوك طبيعي
ومشروع ومنطقي ما دام سيجعل
الأفراد في مأمن من آلية العقاب
والتنفير التي تنتظرهم، إذا حدث
وصاروا ذواتاً مخالفة لذات
السلطة.
وفي اعتقادي أن خوف
السلطة على هذه الذات، وقلقها
من فكرة عودة المثقف المستقل
الى الحياة السورية، هي التي
سرّعت خنق صوته لعقود مضت،
وكانت السبب الكلاسيكي عند
توجيه درس قاس إلى كل من يفكر في
التدخل بالشأن العام. بل كانت
جزاء كلّ من يستخدم حتى أبسط
حقه، كمواطن سوري، في الانتماء
الى بلده واسترداد دور المثقف
المستقل الفاعل، المعني بتنشيط
الفكر والعقل وفتح باب المساءلة
والحوار في مجتمعه الراكد. وإنّ
إحياء دور كهذا يعني أنّ ذلك
المثقف قد تجاوز فكرة الخوف،
وصار من الواجب تذكيره بالعقاب،
وباقتران فعل التعبير عن حرية
الرأي بردّ فعل السجن والتعذيب.
الخوف، الذي صار
جزءاً ملازماً من آلية التفكير
والسلوكات الاجتماعية
المنتتشرة في جميع مرافق الحياة
السورية، أفسد الكثير من مظاهر
الحياة المدنية أكثر مما هي
مفسدة: الجار يخاف من جاره،
والعامل من زميله في المعمل،
والموظف يخشى على موقعه من
زميله الموظف. وهكذا تتفشى
سياسة الولاءات الطائفية
والأمنية، ثمّ الأسوأ الذي يمكن
أن تنتجه سياسة الخوف هذه، أي
الانحدار الأخلاقي للفرد رغبة
منه في التمسك بمصالحه وبقائه،
بحيث يتحول الفرد إلى ظلّ باهت
للسلطة، وعميل مأجور بثمن بخس
أو حتى تطوعاً.
ولعل الشريحة
الأكثر تعرّضاُ للضرر من تنامي
شعور الخوف، هي فئة المثقفين
أنفسهم. ذلك لأنهم، وأكثر من
غيرهم، كانوا مدركين لآلية
الخراب الحاصل. وكان الكثيرون
منهم قد تحولوا، بفعل الترغيب
والترهيب معاً، إلى ذوات صغيرة
تماهت مع ذات السلطة، وصارت
صوتاً لها، ومروجاً لأفكارها.
نسبة قليلة منهم انكفأت
واستكانت إلى خوف القطيع
المذعور الساعي إلى السلامة
فقط، والأقلّ القليل منهم ما
زالوا يحتمون بأحلامهم حول
الديمقراطية والعدالة، سواء في
داخل سوريا حيث يدفعون ثمنا
باهظاً من حياتهم، أم في
المنافي حيث يواصلون الحلم
بتراب الوطن والبرهنة على أن
حالة الترويع والعقاب والتنفير
لم تفعل فعلها في علاقتهم مع
حسهم الوطني والإنساني.
والخوف الذي أرادت
السلطة زرعه في النفوس، ارتدّ
إليها وعليها بعد أن نجحت حتى
وقت غير بعيد في تثبيت ما أرادته.
وإذ تستشعر اليوم دنوّ الخطر،
الذي يهدد مصالحها وامتيازاتها
ونفوذها، نراها تجنح إلى تشدّد
أقصى هو بعض سبيلها في تهدئة
مخاوفها، وتشنّ حملات الاعتقال
استناداً إلى ذرائع وتهم جاهزة
مسبقاً، وخارجة من الجعبة
القديمة إياها، حول التخوين
وضرب اللحمة الوطنية وإشاعة
الأخبار التي توهن عزيمة الأمة!
والحال أنّ ما فعله
المثقفون السوريون مؤخراً لا
يخرج كثيراً عن طرازين من
التقاليد الصحية المطلوبة
واللازمة في كلّ مجتمع حيّ:
أولاً، مطالبة السلطة بحوار
وطني نقدي وبناء؛ وثانياً،
الإعلان، الواضح والشجاع، عن
تبنّي سلسلة مواقف لا تخدم
مصالح النظام. هل كان غريباً،
إذاً، أن تثأر السلطة على هذا
النحو الفظّ العنيف، من مثقفين
يدعون إلى الحوار والتجديد ورفض
التشابه والمساءلة العقلية،
ونكران المطلق، والذوبان في ذات
السلطة؟ وهل كان غريباً أن تعلن
السلطة خوفها، الحقيقي
والشديد، من بروز ظاهرة المثقف
المستقل، ذاك الذي أرادت الغاءه
أو تدجينه أو تطويعه في إسار
ثقافة الخوف التي طبعت الحياة
السورية طيلة عقود؟
يُقال إن السّجان
يعيش مع سجينه أطول لحظات عمره،
ورويداً رويداً يتسلل سجن
الأخير إلى نفس الأول، فستقرّ
في أعمق أغوارها. والخوف
المتبادل الآن بين السلطة
والمثقف صار واضحاً، وممهوراً
بحملات الاعتقال والتشديد
الأمني، ولهذا فهو أيضاً مؤشر
إيجابي إلى أن ثقافة الخوف لم
تعد تجدي نفعاً، وأن المثقفين
السوريين بدأوا يستعيدون
الكثير من حركية دورهم الفاعل
في بناء مجتمع ديمقراطي حر، غير
مبالين بمستعمرة العقاب،
وسرداب الترهيب إسوة بسرادق
الترغيب!
–
صفحات سورية –
المقالات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|