حرب
من أجل قواعد جديدة للعبة
عماد
فوزي شُعيبي
مع ما يجري اليوم في
لبنان من عمل عسكري فتح المنطقة
على كل الاحتمالات، فإن على من
يتابع الأمر أن يتمتع بعقل
بارد، لرؤية خريطة لبنان لأمور
بلغة السياسة، لأن المنطقة تسير
بمكاسرة إرادات بهدف تغيير
قواعد اللعبة وفرض "ستاتيكو"
جديد فيها.
فيوم انسحبت
إسرائيل من جنوب لبنان يوم 24
مايو/أيار عام 2000 بعد تواجد دام
عقدين، كان ستاتيكو وقواعد لعبة
قد فرضا بين حزب الله وإسرائيل،
وهو ستاتيكو حاول الإسرائيليون
بعد عامين ونصف من الغزو، إيجاد
مخرج لهم منه.
ففي 14 يناير/كانون
الثاني 1985 جاء تصويت الحكومة
الإسرائيلية لصالح الانسحاب في
غضون بضعة أشهر بنسبة 16 إلى 6
ولكن هذا القرار أثار عاصفة
سياسية عندئذ.
وكان إسحق شامير
نائب رئيس الوزراء في حكومة
الائتلاف القومي قد صرح بأن
قوات الدفاع الإسرائيلية لن
تنسحب من لبنان بدون ضمانات
أمنية حتى لو استغرقت الترتيبات
لذلك سنوات.
ورفض شامير خطة
هيئة الأمن الإسرائيلي
للانسحاب من لبنان واعتبرها
استسلاماً، إلا أن هذا ما قد حدث
عند انسحاب الإسرائيليين في عام
2000 إذ خرجوا بدون ضمانات أمنية
ما خلا الخط الأزرق الذي لم يمنع
من فتح الصراع مرة أخرى وإن
بصورة أقل، وذلك عبر مزارع
شبعا، خاصة أن بقاء مشكلة
اللاجئين الفلسطينيين قد دفع
اللبنانيين لإبقاء الصراع
مستمراً.
قوات حزب الله
الإسرائيليون -كما
يقول دانيل سوبلمان- يرون أن
انبثاق هذا البعد الشيعي المرعب
لنشاطات عسكرية ضد إسرائيل من
لبنان يمكن وصفه كما وصفه إسحق
رابين وزير الدفاع حينذاك
بالقول "إنه إحدى مفاجآت
السلام في حرب الجليل. يبدو وكأن
جنيّ الشيعة قد انفلت من
الزجاجة بطريقة لم يتوقعها أحد…
إن الجماعة الدينية الأكثر
إهمالاً في لبنان تغتنم الفرصة
فجأة لتحارب في سبيل دورها في
المجتمع اللبناني بتوحيد مصالح
الشيعة من خلال ممارسة الإرهاب
ضد قوات الدفاع الإسرائيلية".
وعندما جاء
الانسحاب الإسرائيلي في عام 2000
حل حزب الله في الصورة
الإستراتيجية الإسرائيلية
باعتباره ظاهرة فريدة من نوعها،
إذ هو تنظيم ذو نفوذ هائل دون
المسؤوليات والقيود التي تميز
الدولة ذات السيادة، وهو منذ
الانسحاب أصبح مجهزاً بآلاف من
قذائف الكاتيوشا والصواريخ
طويلة المدى مما زاد الاهتمام
في إسرائيل بشأن نواياه.
دبابات إسرائيل
كانت الصورة العامة
عن حزب الله في إسرائيل أنه
تنظيم ينتظر الفرصة السانحة لفك
الوثاق عن قدراته الإستراتيجية.
وبذلك تحول حزب
الله إلى عامل ردع أساسي كان على
إسرائيل أن تضع في حسبانها ردود
أفعاله على التطورات الحاصلة في
المنطقة.
وكانت هنالك
تخمينات للاستخبارات
الإسرائيلية في عام 2002 مثلا بأن
حزب الله يهيئ لإسرائيل كميناً
إستراتيجياً سيؤدي إلى فتح
الجبهة الشمالية، ويبدو أن هذا
الكمين قد وقعت فيه إسرائيل بعد
أربع سنوات من الانتظار وإثر
تحولات إقليمية.
لقد أرسيت قواعد
لعبة بين إسرائيل وحزب الله
تمثلت في منظومة من الاضطرارات
التي صاغت قواعد اللعب وهي حسب
الإسرائيليين تتضمن ثلاثة
مبادئ:
أ-
اعتراف بالخط الأزرق الذي
قررته الأمم المتحدة على أساس
القرار 425، الأمر الذي يمنع
النشاط - المعلن على الأقل- لحزب
الله على طوله، وفيما وراءه.
ب- مزارع شبعا
متروكة للنشاط العسكري للمنظمة
بصفتها أرضا محتلة.
ج- مبدأ "العين
بالعين" الذي يقضي بأن يرد
حزب الله على إسرائيل بأعمال
مشابهة لتلك التي تنفذها.
وعند دراسة
الإسرائيليين عنصراً من عناصر
اللعبة، وهو الاعتراف بالخط
الأزرق، يرون أنه عندما رسم
رجال الأمم المتحدة خط الحدود
الجديد بين إسرائيل ولبنان إثر
انسحاب إسرائيلي، رفض حزب الله
الاعتراف بشرعية الخط المقرر،
ذاك الخط الذي تسميه الأمم
المتحدة الخط الأزرق.
غير أن حزب الله
تعامل عملياً مع الخط الأزرق
وحصر نشاطه المبادر المعلن ضد
إسرائيل داخل لبنان في قاطع
مزارع شبعا فقط.
وعلى هذا فقد غدت
مزارع شبعا كساحة عمل شرعية
بتقاطع للمصالح منوط بأن يعمل
حزب الله وفقا لمقاييس محددة،
تقلص حتى الحد الأدنى مخاطر
المواجهة العسكرية المباشرة
بين إسرائيل وسوريا.
في الأشهر التي
سبقت الانسحاب تراكمت في أوساط
المحافل الاستخبارية في
إسرائيل شهادات عديدة تشير إلى
نوايا حزب الله في طرح استمرار
وجود إسرائيل في القرى
اللبنانية السبع التي ضمت إلى
إسرائيل كذريعة لمواصلة الكفاح
المسلح.
غير أن القرى حسب
الرؤية الإسرائيلية هي (قدس
وملكية والنبي يوشع وهونين
وصالحة وتربيحا، وابن القمح)
اعتبرت في المقياس الإسرائيلي
قرى إسرائيلية.
بحكم الأمر الواقع
والنشاط ضدها إشكالي ومحمّل
بالمخاطر، وهي لعبة اختار حزب
الله ادخارها بذكاء للمرحلة
القادمة، أي لمرحلة ما بعد
مزارع شبعا.
ويتساءل
الإسرائيليون لمن بالتالي
الكلمة الأخيرة في مسألة النشاط
العسكري لحزب الله ضد إسرائيل؟،
والجواب لديهم الذي يستدعي رؤية
معمقة أيضاً أنه لا يوجد جواب
تام أو واضح على هذه المسألة.
العنصر الثاني في
قواعد اللعبة هو نار مضادات
الطائرات "العين بالعين"،
وحسب هذه القواعد فإن حزب الله
لن يخرج عن نطاق نشاطه المعلن
إلا على سبيل الرد "العين
بالعين" ضد نشاط إسرائيلي في
الساحة اللبنانية أو تصعيد
استثنائي في ساحة المواجهة مع
الفلسطينيين، والهدف هو تنفيذ
قاعدة "القدر بالقدر".
بمجرد نشوء "قواعد
لعب" كان ثمة ما يشدد احتمال
أن يبقى الهدوء النسبي على مدى
أبعد.
ومع ذلك فإن
احتمالات نشوء "اتفاق سلبي"
(أو جنتلمان) بين إسرائيل وحزب
الله ووضع "آنية" متواصلة
ومستقرة نسبيا، من شأنه أن يثقل
على عدة عوامل وعلى رأسها
استمرار نشاط حزب الله ضد
إسرائيل.
كما أن حزب الله لا
يرد بالضرورة بشكل تلقائي على
كل عملية إسرائيلية يعتبرها في
نظره خروجا عن قواعد اللعب، لأن
عقلانيته كانت تدفعه لحسابات
معقدة.
قد عمل حزب الله على
مستويين: محاولة الحفاظ على
ردعه كي يحمل إسرائيل على
الامتناع عن الهجوم،
والاستعداد لكل تطور.
حاول الإسرائيليون
منذ أربعة أعوام فرض قواعد
جديدة للعبة بمنع مبدأ العين
بالعين أو القدر بالقدر، وذلك
بمحاولة زج سوريا في توقعات
الرد على رد حزب الله على
استباحة إسرائيل للبنان في غير
مكان جوا وبرا وبحراً رغم ما
يسمى بالخط الأزرق.
فحاولوا التهديد
بأن أي عمل من حزب الله ومن ثم من
قبل حماس والجهاد الإسلامي سوف
يؤدي إلى الرد على الطرف
السوري، فكانت العملية على
الرادار السوري -حيث لم يوفر حزب
الله الفرصة للتذكير بمبدأ
العين بالعين بتدمير رادار
إسرائيلي- (رادار مقابل رادار).
وكان الهجوم على
عين الصاحب قرب دمشق لمحاولة
ترسيخ قاعدة جديدة وغريبة في
العقيدة العسكرية الإسرائيلية
المضطربة وهي "حماية العمق
الإسرائيلي بالعمق السوري".
لم تفلح هذه
القاعدة لأنها كانت من النوع
غير المبتكر من ناحية التغطية
الدولية، رغم تغطية الولايات
المتحدة لإسرائيل بصورة مستمرة.
لكن أوروبا وروسيا
والصين كانوا ينبهون إلى أن
الاستمرار فيها يعني انفجاراً
شاملا، مما جعل إسرائيل تعتمدها
ظاهراً ولا تستخدمها فعلاً.
بعد سقوط البرجين
في نيويورك وسقوط بغداد انفرد
الإسرائيليون بالفلسطينيين
وحاولوا تغيير قواعد اللعبة
بالقضاء على أوسلو ثم قتل
السياسيين إلى استباحة
الحصانات ... وحاولوا مراراً
تغيير قواعد اللعبة مع حزب الله
وسوريا، بحرب من طرف إسرائيل
ممنوعة على الآخرين وسلام غير
وارد في الأجندة الإسرائيلية أي
(لا سلم والحرب من طرف واحد).
وكان الطرف الآخر
على قناعة بأن المعادلة ليست في
مصلحته على المدى البعيد ويريد
اغتنام الفرصة الدولية –
الإقليمية للعمل.
جاءت الفرصة بقراءة
عميقة اليوم للفويرقات:
1- الولايات المتحدة
تريد إستراتيجية خروج من العراق
بعد إدراكها واقع المستنقع الذي
سقطت به، وسوريا تعلن الاستعداد
للمساعدة في خروج المحتل، إلا
أن الأميركيين يتساءلون كيف؟
2- مأزق المشروع
النووي الإيراني والانقسام
الدولي حوله لا يفسح في المجال
أمام الالتفات نحو مشكلة انفجار
في الشرق الأوسط بدعم -إلى آخر
حدّ- لتورط إسرائيلي في جبهة
مفتوحة.
3- إسرائيل لا
تستطيع أبداً أن تخوض حروباً
على أكثر من جبهة.
جر حزب الله
إسرائيل إلى مواجهة مفتوحة عبر:
1- إعادة قواعد
اللعبة إلى المربع الأول حيث
القدر بالقدر والعين بالعين و...
زيادة بقيمة مُضافة لصالح حزب
الله.
2- نسف المبدأ
الأساسي في العقيدة العسكرية
الإسرائيلية وهو نقل الحرب إلى
أرض الآخرين. وأصبحت مناطق
هادئة منذ عام 1949 خارج حدود
مناطق الصدام الكلاسيكية.
3- لا منطقة محددة
للصراع طالما أن إسرائيل تجاوزت
قواعد اللعبة واستباحت العمق
والسيادة اللبنانيين.
4- الصراع رزمة
واحدة ولا استفراد لأحد ولا حل
إلا بقرارات الشرعية الدولية
على مستوى واحد وشامل.
من ناحيتهم يجرب
الإسرائيليون إمكانية تغيير
قواعد اللعبة بطريقتهم:
1- التجريب لاستنزاف
حزب الله واستنفاد قوته.
2- الدفع باتجاه خلق
واقع إقليمي ينسجم مع مناخ دولي
أفرط في التدخل لصالح إسرائيل
وضد المقاومة وسوريا، عبر مجلس
الأمن منذ القرار1559، إلى إكمال
هذا القرار بقرار يبعد حزب الله
عن الحدود ويفرض دخول الجيش
اللبناني لمسافة 20 كيلومتراً
على الأقل عن الحدود.
3- استحداث شرخ بين
حزب الله من جهة والحكومة من جهة
أخرى والمجتمع من جهة ثالثة،
عبر إنهاك المجتمع اللبناني
للدفع نحو تفكيك سلاح حزب الله.
4- دفع الأطراف إلى
سلام الأمر الواقع بعد إجهاد
الأطراف.
الطرفان يسعيان إلى
تغيير قواعد اللعبة وفرض واقع
ساكن بطريقته، والسؤال الذي
يطرح نفسه لتعيين من سيصرخ أولا
في لعبة عضّ الأصابع، بغض النظر
عن الصراع على المستوى الدولي
الذي سيراه مجلس الأمن قريباً،
إذ إن معامل الصراع الأساسي هو
في الإجابة عن السؤال المحوري
المتشعب التالي:
هل تحتمل إسرائيل
حرب استنزاف طويلة في عمقها؟
وهل تحتمل إسرائيل أكثر من جبهة
مفتوحة في نفس الوقت؟ ثم من هذا
الذي يُجرب المجرب؟
الجزيرة
16/7/2006م
المقالات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|