كلام
عن العلمانية السورية
حسام
جزماتي
بما أن المتدينين
السوريين ليسوا مرشحين
للانقراض على المدى المنظور،
فمن الضروري أن تكظم بعض
التيارات العلمانية غيظها،
وتعكف على دراسة جادة ودؤوبة
للحالة الإسلامية، لا سيما أنه
صار معروفاً للجميع، عدا أبناء
هذه العلمانية المتشددة، ما
باتت تعانيه من مشكلات نظرية،
وما نتج عن ذلك من عزلة وإخفاقات
عملية.
والذي أقصده هنا هم
العلمانيون الإيديولوجيون،
الذين يشكلون قطاعاً واسعاً من
المثقفين السوريين، المتحدرين
من خلفيات ماركسية على الأغلب،
والذين ينظرون إلى أي مظهر
إسلامي في الحياة العامة على
أنه أحد مظاهر «الردة الدينية»،
يجب التحذير منه على الفور، و»استـئصاله»
حالما أمكن الأمر، دون دراسة
فعلية وواقعية لأسبابه، وحجمه
الفعلي، ونوع انتمائه داخل
الخريطة الإسلامية، وبالتالي
نوع الأثر الذي يمكن أن ينتج عنه
ومداه. ودون، طبعاً، مجرد
التفكير بإمكانية قبوله.
ولأنهم كذلك، فقد
انحسر دورهم الثقافي إلى مجرد
التحذير من «تنامي المد الأصولي»،
الذي يراقبونه أساساً عبر
القنوات الفضائية. فإن اضطرت
المادة الصحافية أحدهم إلى
أدلةٍ ملموسةٍ من الواقع
المعاش، تكفل شريط الإنشاد
الديني الذي يستمع إليه السمّان
المجاور، أو سائق السرفيس
الصغير، أو رؤية ثلاث فتيات
محجبات في محاضرة ثقافية؛
بالدليل الباهر، والعياني،
والمستخدم دون تحديد مدة
لانتهاء صلاحيته.
ولا شك في أن سماتٍ
بنيوية في هذه العلمانية قد
تراكبت لتجعل متبنيها يجفل بشكل
قهري لاإرادي، وملموس بوضوح،
كلما واجه ما يثير لديه حساسيته
الهلعية تلك. وربما كان أس هذه
السمات هو أن هذه العلمانية
قائمة على رضٍّ نفسيٍ عميقٍ
تجاه الإسلام السياسي بالدرجة
الأولى، وتجاه كل المظاهر
الإسلامية، وإن لم تكن ذات صلة
بالسياسة. ولهذا الرضّ أسباب
عديدة، منها بالتأكيد ذاكرة
الصدام الدموي بين إسلاميين
والسلطة السورية في ثمانينات
القرن العشرين. غير أن هذا لا
يفسر سبب امتداد الأثر الراضّ
إلى مظاهر إسلامية لا علاقة لها
بأي بعد سياسي، لكن ضعف المعرفة
يتكفل بجزءٍ من التفسير. إذ إن
الرض المشار إليه (إضافة إلى
أسباب أخرى، منها التكوين
الأدبي للثقافة السورية وضعفها
العام في علوم السياسة
والاجتماع) قد منع إمكانية
مقاربة الحالة الدينية أو
الإسلامية. وبات يثير استجاباته
الحادة أمام أي فرصة جدية، أي
ميدانية بالضرورة، لدراستها.
وبالتالي غاب التمييز بين مختلف
التمظهرات الإسلامية ودلالاتها.
ولتغطية هذا النقص
في المعرفة، الذي تبدو فداحته
أكثر فأكثر، لجأ علمانيو هذا
النمط إلى المصادر الأثيرة
للذهن الكسول، أي المصادر
الإعلامية. وبما أن هذه تعالج،
الآن وفي هذا المجال، تجارب
وميادين جغرافية غير سورية، لم
يجدوا غضاضة في سحب المعلومات
والتصورات والتحليلات من هنا
وهناك وتنزيلها على الحالة
السورية. فابتدأوا بالسحب
التقليدي (والمحفوف بالمخاطر
بسببٍ من إغرائه الدائم) عن
الحالة المصرية. وأخذوا يحذرون
من تكفير المجتمع، ومحاكمات
الكتب، والجنازير والمطاوي... في
وقتٍ كان هاجس المتدين السوري
فيه هو الصلاة في مكان العمل دون
مساءلة.
ثم منحتهم انتخابات
الجزائر مجالاً خصباً لأحاديث
طويلة لا ناقة عملياً لهم فيها
ولا جمل، حول خطر السماح
للإسلاميين بالدخول في
الانتخابات، وعدم إيمان هؤلاء
بالديموقراطية، واستعمالهم
صندوق الاقتراع لمرة واحدة.
وبالطبع، ليس في سوريا حزب
إسلامي، ولكن الفكرة
الاستحواذية لن يعوزها تسخير
الواقع، فتحول، ببساطة ذهنية
مدهشة، متدينين عاديين،
وصوفيين، وفقهيين، تقليديين
وحديثين؛ إلى جمهورٍ كامنٍ
جاهزٍ لحزبٍ إسلاميٍ مفترض. ومع
تصاعد الحديث في السنوات
الأخيرة عن الإخوان المسلمين
السوريين، واشتراكهم في بعض
حوارات ونشاطات المعارضة
السورية؛ وجد علمانيونا ضالتهم
الجديدة القديمة في الإخوان،
بوصفهم الحزب الذي «سيكتسح
الشارع» لو قدر له دخول
الانتخابات داخل سورية. دون
أدنى اعتبار للانحسار البالغ،
الحقيقي والمستمر إلى الآن،
الذي لحق بشعبية الإخوان في
الشارع السوري منذ أحداث
الثمانينات.
أما آخر بدع
الاستنساخ فمن العراق، مالئ
الصحف وشاغل الفضائيات
والمنتقل سريعاً من سلفية
جهادية عارضة إلى احتراب طائفي
ذي جذور تاريخية. فهو يوفر
فرصتين: التحذير من خطرٍ عالمي
هو السلفية الجهادية، والتلويح
بالتهم الطائفية. فبعد أن كانت
العلمانية المجاهدة تطرح نفسها
بديلاً وحيداً عن الأصولية،
صارت الآن، بالإضافة إلى ذلك،
الترياق الوحيد ضد الخطر
الطائفي، وصار أي نقاشٍ لها
محفوفاً بعلامات الاستفهام.
وهكذا كان على
المتدين السوري الغافل ـ غالباً
ـ عن كل ما يلصق به من تصورات، أن
يغادر موقعه في صورة المنقض على
الديمقراطية والمراوغ في
إيمانه بصندوق الاقتراع، إلى
صورة دراكولا الطائفي ذي
القرنين، بعد أن كان غادر، في
الرحلة الأولى، الجنازير في
الجامعة، ودعاوى الحسبة في
المحاكم.
من المؤسف أن يحتفظ
قسمٌ واسعٌ من النخبة الثقافية
السورية بهذا القدر من «العفاف»
في ملامسة الواقع، ثم يتكلم عنه
بما يشاء. إن هذا النمط من
العلمانيين السوريين لا يفرق
بين المسلم المحافظ والمتدين
والإسلامي. ولكلٍ من هذه
التصنيفات تلاوينه العديدة،
ومعسكراته الداخلية المتنافرة،
والمتكافرة أحياناً. وإن
الانتقال بينها لا يتم وفق
نظرية الأواني المستطرقة.
والشارع السوري ليس إسلامياًً،
ولا هو مرشحٌ لأن يكون كذلك وفق
المعطيات المتاحة في الوقت
الحالي. ولكن مظاهر التدين أو
المحافظة التي تلاحظ هي تعبيرٌ
عن ارتياح قطاعات واسعة من
المتدينين إلى أجواء الحياة
العامة في سورية الآن، وأن
أحداً لن يخلط بينهم وبين حركات
لا ينتمون إليها من تيارات
الإسلام السياسي. وبهذا المعنى
فإن مطلب إعادة العجلة إلى
الوراء مطلب قمعي وغير واقعي.
وأخيراً، يبقى في
المسألة خبران؛ الخبر السيء
للعلمانيين الإيديولوجيين في
سورية هو أنهم مضطرون إلى دخول
المسجد إذا أرادوا فهم الإسلام
السوري. وأنهم مضطرون إلى
أحاديث مطولة ومتبسطة مع
الملتحين السوريين إذا أرادوا
معرفة موقع هؤلاء من خارطة
فهومٍ واسعةٍ للإسلام وتجلياتٍ
كثيرةٍ له. أما الخبر الجيد فهو
أنه لفهم سورية يمكن استخدام
معطيات سوريِة. وبالتأكيد، على
كل المثقفين السوريين أن يجهدوا
لفهم مجتمعٍ هو محور اشتغالهم
وتأثيرهم المفترض.
ملاحظة: أرجو قراءة
هذه المقالة على خلفية مقالتي «عرس
العلمانية في سورية» (الحياة
31/5/2007) ورد السيد لؤي حسين عليها
في «رداً على حسام جزماتي: نعم،
علمانية مشرقية في دمشق» (الحياة
22/6/2007).
الحياة
- 26/06/07
*كاتب
سوري
المقالات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|