القـــرآن
والأميركـــان
د.
رياض نعسان أغا
حسناً فعلت الوزيرة
كوندوليزا حين استنكرت جريمة
الجنود الأميركان الذين قاموا
بتدنيس القرآن الكريم. ولكنها
طالبت بعدم التحريض على العنف،
مع أنها تدرك بالتأكيد أن تصرف
الجنود الأميركان هو أعظم تحريض
على العنف، وخاصة أن القرآن
الكريم أغلى على المسلمين من
أنفسهم ومن أموالهم ومن
أبنائهم، وأن الدفاع عن مكانته
فرض ديني مقدس. ولكن حقيقة
القرآن الكريم غائبة عن ثقافة
الأكثرية من الأميركان، فحتى
المتعلمون منهم لا يعرفون عنه
غير ما تروجه وسائل إعلام
معادية للعرب والمسلمين قدمت
القرآن على أنه كتاب من تأليف
محمد صلى الله عليه وسلم يقدس
العنف ويحرض على الكراهية ويدعو
إلى قتل الناس أجمعين. وهذا ما
ردده بعض المثقفين الأميركان في
الحملة الضارية على الإسلام.
ويؤكد حقيقة الجهل بالقرآن قول
المدير العام لمجلس العلاقات
الأميركية الإسلامية "كير"
إن وسائل إعلام أميركية مهمة
اتصلت بالمجلس تسأل عن "سر
المظاهرات التي احتجت على تدنيس
القرآن، وأبدت عدم فهمها لما
يحدث، ودهشتها حين علمت بمكانة
القرآن في العالم". وإذا كان
هذا الجهل ناجماً عن تقصير
العرب والمسلمين على الصعيد
الثقافي والإعلامي. أما الجنود
الذين ارتكبوا جريمة تدنيس
القرآن فهم يعرفون أهميته
تماماً، ويدركون أن رمي المصحف
الشريف في المراحيض كما نقلت
الـ"نيوزويك" الأميركية هو
إهانة علنية لكتاب يقدسه
المسلمون، وإذلال للأسرى الذين
يراد استفزازهم والتنكيل بهم.
الجنود ينقمون على القرآن لأن
قادتهم أعلموهم أن هذا الكتاب
هو الذي يحرض المسلمين على
الجهاد، وهو الذي يرفع من
معنوياتهم ويجعلهم قادرين على
صد العدوان وعلى الدفاع عن
النفس والأوطان. وقد تساءل بعض
المثقفين العرب عن سر توقيت نشر
الإعلام الأميركي أنباء عن
جريمة تدنيس القرآن في هذه
الآونة بالذات، فرأى بعضهم أن
الهدف هو إحباط الجهود
الدبلوماسية التي تبذلها
الخارجية الأميركية لتحسين
صورة أميركا في العالمين العربي
والإسلامي. فهذه الأنباء عن
تدنيس القرآن الكريم تشعل نيران
الغضب وتصعد مشاعر الحقد
والكراهية عند العرب والمسلمين
ضد الولايات المتحدة، في وقت
أوشكت هذه المشاعر أن تفتر، وأن
ينمو بدلاً عنها نوع من مشاعر
الرغبة بالتفاهم عبر الحوار.
وكانت العقلانية
التي واجهت بها سوريا الضغوط
الأميركية قد أسهمت في إطفاء
الحرائق المراد إشعالها في
المنطقة، وهو ما لا يريده أصحاب
نظرية الفوضى المبدعة الذين
أغرقوا العراق بالويلات، وهم
الذين يخططون وينفذون العمليات
الإرهابية التي يقتل فيها
العراقيون الأبرياء، وهم الذين
ما يفتئون يتهمون سوريا اتهامات
باطلة لا دليل عليها ولا برهان،
ويسعون إلى الإيقاع بها تحت
يافطة الدعوة إلى الديمقراطية
التي بات العرب يخافون من
نموذجها العراقي الذي قسم
العراق إلى طوائف وعشائر وقبائل
وأعراق.
وأحسب أن
الدبلوماسية الأميركية تدرك أن
ما فعله الجنود من تدنيس للقرآن
الكريم هو تحريض مبرمج على
تأجيج العنف. فقد قالت رايس: إن
ما حدث أساء إلى صورة الولايات
المتحدة في العالم الإسلامي ولم
يتسبب بمقتل ستة عشر شخصاً
وبجرح العشرات فقط، وإنما أساء
إلى الجهود التي تبذلها
الولايات المتحدة لإثبات حسن
نواياها نحو المسلمين. وبوسعنا
أن نضيف أن الجريمة تهدف فيما
تهدف إلى زج المسيحية العالمية
كذلك في خلاف مع الإسلام بعد
قرون من التعايش والتفاهم - هذا
على افتراض أن من ارتكبوا جريمة
تدنيس القرآن يدينون بالمسيحية
التي هي منهم براء، لأن القرآن
الكريم أعظم كتاب يمجد السيد
المسيح ويعلن أن أمه البتول
مفضلة على نساء العالمين-. ولهذا
كان موقفاً مشرفاً أن يجتمع
علماء المسلمين ورجال الدين
المسيحي في سوريا معاً
ليستنكروا الجريمة وليصدروا
بياناً بإدانتها من المسجد
الأموي الذي زاره البابا الراحل
رحمه الله تقديراً منه لمكانة
الإسلام العظيم، وتعزيزاً
للأخوة الدينية بين المسلمين
والمسيحيين، وهذا ما يزعج الذين
يكرهون الإسلام والمسيحية
معاً، ويسعون إلى تعميق الهوة
بين العرب والغرب عامة.
نحن نريد علاقات
ودية وحضارية مع شعب الولايات
المتحدة الذي بات يبحث عن
الحقيقة حين شم رائحة الزيف في
كل ما يقدمه له الإعلام
الصهيوني من معلومات كاذبة، وقد
أقبل بعض المثقفين الأميركان
على اقتناء القرآن واكتشافه
بأنفسهم بعد 11 سبتمبر مما أثار
استياء أعداء الإسلام فقاموا
بتشويه القرآن وقدموا نسخة
مزورة منه، لكن جريمتهم افتضحت،
وأدرك المثقفون أن الحملة على
الإسلام مغرضة وعدوانية، وهي
تتخذ أشكالاً متعددة بعضها
يتستر باسم الإسلام نفسه, كتلك
الدعوة المشبوهة لإمامة امرأة
صلاة الجمعة حيث كان هدف
التشويه والتشويش واضحاً. ونحن
نعتقد أن الذين يحقدون على
القرآن هم فئة قليلة تسللت إلى
مواقع القرار والنفوذ في
الولايات المتحدة وهي تعمل
لصالح إسرائيل فقط، ولا تعنيها
مصالح الولايات المتحدة
وصداقاتها العريقة مع العديد من
البلدان العربية والإسلامية.
وقد صرح أحد أعضاء الكونغرس من
هذه الفئة بقوله في مؤتمر دافوس
الأخير "يخطئ من يظن أننا
لسنا منحازين إلى إسرائيل".
والعرب يعلمون أن
هذه الفئة منحازة إلى إسرائيل
وأن مشاعرها بالولاء للصهيونية
أكبر وأصدق من مشاعرها
بالانتماء إلى أميركا. وهذه
الفئة المزهوة بالقوة وحدها هي
التي دمرت الديمقراطية
الدولية، وحولت الولايات
المتحدة في نظر الشعوب إلى وحش
كاسر، يخافه الناس. هو القادر
على تدمير المدن وإبادة الناس،
وهو يحتقر ثقافات البشر
وأديانهم، وبالتأكيد ليست هذه
هي الصورة التي تريد الولايات
المتحدة تقديم نفسها بها إلى
شعوب الأرض. إنني لا أمني النفس
بيوم يثور فيه الشعب الأميركي
على هذه الفئة الصهيونية التي
اختطفت القرار الأميركي، فعامة
الناس في أميركا غير معنيين
بالسياسة الخارجية إلا حين تؤثر
على مصالحهم، وقد حرصت
الصهيونية الأميركية على أن تسد
منافذ الإعلام كي لا يعلم
الأميركان البسطاء بحقيقة ما
يجري في العراق وفي فلسطين،
وباتت وسائل الإعلام تلعب على
الأميركان وعلى السذج من العرب،
وفي وسائل إعلامهم حيث باتت
تردد أنباء مضحكة موجهة أساساً
إلى المتلقي الأميركي الذي يحب
أنباء المطاردات على الطريقة
الهوليودية. ومن ذلك سلسلة
الأنباء التي توالت حول إصابة
الزرقاوي وما إلى ذلك من أخبار
لا أدري سر اهتمام الإعلام
العربي بها. فالزرقاوي لا يعني
لأحد في الأمتين العربية
والإسلامية شيئاً، وغالبية
الناس وأنا منهم لا يصدقون
بوجود الزرقاوي أصلاً، وقد سمعت
على الفضائيات عراقيين ثقاة من
الفلوجة والموصل وسواها يقولون
إنهم لم يسمعوا بالزرقاوي. لكن
الإعلام الصهيوني يدرك أن الشعب
الأميركي يحب المطاردات وصراع
الديكة، وقد أصبح مسلسل مطاردة
ابن لادن مملاً، فكان لابد من
اختراع شخصيات جديدة. إحياء
أسطورة الزرقاوي في الإعلام
الأميركي تم في ذات الفترة التي
شهدت فورة الغضب من تدنيس
القرآن، حيث كان مفيداً إلهاء
الأميركان بأنباء إرهابي مطارد
ممن يدفعهم القرآن إلى الإرهاب،
ويبدو مفجعاً أن ينساق إعلامنا
العربي إلى ترديد هذه الأنباء
السخيفة على أنها حقائق، وأن
يكون موقفه من تدنيس القرآن
محايداً أو في الحد الأدنى من
الاحتجاج. ولقد كان مفجعاً أكثر
أن أقرأ لكتاب يحملون أسماء
مسلمين يهاجمون من غضبوا لتدنيس
القرآن، ويعتبرون أن للقرآن
رباً يحميه وأن الدفاع عنه هو
مسؤولية الله، وليس مسؤولية
المسلمين، ولقد تعهد الله بحفظ
القرآن، ولكن الدفاع عنه وعن
مكانته مسؤولية كل مسلم.
إنني أرجو أن تدرك
الدبلوماسية الأميركية أن
ملايين الدولارات التي تنفقها
لتحسين صورة أميركا عبر وسائل
الإعلام، يبددها في لحظات تصرف
طائش أحمق، يسيء إلى عقيدة
مليار ونصف المليار من البشر.
ومشكلة المسلمين أنهم لا
يستطيعون الرد بالمثل.
فالمسلمون وحدهم يقدسون كل
الكتب السماوية ويؤمنون بكل
الرسل إيمانهم بنبيهم محمد عليه
الصلاة والسلام، ولو أن أحد
الجنود أساء إلى الإنجيل المقدس
لغضبنا ذات الغضب الذي نغضبه
لتدنيس القرآن الكريم.
الاتحاد
27/5/2005
المقالات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|