المسيحية
الصهيونية
صهيومسيحية
أم صهيوأميركية؟"
مأساة
في استعمال الكتاب المقدس
استغلال
المشاعر الدينية في إنشاء دولة
صهيونية
الدكتور
القس رياض جرجور*
تم تعريف
الصهيونية المسيحية على انها
"الدعم المسيحى للصهيونية".
وقد قيل أيضاً أنها "حركة
قومية تعمل من أجل عودة الشعب
اليهودى الى فلسطين وسيادة
اليهود على الأرض". ويعتبر
الصهيونيون المسيحيون أنفسهم
كمدافعين عن الشعب اليهودى
وخاصة "دولة اسرائيل"
ويتضمن هذا الدعم معارضة كل من
ينتقد أو يعادى "اسرائيل".
"والتر ريغنز"
الأمين العام لما يسمى "السفارة
المسيحية الدولية" وهى من
أحدث وأخطر المؤسسات الصهيونية
ومركزها فى القدس، يعرف اصطلاح
الصهيونية المسيحية بطريقة
سياسية وعلى أنه -أى التعريف- أى
مسيحى يدعم الهدف الصهيونى
لدولة اسرائيل وجيشها وحكومتها
وثقافتها الخ.
أما القس "جيرى
فالويل" مؤسس جماعة العمل
االسياسى الأصولى المسماة "الأغلبية
الأخلاقية" وهو الذى منذ فترة
تكلم واتهم دين الإسلام بأنه
دين إرهابي، فإنه يقول: "إن من
يؤمن بالكتاب المقدس حقاً يرى
المسيحية ودولة اسرائيل
الحديثة مترابطتين على نحو لا
ينفصم، إن إعادة إنشاء دولة
اسرائيل فى العام ألف وتسعمائة
وثمانية وأربعين لهى فى نظر كل
مسيحى مؤمن بالكتاب المقدس
تحقيق لنبوءات العهدين القديم
والجديد". سنتعرض لهذه
المسألة بعد قليل، إنما وفى
ختام التعريفات أقول إن
الصهيونية المسيحية فى نهاية
المطاف تعبر، وكما جاء فى بيان
اللجنة التنفيذية لمجلس كنائس
الشرق الأوسط فى نيسان "أبريل"
عام ألف وتسعماية وستة وثمانين
"1986"، عن مأساة فى استعمال
الكتاب المقدس، واستغلال
المشاعر الدينية فى محاولة
تقديس إنشاء دولة ما، وتسويغ
سياسات حكومة مخصوصة.
إذن لا يوجد مكان
للصهيونية المسيحية فى الشرق
الأوسط، ويجب أن تنبذ من قبل
الكنيسة العالمية، إنها تشويه
خطير وانحراف كبير عن الإيمان
المسيحى الحقيقى المتركز فى
السيد المسيح كما أنها تدافع عن
برنامج سياسى قومى يعتبر الجنس
اليهودى متفوقاً. وكما وصفها
احد القادة فى الكنيسة
الأنغليكانية:"إن إعطاء وكيل
عقارات الى الله يحطم القلب...إنهم
لا يكترثون بالمسيح أبداً".وبكلمات
رجل دين فلسطينى محلى :"إنهم
أدوات تدمير وخراب، وهم لا
يعطون أى اعتبار أو أهمية
للمسيحيين الأصليين فى هذه
البلاد".
الجذور التاريخية
والدينية للصهيونية المسيحية
نشأت الصهيونية
المسيحية، وكما نعرفها اليوم،
فى انكلترا فى القرن السابع
عشر، حيث تم ربطها بالسياسة،
ولا سيما بتصور دولة يهودية
تتميماً حسب زعمها لنبوءة
الكتاب المقدس، وانتقلت فى
مرحلة ثانية الى الولايات
المتحدة الأميركية، حيث أخذت
أبعاداً سياسية واضحة وثابتة
كما أخذت بعداً دولياً.
سنتحدث باقتضاب
عن هاتين الحقبتين فى تاريخ
الصهيونية المسيحية، ولكن قبل
ذلك لا بد لى أن أشير الى الجذور
الفكرية أو النظرية لهذا التيار
وذلك ما قبل القرن السادس عشر.
الصهيونية
المسيحية هى أيديولوجيا دينية
"رؤيوية" سياسية حديثة
العهد نسبياً، لكن جذورها تتصل
بتيار دينى يعود الى القرن
الأول للمسيحية ويسمى بتيار
الألفية "Millenarianism". والألفية هى
معتقد دينى نشأ فى أوساط
المسيحيين الذين هم من أصل
يهـودي، وهو يعود الى استمرارهم
فى الإعتقاد بالمشيحية الزمنية
-المشيحية كلمة من أصل عبرى ـ
والى تأويلهم اللفظى لما ورد فى
سفر رؤيا يوحنا - 20/3-6، وهو أن
المسيح سيعود الى هذا العالم
محاطاً بالقديسين ليملك فى
الأرض ألف سنة ولذلك سُموا
بالألفية. ولربما أن هرطقة
مونتانوس الفريجي، حوالى عام
مئة واثنين وسبعين، كانت
التعبير الأكثر وضوحاً عن
النتائج العلمية للحركة
الألفية، فلقد اعتبر هذا الأخير
أن حياة أعضاء الكنيسة الروحية
والأخلاقية قد تدهورت كثيرا
بسبب تأثير العالم السيء عليها،
فأراد أن يرجعها الى العصر
الرسولى الأول، وقد ادعى انه
النبى الجديد الذى أوكل الله
اليه هذه المهمة، فراح يبشر
بقرب نزول أورشليم السماوية،
ومجيء السيد الى فريجية العليا"آسيا
الصغري" لتأسيس مملكته
الأرضية ذات الألف عام.
وبقيت الحركة
الألفية فى مد وجزر. ففى القرون
الوسطى اعتنق الألفيون أكثر
فأكثر عقائد مسيحية ابتعدت عن
الإيمان القويم، كما أنهم وقفوا
موقفاً معاديا لروما
وللباباوية وللكثلكة. وابتداءً
من نهاية القرن الحادى عشر، نرى
الحركات الألفية تنضوى بكثرة
تحت لواء الحملات الصليبية، لكن
حتى القرن السابع عشر، لم تحمل
الحركة الألفية "أى عودة
السيد الثانية وحكمه ألف سنة"
أى طابع يهودى يشير الى عودة
اليهود الى فلسطين.
الصهيونية
المسيحية البريطانية
إلا أن بوادر
تفسير الكتب المقدسة تفسيراً
حرفيا وربطها بالسياسة، ولا
سيما بتصور دولة يهودية تتميما
ـ حسب زعم الألفيين- لنبوءة
الكتاب المقدس، فقد بدأت بشكل
بارز فى بريطانيا فى القرن
السابع عشر.
وقد تسارع هذا
التطور إبان العصر الطهرى "البيوريتاني"،
بعد أن كانت تلك المعتقدات
الألفية قد تراجعت فى العهد "الإلزابيتي".
فمن هذا الإتجاه نذكر:
ـ إستعمال
العبرية لغة للصلاة فى الكنائس
ـ نقل يوم ذكرى
قيام السيد المسيح من يوم الأحد
الى يوم السبت اليهودي
ـ مطالبة بعض
البيوريتانيين الحكومة بأن
تعلن التوراة أى العهد القديم
دستوراً لبريطانيا
ـ ونجد فى العام
ألف وخمسمائة وثمانية وثمانين
"1588" رجلاً بريطانيا من
رجال الدين واسمه "بريتمان"
"1562-1607"، يدعو الى إعادة
اليهود الى الأراضى المقدسة
تتميماً لنبوءة الكتاب المقدس
- وفى العام ألف
وستمائة وخمسة عشر "1615" دعا
البرلمانى البريطانى "السير
هنرى فينش" الحكومة الى دعم
عودة اليهود الى فلسطين حيث كتب:"ليس
اليهود قلة مبعثرة، بل إنهم
أمة، ستعود أمة اليهود الى
وطنها، وستعمر كل زوايا الأرض..وسيعيش
اليهود بسلام فى وطنهم الى
الأبد".
إلا أن الركيزة
الدينية /السياسية/
الأيديولوجية الأولى للصهيونية
المسيحية فى بريطانيا قامت على
يد "أوليفر كرومويل"، فقد
كان هذا الأخير على مدى عشر
سنوات "1649-1659" رئيسا
للمحفـــل البيوريتاني، وهو
الذى دعا الى عقد مؤتمر عام ألف
وستمائة وخمسة وخمسين "1655"
للتشريع لعودة اليهود الى
بريطانيا، أى إلغاء قانون النفى
الذى اتخذه الملك "إدوارد".
ففى هذا المؤتمر تم ربط
الصهيونية المسيحية بالمصالح
الإستراتيجية لبريطانيا، ومن
خلال عملية الربط تلك تحمس "كرومويل"
لمشروع التوطين اليهودى فى
فلسطين منذ ذلك الوقت المبكر.
بعد العام ألف
وثمانمائة برز"القس لويس واي"
الذى صار مدير الجمعية اللندنية
لترويج المسيحية بين اليهود فى
العام ألف وثمانمائة وتسعة
"1809"، وقد تحولت الجمعية
بجهوده قوة كبرى فى التعبير عن
عقائد الصهيونية المسيحية بما
فيها عودة اليهود الى فلسطين.
شخصية أخرى ساهمت
فى تطوير هذا الإتجاه فى
بريطانيا هى "الشريف هنرى
دارموند" عضو مجلس العموم
البريطاني. فقد تخلى "دارموند"
عن عمله السياسى بعد زيارة
الأرض المقدسة ونذر حياته
لتعليم الأصولية المسيحية
والكتابة عنها وعن صلتها بعودة
اليهود الى فلسطين.
أما "اللورد
شافتسبوري" "1818-1885"، وهو
من أكابر المصلحين الإجتماعيين
الإنجيليين البريطانيين، وقد
عمل لتخليص بريطانيا من
العبودية، ومن ممارسات تشغيل
الأحداث الظالمة، فقد كان من
الألفيين المتحمسين والمناضلين
من أجل عودة اليهود الى فلسطين،
وكانت نظرته تتسم الى حد بعيد
بالعداء لليهود، إذ كان يفضل
رؤيتهم يقيمون بالأراضى
المقدسة بدلا من أنكلترا.
وأشد الصهيونيين
المسيحيين البريطانيين ضلوعاً
فى السياسة هو القس "ويليام
هـ هشلر" "1845-1931". فقد عمل
فى السفارة البريطانية بفيينا
ونظم عملية تهجير اليهود الروس
الى فلسطين. وفى العام ألف
وثمانمائة وأربعة وتسعين
"1894" نشر كتاباً عنوانه "عودة
اليهود الى فلسطين" وطرح هذه
العودة على قاعدة تطبيق
النبوءات الدينية الواردة فى
العهد القديم، والأهم من كل ذلك
انه كان من المؤمنين المتحمسين
لأبى الصهيونية ـ تيودور هرتزل
ـ وقد أتاح "هشلر" الدعم
السياسى والإتصالات لهرتزل
خلال المرحلة الحاسمة، وبذل
مساعيه فى اللوبى من أجل القضية
الصهيونية لمدة تناهز الثلاثين
سنة. وأخيراً، لا بد من ذكر إسم
"اللورد آرثر بلفور" مهندس
وعد بلفور الذى صدر فى العام ألف
وتسعمائة وسبعة عشر "1917".
لقد كان "بلفور" من
الألفيين ومن الصهيونيين
المسيحيين، وقد أدت لقاءاته بكل
من "تيودور هرتزل" و"حاييم
وايتزمان" الى ما يقارب
الإنسجام، رغم انه كان معروفاً
بمواقفه المعادية لليهود.
نهاية العالم على
الطريقة الأميركية
انتقلت فى القرن
العشرين الصهيونية المسيحية
الى الولايات المتحدة
الأميركية، ولا سيما بعد إنشاء
دولة اسرائيل وترجمت بعض الآيات
الدينية بعد ان حرفت تفاسيرها
الروحية ترجمةً سياسية مباشرة
صبت بقوة فى دعم دولة اسرائيل.
واستخدم الصهيونيون المسيحيون
الأميركيون وسائل الإعلام
الجماهيرية بشكل منقطع النظير
لنشر أفكارهم وأوهامهم
وأحلامهم ومعتقداتهم.
فإذا أخذنا على
سبيل المثال، نهاية العالم كما
تتصوره الصهيونية المسيحية،
وجدنا فيه بعض الملامح التى
ترافق الغزو الأميركى الحاصل
حاليا على العراق، وقبل ذلك،
بعض الملامح هى رد الإدارة
الأميركية الحالية على أحداث
الحادى عشر من أيلول ألفان
وواحد "2001"، وذلك بشن حملة
إرهاب فى العالم أجمع تصدياً
على حد زعمها للإرهاب الذى
طالها. هذا وإن نهاية العالم على
الطريقة الأميركية الصهيونية
تستند شكلاً على بعض أسفار
العهد القديم، كسفر حزقيال وسفر
دانيال، ومن العهد الجديد على
سفر رؤيا يوحنا، وتستنتج أن
العالم كما نعرفه قد أشرف على
النهاية، وأن ألفا من السنين
سيبدأ بعد هذه النهاية، وهو
يتميز بالسلام ووفرة الخيرات
والأخوة بين الناس، وسيحل
السلام بين الحيوانات أيضاً.
العالم آت الى نهاية - حسب زعمهم-
لا بفعل جنون جنرال أو سياسى
يشعل الحرب النووية، بل لأن هذا
هو قصد الله. نهاية العالم ليست
مدعاة للقلق بنظر "الألفيين"
لأنها تمهد لمجيء المسيح الثاني.
لكن قبل هذا المجيء على بعض
الأحداث أن تقع، إنها "علامات
الأزمنة" أى تبشير العالم،
وعودة اليهود، وإعادة بناء دولة
اسرائيل وظهور "المسيح
الدجال" وموجة من الصراعات.
كل هذا يتوج بمعركة "هرمجدون"
وهى قرية مذكورة فى سفر الرؤيا،
وتقع الى شمال القدس حيث تزج
الأمم الكبيرة فى معركة بين "الحق
والباطل" وعند اقتراب إفناء
العالم يظهر المسيح.
نقطة الارتكاز
اللاهوتية "القدرية"
معظم المسيحيين
الأصوليين هؤلاء، إن لم يكن
كلهم، يسلمون بمذهب "القدرية"
أو كما يسميها البعض أيضاً "التدبيرية".
والقدرية هى محاولة لتفسير
تاريخ علاقة الله بالبشر بأحوال
وأحقاب مخصوصة. يقول "س.أي.سكوفيلد"،
من أكابر الناطقين بهذا المذهب:
"كل قدر دور من الزمان يمتحن
فيه البشر حسبما أوحاه الله من
وحى مخصوص".
ويجمع منظرو
القدرية فى معظمهم على سبعة
أقدار أو حقبات زمنية تدل على
تطور علاقة الله بالبشر، حيث
يمتحن الله الجنس البشرى فى
إطاعة إرادته. "القدر السادس"
من هذه الأقدار هو الحقبة
الحالية، أى "دور الكنيسة
والنعمة"، وينتهى بعودة
المسيح لإقامة مملكته الألفية،
وهذا هو "الدور السابع".إن
هذا المذهب يرتكز على افتراضين:
الإفتراض الأول هو الفصل ما بين
اسرائيل "أى الشعب
اليهودي،شعب الله على الأرض"
والكنيسة "أى شعب الله فى
السماء". أما الإفتراض الثانى
فهو وجوب تفسير الكتاب المقدس
دائماً بطريقة حرفية. وهكذا
يؤدى هذا المذهب الى نتيجتين:
الأولي: أن الأرض هى ملك للشعب
اليهودى والثانية:أن النبوءات
المتعلقة برجوع اليهود فى
الشتات الى الأرض قد تحققت
ثانية فى القرنين التاسع عشر
والعشرين. من هنا نتبيين كم أن
هذا المذهب هو من جهة تحريف
للمسيحية، ومن جهة ثانية
أيديولوجيا سياسية عنصرية.
السفارة المسيحية
والبعد الدولى للصهيونية
المسيحية
إن التأييد
المسيحى الأصولى لإسرائيل
يستند عند الكثيرين كما رأينا
الى "رؤية" للعالم، أو
بالأحرى لنهايته، تفترض تبشير
اليهود. ولكن، هل أن تبشير
اليهود يرضى اليهود؟ وأنا دائما
أسأل هذا السؤال. يبدو أن هذا
الأمر لا يثير مشكلة كبيرة لدى
الساسة الصهاينة، ولو أنه يزرع
الشك فى نفوس بعض المتشددين
اليهود، ذلك أن أولوية كسب
التأييد السياسى لدولة اسرائيل
تغلب الإعتبارات الدينية
الصرفة.
مع ذلك، فإن مواقف
أصولية مسيحية صهيونية، ورغبة
منها بتطمين اليهود، راحت تقول
بعدم تبشير اليهود، بل بالوقوف
الى جانبهم - "تعزيتهم"على
حسب ما جاء فى سفر أشعياء فى
التوراة - 1:40-2 ـ"عزوا شعبى
يقول إلهكم، طيبوا قلب أورشليم
ونادوها بأن جهازها قد كمل".
وأبرز ممثلى هذا التيار وأخطرهم
اليوم هم جماعة "السفارة
المسيحية العالمية فى القدس".
تأسست هذه السفارة فى العام ألف
وتسعمائة وثمانين "1980"
رداً على سحب ثلاث عشرة دولة
سفاراتها من القدس استنكاراً
لإعلانها عاصمة لإسرائيل،
ولهذه السفارة فروع فى خمسين
دولة فى العالم، ولها فى
الولايات المتحدة الأميركية
عشرون مكتباً قنصـلياً. المكاتب
تقوم بعمل دعائى من مختلف
الأنواع، وتجمع المساعدات
المالية والعينية وتسوق
البضائع الإسرائيلية. من نشاطات
"السفارة" المؤتمر الدولى
للقادة المسيحيين الصهاينة
الذى عقد فى بازل "سويسرا"
خلال شهر آب عام ألف وتسعمائة
وخمسة وثمانين "1985" والذى
انتهى الى إصدار بيان، يضيف الى
تكرار المواقف التقليدية
المؤيدة لدولة اسرائيل و "التائبة
عن اللاسامية"، تهنئة لدولة
اسرائيل ومواطنيها على إنجازات
الأربعين سنة الأخيرة، ودعوة
للإعتراف بالقدس عاصمةً
لإسرائيل، وبيهودا والسامرة
"الضفة الغربية" كأجزاء من
أرض إسرائيل، وتحذيراً للأمم
التى تعادى الشعب اليهودي. لقد
أدان مجلس كنائس الشرق الأوسط
هذا البيان بشدة. إن السفارة
المسيحية فى القدس هى مثال واضح
ومفضوح لانحياز التيار المسيحى
الأميركى الأصولى لدولة
إسرائيل، و لتوظيف الدين
توظيفاً مغرضاً فى السياسة.
وهناك عدة أصناف من السلوك تصف
الصهيونيين المسيحيين كأصدقاء
لإسرائيل ومنها: تشجيع الحوار
ما بين اليهود والمسيحيين
ومقاومة معاداة السامية
والتعريف بالأصول اليهودية
للإيمان المسيحى والتركيز
عليها لدرجة تبدو فيها المسيحية
وكأنها إحدى الطوائف اليهودية
والعمل الإنسانى بين اللاجئين
اليهود ومقاومة المواقف
اليهودية "المعتدلة" التى
تسعى الى التفاوض بموجب مبدأ
الأرض مقابل السلام.
الصهيونية
المسيحية فى ميزان الكنائس
الأميركية
تقول الكاتبة "هيلينه
كوبان": "قرأنا جميعا
التحليلات الإخبارية التى تشير
الى ان أقوى دعم سياسى حصل عليه
أرييل شارون فى الولايات
المتحدة الأميركية لم يكن من
الطائفة اليهودية الأميركية،
ولكن من الجمعيات القوية لليمين
المسيحي، هل هذا يعنى أن جميع
المسيحيين تقريبا فى الولايات
المتحدة أصبحوا ضد المصالح
الفلسطينية والإسلامية
والعربية؟ وهل يعنى هذا أن
المجتمع الأميركى على وشك أو
تسيطر عليه الرغبة القوية ليحول
مواجهة دولته مع المجتمع
الإسلامى الى حملات صليبية
عدائية؟"
وتجيب الكاتبة
على هذا التساؤل الذى هو حقا فى
مكانه قائلة:"لحسن الحظ فإن
الحالة داخل المجتمع الأميركى
ليست سيئة لهذا الحد.
فمع ان جمعيات
اليمين المسيحى قوية الا أنها
ليست على وشك أن تسيطر على كل
المجتمع الأميركى ومن المفيد ان
نذكر هنا أن نسبة صغيرة فقط من
المسيحيين الأميركيين تدعم
برنامج الشرق الأوسط للجمعيات
التابعة لليمين المسيحي، غير أن
المشكلة تكمن فى أن اليمين
المسيحى هو فى أفضل درجات
التنظيم، وله تأثير فعال فى
العمل السياسى بينما الطوائف
والجمعيات المسيحية غير
اليمينية ليست بذات التنظيم
الكبير، لكن هذا الوضع يجب أن
يتغير".
ما تقوله هيلينه
كوبان هو عين الصواب. ففى الواقع
تمثل الصهيونية المسيحية عدديا
نسبة ضئيلة ما بين الكنائس
الأميركية، لكنها نسبة فاعلة
جدا، وتقود جماعات الصهيونية
المسيحية جمعيات من
المعمدانيين الجنوبيين "Southern Baptists"، هذا ويشكل
المعمدانيون بمجملهم مع
الكنائس الأخرى ذات التوجه
اليمينى وليس فقط المعمدانيون
الجنوبيون نسبة تبلغ حوالى
الستة عشر بالمئة فقط من السكان.
أما الطوائف
البروتستانتية الأربع الكبيرة
غير المعمدانية أى المثوديست
واللوثريون والمشيخيون
والأنغليكان أو الأسقفيون
فإنها تشكل نسبة خمسة عشر
بالمئة من عدد السكان, ومن
الأهمية بمكان أن هذه الطوائف
الأربع بالإضافة الى الكاثوليك
والطوائف الأرثودوكسية هى
متعاطفة عموماً مع القضية
الفلسطينية وجميعها حتى كنيسة
الميثوديست التى ينتمى اليها
شكلاً الرئيس جورج دبليو بوش قد
أصدرت بيانات نددت فيها بالحرب
على العراق ووصفتها بأنها حرب
لا أخلاقية ولا شرعية ومدانة
مسيحيا.
كيف نواجه
الصهيونية المسيحية؟
إذا كانت الإدارة
الأميركية الحالية يطغى عليها
الصهاينة واليهود، من أعلى
مستويات السلطة الى العديد من
المستشارين، وإذا كان الرئيس
الأميركى الحالى هو أكثر
الرؤساء افتتاناً بالنظريات
الرؤيوية للصهيونيين
المسيحيين، وأكثر بكثير مما كان
عليه الرئيس جيمى كارتر والرئيس
رونالد ريغان، فهل بات تصويب
الأمور أمراً مستعصياً؟ وهل
الصهيونية والصهيونية المسيحية
قدر حتم علينا أن نتلقى ضرباته
ونستسلم "لحق القوة" الذى
ينتصر به على "قوة الحق"؟
كلا!. علينا أن
نقاوم لأننا أصحاب حق ولأننا
أبناء الحق والعدل والسلام.
وكما ان المقاومة اللبنانية
الباسلة قد دحرت الآلة العسكرية
الإسرائيلية الجبارة علينا كل
من موقعه أن يلتزم مقاومته! أجل
، كل منا، الدولة والأحزاب
وهيئات المجتمع المدنى
والكنائس و.. وهنا اسمحوا لى
أيها الأعزاء أن أحدثكم باختصار
شديد بما قام ويقوم به مجلس
كنائس الشرق الأوسط للتصدى
لمشكلة الصهيونية عامة
والصهيونية المسيحية خاصة.
أولاً: لقد وضع
مجلس كنائس الشرق الأوسط فى
أولى اهتماماته الإلتزام
بالقضية الفلسطينية والصراع
العربى الإسرائيلى والحوار
الإسلامى المسيحى فى سبيل إنماء
العيش المشترك لا بل العيش
الواحد. وجميع هذه المواضيع تصب
فى خانة مواجهة الصهيونية أكانت
اسرائيلية أم مسيحية أم غيرذلك.
وهكذا كثف مجلسنا، لا سيما فى
السنوات الأخيرة، عمله بشكل
استثنائى مع الفريق العربى
للحوار الإسلامى المسيحى
بإقامة الندوات المحلية
والإقليمية والدولية لمعالجة
آثار صهينة السياسة العالمية،
وأذكر من هذه الندوات أهمها فقط:
مسلمون ومسيحيون معاً من أجل
القدس، حزيران "يونيو" 1996 ـ
التراث الإبراهيمى والحوار
الإسلامى المسيحي، تموز "يوليو"
1998 ـ العيش المشترك والتوترات
الدينية، آذار "مارس" 2000 ـ
رفع الحصار المفروض على العراق،
تشرين اول "أكتوبر" 2001 ـ
مسلمون ومسيحيون معاً فى مواجهة
التحديات الراهنة، كانون أول
"ديسمبر" 2002 .
هذا بالإضافة الى
لقاءات وتحركات كتلك التى قمنا
بها إبان إصدار القانون
الأميركى المتعلق بموضوع
الإضطهاد الدينى وغير ذلك،
وحينها ذهبت الى الكونغرس لأشهد
على عدم صحة ما تقوله الإدارة
الأميركية من اضطهاد دينى فى
الشرق الأوسط.
ثانيا: أما فى ما
يتعلق بمواجهة الإعلام
الصهيونى الذى يطغى على الإعلام
الغربي، لا سيما فى قضية الصراع
العربى الإسرائيلي، فيحرف
الحقائق ويكوّن رأياً عاماً
منحازاً لإسرائيل، فإن مجلس
كنائس الشرق الأوسط يعمل عبر
قنوات محددة يستطيع من خلالها
مخاطبة الرأى العام الغربى ولو
جزئياً لتصحيح ما أمكن من ملامح
الصورة المشوهة عن أبناء الشرق
الأوسط والمسلمين والإسلام
والعرب. هذه القنوات تتمثل بشكل
رئيسى بشركاء مجلس كنائس الشرق
الأوسط أى مجالس الكنيسة
العالمية والإقليمية والمحلية.
وهكذا فقد تم
تشكيل ما يسمى بمجموعات عمل حول
الشرق الأوسط قمنا بها لكى تكون
موازية فى عملها للسفارة
المسيحية "الصهيونية" فى
القدس وذلك فى عدد من الولايات
فى أميركا الشمالية، وتقوم هذه
المجموعات باستقبال وفود
عربية، وبشكل خاص فلسطينية
لتسمع منها ما يجرى حقيقةً على
الساحة الشرق أوسطية، كما قام
أيضاً مجلسنا بدعوة وفود من
معظم تلك المجالس الكنسية
لزيارة بلدان الشرق الأوسط
للتعرف عن كثب على حقيقة
واقعنا، وهكذا أصدرت تلك الوفود
الغربية بعد عودتها بيانات
وجهتها ليس فقط الى أبناء
كنائسها، بل أيضا الى جميع
مواطنيها، وتضمنت صورة مختلفة
أقله جزئياً عن تلك التى يحملها
الرأى العام الغربى عما نحن
عليه فعلا وعما نريده من حق وعدل
وسلام. وكمثال عن هذه الوفود
هناك خمسون أميركياً جاؤوا
تقريبا منذ سبعة أشهر الى هنا،
عدد كبير منهم كانوا من الجماعة
الإنجيلية لا يعرفون أين هم مع
اليمين المسيحى المتطرف أم
المعتدل، هؤلاء بعد زيارتهم
يوما كاملا برعاية المقاومة
اللبنانية فى ذلك الوقت وبعدما
رأوا وسمعوا قالوا "هل نستطيع
أن نبقى فى الجنوب لثلاثة أيام؟"
وعادوا بفكر مختلف تماماً عما
صور لهم قبل مجيئهم الى لبنان
وقبل ذهابهم الى الجنوب. أريد أن
أقول البعض حذرهم ليس فقط من
الذهاب الى الجنوب، بل المجيء
الى لبنان، وأنهم قد يقومون
بقتلهم لأنهم إرهابيون ومجرمون.
هذه الصورة تغيرت. نحن نريد
أشخاصاً هكذا ليعلموا الغير ما
يحدث فعلاً ويصححوا الصورة
المشوهة.
أخيراً لا آخراً
وفيما يتعلق بالصهيونية
المسيحية بالذات، فلقد أدرك
مجلس كنائس الشرق الأوسط تمام
الإدراك خطورة هذا التيار ليس
فقط على القضية الفلسطينية بل
أيضا على العلاقات الإسلامية
المسيحية، وعلى المسيحيين
الشرقيين.
وهكذا كان مجلسنا
أول من أدان المؤتمر الصهيونى
الذى عقدته السفارة المسيحية فى
نيسان "أبريل" من عام ألف
وتسعماية وخمسة وثمانين
"1985"، والذى ذكرناه سابقاً
ومما جاء فى بيان اللجنة
التنفيذية لمجلس كنائس الشرق
الأوسط: "إننا ندين سوء
استعمال الكتاب المقدس
والتلاعب بمشاعر المسيحيين فى
محاولة لتقديس إنشاء دولة من
الدول وتسويغ سياسات حكوماتها".
وقد ألّف المجلس
فريق عمل خاصا بالصهيونية
المسيحية، وأصدر فى العام ألف
وتسعمائة وثمانية وثمانين
"1988" كتيباً باللغة
الإنكليزية يعرف بهذا التيار
ويفند مزاعمه ويفضح أطروحاته
ويدين أهدافه المشبوهة. ولقد
صدرت ترجمة هذا الكتيب الى
العربية فى العام واحد وتسعين
"1991" وقد نفدت هذه الطبعة
ونعمل على إصدارها من جديد.
خلاصات مهمة
ختاماً أود
التاكيد أمام حضرتكم على
المسائل التالية:
أولاً: إن ما يسمى
بالصهيونية المسيحية لا يمت
بصلة الى المسيحية بجميع
كنائسها وطوائفها. إنها اقتناص
للمسيحية لوضعها رهينة فى خدمة
مصالح الصهيونية، وهى تشويه
مشبوه الغايات لبعض ما جاء فى
أسفار الكتب المقدسة.
ثانيا: إنها
مؤامرة حيكت ضد المسيحيين عامةً
فى العالم والمسيحيين العرب
خاصة، فهى تضرب كل مشروع حوارى
ما بين المسيحية والإسلام،
وتبرر أطروحات صراع الحضارات
والأديان، ولا سيما المسيحية
والإسلام، وهى تستهدف ضرب العيش
المشترك الإسلامى المسيحى فى
دنيا العرب، ذلك العيش الذى
مارسناه معاً وما زلنا بحلوه
ومره منذ بداية الإسلام وحتى
أيامنا هذه وبدون انقطاع.
ثالثاً : إن هذا
الأمر يطرح علينا جميعاً تحديا
كبيرا وهو بناء الوعى الذى يمنع
تزييف الدين واستخدامه فى تبرير
سياسات الظلم والعدوان أو إضفاء
القدسية على أحلام وأوهام مدمرة.
رابعاً: ولما كان
منظمو هذه الندوة قد وضعوا
لمحاضرتى هذه ،عنوان:"صهيو
مسيحية أو صهيو أميركية؟"
فلعلنى بحديثى هذا قد أجبت على
هذا التساؤل، وإذا ما استعدت ما
قلته ووضعته فى جملة أو جملتين،
فإنى أقول الصهيونية والمسيحية
نقيضان، كما العنصرية
والاصطفاء والاستعمار
والاستكبار والظلم على نقيض مع
المحبة والتواضع والأخوة
والعدل والحق والسلام. أما أن
تستخدم الصهيونية الأميركية
المسيحية قناعاً ووسيلة
وتبريراً لمشاريعها فإن هذا
الأمر حاصل للأسف اليوم فى
أميركا ويمكن لا سمح الله أن
يحصل فى أى بلد آخر. الكلمة
الفصل فيما يعنينا نحن
المسيحيين هى قول السيد المسيح"من
ثمارهم تعرفونهم".
خامساً وأخيراً :
ولما كنا فى هذه الأيام العصيبة
نعيش مأساة أهلنا فى العراق
ونخشى أن تطال هذه المأساة شعوب
منطقتنا.
كما نخشى أن تعطى
لهذا الصراع أبعاد ليست هى
أبعاده الحقيقية كالحرب
الصليبية، أنوّه هنا بالتقدير
لجميع قيادات بلدنا سياسيين
ودينيين الذى يعملون على تعميق
الوحدة الوطنية والتضامن
والتصدى لانحرافات محتملة قد
تفسد وحدتنا وتضامننا، وأخص
بتقديرى زعيم المقاومة
اللبنانية الذى قال منذ أيام
امام عشرات آلاف اللبنانيين:"لنفتش
عن شعار آخر لهذه الحرب
الأميركية على العراق غيرالحرب
الصليبية".. أجل ، لنفتش معاً
عن الشعارات الحقيقية لهذه
الحرب، التى كشفت الوقائع
ظلمها، ولنعمل معاً لرد هجمة
"حق القوة"، ولنصرة "قوة
الحق"، وإن الله الذى هو على
كل شيء قدير لسميع مجيب.
*الدكتور
القس رياض جرجور، الأمين العام
لمجلس كنائس الشرق الأوسط
ـ
ألقيت هذه الكلمة، تحت عنوان
"صهيو مسيحية أم صهيو
أميركية؟"، فى ندوة فكرية فى
مركز الإمام الخمينى الثقافى ـ
بيروت، فى 8 نيسان "أبريل"
2003 ونشرت مع كلمات ومحاور أخرى
فى كتيب خاص ضمن سلسلة الندوات
الفكرية التى يصدرها وينشرها
المركز.
المقالات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|