إيران
نالت العراق «هدية» ...
وسورية
تتخبط في أخطائها
نيويورك
- راغدة درغام
تشكل
إيران وسورية قطبين رئيسيين في
بوصلة القلق والاهتمام
الدوليين، لأسباب مختلفة
تماماً من ناحية نوعية الاهتمام
ومصادر القلق. كلاهما على عتبة
المواجهة، من مكانتين
مختلفتين، اقليمياً ودولياً.
فطهران في مقعد القيادة، تملك
زمام المبادرة، وتتوسل اليها
القيادات الاوروبية وتتمنى
عليها الادارة الاميركية ان
تكون عاقلة ومتعاونة.
بالمقارنة، دمشق في المقعد
الخلفي في انتظار الاحكام، تقع
في عزلة دولية واقليمية، غائبة
عن محل في الاعراب على الخريطة
السياسية العربية والشرق
أوسطية. القاسم المشترك بين
الاثنين هو لبنان والعراق
باستراتيجيات تكاد تكون
متناقضة ومن موقع يبرز ايران
دولة أهم وأقوى من الدول
العربية كلها معاً ويضع سورية
في مرتبة التطاول على الأهمية
عراقياً ولبنانياً معاً. الأيام
المقبلة ايام شد الحبال وشد
الأحزمة. والاسابيع المقبلة
ستضع مسودة خريطة جديدة للمنطقة.
والأشهر المقبلة ستتوج ايران
المنتصر والمستفيد الأكبر من
الحرب الاميركية في العراق ليس
من ناحية نفوذها في داخل العراق
وحسب وانما لجهة احتفاظها
بالقدرات النووية. هذه الأشهر
ستثبت ايضاً ان القرارات الكبرى
للمنطقة خرجت كلياً من الأيدي
العربية، بعضها بسبب اخطاء
فادحة ارتكبها القادة العرب
كالانظمة الأمنية العربية،
وبعضها لأن لغة الفاعلين الكبار
في منطقة الشرق الأوسط لا تشمل
اللغة العربية بل باتت محصورة
في ايران واسرائيل وتركيا.
أحاديث
الرؤساء والوزراء على هامش
القمة والدورة الستين للجمعية
العامة للأمم المتحدة انصبت على
ايران في حضورها على مستوى
الرئيس محمود أحمدي نجاد، وعلى
سورية في غيابها عن القمة.
الكلام عن ايران كان «نووياً»
وعن سورية «تحقيقياً» نتيجة
ارتباطه بالتحقيق الدولي
المستقل الذي يترأسه قاضي
التحقيق الألماني ديتليف ميليس
بهدف التعرف الى هوية المتورطين
في اغتيال رئيس الوزراء
اللبناني السابق رفيق الحريري.
تجنب القادة العرب في الجلسات
الخاصة اصدار الأحكام المسبقة
على التحقيق بشقه اللبناني أو
بشقه السوري. لكنهم كانوا
واضحين تماماً بأن لا مجال لـ «غطاء»
عربي لأي كان اذا أثبت ميليس انه
تورط باغتيال الحريري. فاذا دان
التحقيق شخصاً أو جهازاً أمنياً
أو نظاماً سياسياً، فلن يكون في
وسع أي قائد عربي، أو مسلم، ان
يتحدى الادانة بل سيكون عليه ان
يعلن على الملأ انه مع محاكمة من
اقترف الجريمة. وهذا ما قاله
القادة لبعضهم بعضاً ولآخرين في
الجلسات المغلقة.
أهمية
هذا الكلام ان لا مجال لتسييس
نتائج التحقيق، لا باسم العروبة
ولا باسم العداء لها، لا باسم
مخطط اسرائيلي ولا باسم نيات
اميركية مبيتة. فهذه جريمة
اغتيال رئيس وزراء أدرجها مجلس
الأمن، بالاجماع، في خانة العمل
الارهابي وكلف التحقيق فيها
محترفاً أعطاه ولاية لا سابقة
لها في القرار 1595. كل العرب
يعتبرون ذلك القرار ملزماً.
وحتى ايران، التي لها خيوط
ممتدة مع سورية وعبرها الى
لبنان، تدرك تماماً ان لا مجال
للأخذ والعطاء في استنتاجات
تحقيق ديتليف ميليس عندما يقدم
الأدلة والاثباتات. فايران
معنية بصورة مباشرة بالقرار 1559
الذي يطالب بنزع سلاح «حزب الله»
والميليشيات الأخرى اللبنانية
وغير اللبنانية، وذلك نظراً الى
علاقتها مع «حزب الله»، لكن
ايران غير معنية بالقرار 1595،
ولا تريد أن تكون ذات علاقة
مباشرة معه.
ماذا
سيحدث اذا ما أثبت ديتليف ميليس
ضلوع سورية في اغتيال رفيق
الحريري؟ هذا سؤال طرحه
الكثيرون من الذين شاركوا في
القمة وفي الجمعية العامة للأمم
المتحدة وأتت الاجوبة عنه
مبعثرة. الفكرة تشغل القادة
العرب، بعضهم أدرك فجأة ان عليه
التفكير بالأمر، وبعضهم سارع
الى التمييز ين محاكمة أشخاص
ومحاكمة نظام، وبعضهم توقع صفقة
اللحظة الأخيرة، وبعضهم تحدث عن
التحضير في عواصم غربية لمرحلة
ما بعد حكم البعث في دمشق
بمساهمة ملفتة من أطراف وشخصيات
سورية. ما لم يأت على لسانهم هو
حديث «التضامن»، فلا أحد يريد
ان يبدو وكأنه يصطف ضد التحقيق
الدولي. بهذا، تم هذا الاسبوع
تحييد العروبة عن التحقيق
الدولي في اغتيال الحريري. حدث
هذا في الوقت الذي بات واضحاً ان
الشارع العربي ليس في وارد
الانسياق الى «التضامن» في
مسألة من هذا النوع. حتى الكلام
عن «أجندة» المحافظين الجدد
الذين ضمروا العداء لسورية لن
يعود مقنعاً للرأي العام العربي
اذا جاء التحقيق بأدلة واثباتات
على تورط مسؤولين سوريين في هذه
الجريمة.
وللتأكيد،
الكل شدد على ضرورة الوقوف الى
جانب الشعب السوري وحمايته من
الانزلاق الى مطبات. الكل شدد
على ضرورة منع تحوّل سورية الى
عراق. الكل بحث عن سبل ضمان عدم
معاقبة سورية البلد حتى اذا
أثبت التحقيق تورط سورية النظام.
فاستقرار سورية يستحوذ على قدر
مهم من البحث والاهتمام بين
القيادات الدولية والاقليمية.
وهناك تصميم على ألا تقع سورية
في أيدي التطرف الديني أو في حال
فوضى وانقسام. هناك عزم على عدم
التسرع الى استبعاد عناصر قد
تكون ضرورية في المرحلة
الانتقالية، اذا أدى التحقيق
الى استنتاجات فرضت تنحي النظام
الحالي في دمشق.
اسرائيل
تتمنى تفكك سورية وانزلاقها في
فوضى على طريق التقسيم، وهي
عملت لهذا الهدف وفشلت الى ان
ارتكبت دمشق اخطاءها الفادحة
بدءاً بالاصرار على فرض ولاية
أخرى لرئيس الجمهورية
اللبنانية اميل لحود رغم أنف
اللبنانيين. لذلك فإن ذنب
القيادة السورية على جنبها.
حسابات
القيادة السورية الخاطئة لم
تقتصر على لبنان وانما شملت
العراق أمس واليوم. فلو لم تدخل
سورية شريكاً للدول العربية
وللولايات المتحدة في حرب
الخليج الأولى لربما بقي العرب
طرفاً في موازين القوى
الاقليمية وفي الموازين
النووية. سورية كانت تدرك
تماماً ان دخولها هي بالذات
شريكاً في تلك الحرب كان عبارة
عن نسف العراق من المعادلة
العسكرية مع اسرائيل. فعلت ذلك
لأنها كانت تعتقد ان ايران هي
حليفها.
اليوم،
وحسب مطلعين على العلاقة
الايرانية - السورية في اطار
العراق، هناك خلاف ايراني - سوري
وأجندة مختلفة لايران في شأن
العراق. سورية تشجع المعارضة
المسلحة كي تفشل التجربة
الاميركية في العراق وكي يفشل
العراق في خوضه الشراكة مع
الولايات المتحدة. وبالتالي،
فانها تدعم فشل العراق.
بالمقابل،
تشجع ايران نجاح التجربة
الاميركية في العراق لأنها، بلا
شك، في المصلحة الايرانية.
حرب
العراق الثانية، ببعدها
الخارجي، قد تكون حُسبت،
جزئياً، لمصلحة اسرائيل، لكنها
بالتأكيد بالقدر نفسه من
الاستفادة الايرانية. فالورقة
العراقية اليوم هي بين أهم
الأوراق الايرانية بعدما بات في
العراق حكم موالٍ لطهران وبعدما
بات لايران وجود على الأرض
العراقية، وبحماية اميركية -
بريطانية. وزير الخارجية
السعودي الأمير سعود الفيصل
صارح كبار النخبة الأميركية في
لقائه مع «مجلس العلاقات
الخارجية» في نيويورك عندما قال
لهم: ان الايرانيين موجودون
الآن في العراق بشكل واسع... وان
الأماكن التي يتم تأمينها من
قبل الأميركيين والبريطانيين
يدخل اليها الايرانيون ويقدمون
الأموال والسلاح للميليشيات.
قال لهم: لقد دخلنا حرباً معاً
لنمنع الايرانيين من دخول
العراق، وها أنتم تسمحون لهم
بدخول العراق من دون حرب.
ايران
في العراق اليوم بما يتعدى
التصور الأميركي وامساك
الادارة الاميركية بزمام أمور
مستقبل العراق. ايران اصبحت
فاعلة دائمة فيما اميركا مؤثرة
عابرة في العراق. أكان ذلك بقرار
اميركي متعمد، أو كان نتيجة
أخطاء اميركية، أصبح العراق
الآن راسمالاً رئيسياً لايران،
استراتيجياً، ونفطياً،
ونووياً، وزعامة اقليمية.
فاليوم، وبفضل اميركا التي دعمت
صدام حسين في حرب الزعامة ضد
ايران وسلحته وجعلته يثق بأنه
صديق اميركا المفضل، خاضت
اميركا حرب اطاحة صدام وقدمت
الى حكام ايران (أبناء ثورة
الخميني) العراق والزعامة
الاقليمية معاً على طبق من ذهب.
ايران،
وبغض النظر عمن يحكمها، تُحسن
فن الحكمة والحذاقة السياسية
وعلم التفاوض. لذلك لن تقع
مواجهة عسكرية بين ايران
والولايات المتحدة. لن تُفرض
عقوبات اقتصادية بقرار لمجلس
الأمن الدولي ضد ايران. لن تتخلى
ايران عن أبحاثها وقدراتها
النووية. ولن تضرب اسرائيل
المفاعلات النووية الايرانية
كما ضربت المفاعل العراقي قبل
عقدين.
ايران
تملك ورقة النفط ليس فقط من
ناحية الأسعار وانما أيضاً من
ناحية الاحتياجات النفطية لكل
من الصين والهند في عهد العظمة
غير التقليدية للدول. انه حلف
الحاجة. وايران تتحالف مع
الشاري الصيني للنفظ من دون ان
تتعارك مع المفاوض الأوروبي
الذي يتوسل اليها عدم التصعيد.
انها تفهم حسابات خط الرجعة مع
الاميركي الذي مهد لها نصب نظام
في العراق هو لصالحها الآن
وغداً. لكن ايران تدرك ايضاً ان
هناك أخذاً وعطاء في المعادلة
السياسية الدولية وانه لا بد من
وضع ثوابت لا تخلي عنها وقضايا
أخرى قابلة للتضحية بها. ايران
تضع القدرة النووية والعراق
والنفط في المرتبة الأعلى.
اختلافها مع اسرائيل يمكن
الاستمرار به اما للاستهلاك في
ما يخص المسألة الفلسطينية او
العربية أو بسبب اختلاف مبدئي
وجذري لا ضرورة لتفجيره. لكن
الخط الأحمر هو التعدي على
ايران. فاذا قدمت أوروبا
واميركا الضمانات لمنع اسرائيل
منعاً باتاً من ضرب ايران، فإن
طهران ستستعد للتخلي عن ورقة «حزب
الله» في لبنان.
فهذه
أضعف الحلقات في الأوراق
الايرانية الثمينة، وهي الثمن
الضروري للصفقة الأكبر. العراق
هو المحرك الأساسي حيث لايران
أكبر نفوذ وتأثير وحيث قبضت
طهران على أعناق الادارة
الاميركية. انه الجائزة التي
قدمتها الولايات المتحدة
وبريطانيا الى ايران، والتي
حولتها طهران درعاً أساسية في
حماية قدراتها النووية.
أصبحت
ايران لاعباً نووياً وباتت
واقعاً لا مجال للآخرين سوى
الاستعداد للاعتراف به لاحقاً.
العرب الذين خاضوا الحروب عبر
العراق ومعه وفيه، بذريعة أو
بأخرى، يجدون أنفسهم اليوم في
اشتكاء وشكوى وعتب وتذمر في
صفحة أخرى من سيرة الذهول
والخوف والخيانة.
صفحات
الغد آتية بمفاجآت تحاكم كل
الذين اتخذوا من الحروب
والاغتيالات نمطاً في صنع
التاريخ العربي الهزيل اما باسم
البقاء في السلطة أو من أجل
الزعامات أو ثمناً للأمن
المستورد.
الحياة
- 23/09/2005
المقالات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|