ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الاثنين 24/10/2005


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

واحة اللقاء

 

إصدارات

 

 

    ـ أبحاث

 

 

    ـ كتب

 

 

    ـ رجال الشرق

 

 

المستشرقون الجدد

 

 

جســور

 

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


"ربيع دمشق"

يسبق "خريف" الضغوط الأميركية

الوجه الآخر لسوريا

سعاد جروس

«ربيع دمشق» المنتظر منذ العام 2000, بدأت تظهر ملامحه في سوريا بعيدا عن «خريف» الضغوط السياسية التي تمارسها واشنطن على دمشق.

فالانفتاح التدريجي الذي شهدته سوريا منذ خمسة اعوام, لم يكن مرتبطا بالسياسة, بقدر ما كان ملموسا في الحياة الاجتماعية والاقتصادية اليومية. فالانتفاضات الاجتماعية في سوريا, طاولت قطاعات مختلفة, منها الغاء الزي العسكري في المدارس, وافتتاح جامعات خاصة, وإنهاء احتكار الدولة والالتحاق بثورة الانترنت وفتح منابر اعلامية خاصة اكثر تحررا من اعلام الدولة الرسمي.

ماذا ايضا في «ربيع دمشق»؟

الساعة تقترب من الحادية عشرة ليلاً. ازدحام شديد من البشر, لا يوجد فراغ أو متنفس في الشارع الممتد من الجامع الأموي إلى حي القيميرية في دمشق القديمة, حيث مقهى النوفرة الشعبي الشهير ومقهى الشام ودكاكين الوجبات السريعة والمثلجات محشورة بين محلات التحف والشرقيات؛ الكتف إلى الكتف شباباً وصبايا من مختلف الجنسيات احتلوا كراسي الخيزران المتلاصقة حول طربيزات معدنية صغيرة تكاد لا تظهر بين الحشد, ولولا تشدد أمانة محافظة دمشق وإلزام أصحاب المقاهي والمحال بمساحة معينة لا يمكن تجاوزها, لما بقي مكان لعبور المارة.

مشهد يذكر بأزمة النقل الداخلي قبل صدور قانون الاستثمار الرقم عشرة العام 1991, مع فارق أن ازدحام المقاهي والمطاعم اليوم يجري تحت وطأة الإقبال على الترفيه, في حين كانت عجقة الناس على مواقف الباصات بفضل احتكار الدولة لقطاع النقل ولم تترك للناس سوى الأرصفة والشوارع ليزدحموا فيها.

الاكتظاظ لا يقتصر على المقاهي والمطاعم الشعبية أو الأمكنة السياحية, بل يشمل المطاعم الفخمة المنتشرة في دمشق وريفها صيفاً شتاءً, وبالأخص أيام الخميس والجمعة والأحد من كل أسبوع, بالإضافة إلى أيام الأعياد, حتى ليخيل لنا أن سوريا خارجة للتو إلى الحياة. اللافت الهجمة الواسعة للمطاعم وأمكنة السهر من مقاه وبارات في دمشق وريفها, حتى لتزيد على 1300 محل, منها حوالى 900 في دمشق لوحدها, تتوزع بين 270 مطعماً شعبياً و350 مطعم وجبات سريعة, والباقي يتراوح تصنيفها بين 3 5 نجوم كتلك التي راحت تنشأ في منطقة الصبورة, مع ظاهرة انتشار المطاعم ذات الطابع العائلي المحافظ بكثافة غير مسبوقة. ففي السنوات الأخيرة ظهرت المطاعم الضخمة ذات المساحات الكبيرة على طريق المطار ترتادها الطبقة الثرية وفوق المتوسطة, ومنها ما يتسع لأكثر من 3000 شخص, وتتطلب حجزاً مسبقاً, خصوصاً في الصيف, مثل نظيراتها في صيدنايا وعين الخضرا وعين الفيجة والربوة ودمر والزبداني وبلودان والديماس, وغالبية زبائنها من السياح الخليجيين والعائلات السورية المتوسطة الدخل, فيما يفضل غالبية الشباب ومحبي دمشق القديمة من السياح مطاعم مدحت باشا والقيميرية وباب توما المتوالدة كالفطر في السنوات الأخيرة داخل رقعة صغيرة, حتى تجاوز عددها أربعين مطعماً ومقهى وباراً, افتتحت في بيوت دمشقية تم ترميمها وتجهيزها وفق أنماط شرقية بلمسات غربية حديثة.

صورة جديدة

ولم يعد من الغريب رؤية الرئيس بشار الأسد مع عقيلته وضيوفه الشخصيين في مطاعم باب توما, فقد حرص الرئيس بعد تسلمه الرئاسة العام 2000, على حضوره في الأمكنة العامة كأي مواطن آخر, مكرساً انطباعاً عن تواضعه وحبه للتجوال بين الناس وتبادل الحديث معهم, محطماً الصورة النمطية المتجهمة عن المسؤول السوري الرفيع, البعيد عن العين والقلب معاً, من هؤلاء الذين اعتادوا أثناء ارتيادهم لمطاعم دمشق القديمة إغلاق مداخل الحارات ونشر مرافقين فيها. لذا كان ظهور الرئيس مع عقيلته في المطاعم والمسارح, دون إجراءات أمنية ظاهرة أحد الملامح الجديدة في الحياة السياسية ببعدها الاجتماعي, فنسمع السيدة أسماء تتحدث لضيوفها عن جمهور مسرحية «فوضى» أو ملاحظاتها عن غياب الحوار في مجتمعنا حتى بين أفراد الأسرة كما تراهم في السيارين والمنتزهات, ولم يعد من المفاجئ زيارتها لأي مدرسة دون علم الإدارة المسبق, والجلوس مع الطلبة في الباحة وعلى الأرض. هذا السلوك للرئيس وعقيلته أحدث صدى طيباً لدى الناس. فمارلين مثلاً كتبت تخبر أعضاء المنتدى الإلكتروني المشتركة به عن حضورها مسرحية «الخيل والهيل» في 15حزيران -يونيو- الماضي: «كانت مفاجأة كبيرة للحضور رؤية الرئيس الدكتور بشار وعقيلته السيدة أسماء بابتسامتهما الجميلة المشرقة يدخلان إلى مسرح الأوبرا في دار الأسد للثقافة والفنون لحضور اللوحة الغنائية الراقصة لفرقة أورنينا. بعد انتهاء العرض تقدم أعضاء الفرقة من الرئيس وعقيلته فصافحهم وأثنى على أدائهم بكلمات لطيفة, ثم صافحا العديد من الحضور أثناء مرورهما وتحدثا مع البعض الآخر, ليغادرا بسيارة -أودي- سوداء جميلة وبسيطة جداً قادها الرئيس». وتتابع مارلين: «حضرتني صورة سيارة الرئيس لدى عودتي إلى ساحة باب توما ومشاهدة السيارات الفخمة جداً جداً ذات اللوحات الدالة على مناصب أصحابها ونفوذهم والذين يشرفوننا بحضورهم كل مساء في مطاعم دمشق القديمة».

أيام القحط

المجتمع السوري الذي أجاد التعامل مع مختلف الظروف, مصرّ على عشقه للحياة, فحسب المشهد العام في الشارع, وبعيداً عما تتداوله النخب السياسية والثقافية من قضايا التضييق الخارجي والضغوط الأميركية وفرض الحصار, لا يبدو مهتماً كثيراً لما تنقله نشرات الأخبار, بل تواق إلى استغلال ساعات البسط من الانفراجات التي تحدث داخل البلاد. وخلال السنوات الخمس الأخيرة أشياء كثيرة تغيرت, ولن يتخيل من اكتوى بحرمانات الأزمة الاقتصادية في الثمانينيات وسياسة الاكتفاء الذاتي والتقشف التي فرضتها الحكومة آنذاك, أن يوماً سيأتي تصبح فيه أيام القحط مجرد حكايات تروى للأبناء, حين كان الناس يصطفون في طوابير طويلة أمام المؤسسات الاستهلاكية للحصول على ليتر زيت, أو علبة سمنة وكيلو سكر او غيرها من مواد التموين الأساسية. أما المناديل الورقية التي تغرق معاملها اليوم سوريا, فكانت من جملة الأشياء النادرة المهربة من لبنان كالمعلبات والموز, ويحتفظ بها في الخزائن ويقفل عليها بالمفتاح, لا تخرج إلا من اجل الطفل المدلل والضيف العزيز.

تلك المشاهد تفرض نفسها على المواطن السوري الذي وعى عناء تلك الفترة لدى زيارة الأسواق الحرة التابعة للقطاع الخاص في مطار دمشق الدولي وعند معابر الحدود مع لبنان والأردن وتركيا وفي ميناء اللاذقية, ورغم أنها مخصصة للمغادرين والأجانب إلا أن معظم زبائنها من السوريين, وبالأخص أكبرها الواقعة في جديدة يابوس. فمنذ افتتاحها استقطبت كثيراً من السوريين ممن كانوا يقصدون لبنان لشراء البضائع الأجنبية كل يوم جمعة, بالإضافة إلى المجمعات التجارية الضخمة التي افتتحت في دمشق مثل السيتي مول في «المزة» ويعتبر صغيراً قياساً إلى الـ«تاون سنتر» الذي افتتح منذ حوالى العامين على أوتوستراد درعا, في بناء من ثلاثة طوابق بمساحة سبعة آلاف متر مكعب, الطابق الأرضي يحوي على اكبر سوبر ماركت في سوريا, تتكدس فيها البضائع المستوردة من الدول العربية التي وقعت مع سوريا اتفاق تجارة حرة, كالسعودية والإمارات ومصر. بالإضافة إلى فروع شركات سورية جلها حائز وكالات عالمية. وزائر تلك السوق الواقعة خارج مدينة دمشق ليلة الخميس ويوم الجمعة, لن يجد مكاناً في مرآب السيارات الفارهة السورية والعربية, المتوقفة هناك حتى ساعة متأخرة من الليل موعد إغلاق السوق, في مشهد عولمي جديد لم تألفه مدينة دمشق ولا غيرها من المدن السورية ذات الأسواق الشعبية الشهيرة, والتي لا تزال ذاكرة محظوراتها طرية, بدءاً من منع الاستيراد, وحتى منع الأسماء الأجنبية أو الكتابة على لافتة المحال بأحرف لاتينية!! والتغير الذي يهب على المجتمع السوري يتجاوز سيل الأسماء والأحرف اللاتينية إلى إيقاع مواسم التسوق المرتبطة بالأعياد الدينية وافتتاح المدارس, تبدل اليوم ليرتبط بمواعيد التنزيلات وفق ما تحدده الشركات العالمية, هذا بالإضافة الى دخول مصطلح «الشوبنغ» إلى الحياة السورية, عبر بوابات المجمعات التجارية الحديثة, كواحد من طقوس الاستهلاك المعاصر. ففي الـ «تاون سنتر» نرى سيدات المجتمع المخملي من المحافظات يتجولن وقد اصطحبت كل واحدة منهن خادماتها من الاندونيسيات ليساعدنها في ضبط الأطفال أو في جر المشتريات. لكن المشهد يتبدل قليلاً في الطابق المخصص للألبسة الجاهزة, حيث يلحظ إقبال مجموعات من الشباب على ألبسة من الماركات العالمية المصنعة محلياً, ويقلبون الألبسة وكأنهم في رحلة سياحية.

رغم الولع الشبابي بالمستوردات الغربية, إلا أن ذلك لم يلغ خصوصية السوق السورية التي سعت منذ حظر استيراد ما يمكن تصنيعه محلياً إلى الحصول على امتيازات عالمية, لتوفير بضائع مصنعة من مواد خام محلية بأسماء شهيرة تتناسب إلى حد ما مع الدخل المحلي. لم يعد هناك حاجات استهلاكية يحتاج اليها السوري من الخارج, بل هناك من يفضل المنتج المحلي, ويخشى عليه من تدفق البضائع العربية والأجنبية المتوقع أن تغرق الأسواق في حال توقيع اتفاقية الشراكة مع أوروبا. بعد أن اعتاد السوريون على تلبية حاجاتهم بأسعار تناسب قدرتهم الشرائية, لم يظهروا الارتياح لتدفق الكوكاكولا إلى أسواقهم, بعد طول حظر بسبب وضعها على قائمة المقاطعة, وسابقاً فشلت مطاعم كنتاكي فشلاً ذريعاً حين افتتحت فروعاً لها في دمشق, إذ لم يكن مستساغاً نكهة عالمية خالصة دون مراعاة للذائقة المحلية. في حين اثبتت شركات الألبسة الجاهزة السورية الحائزة علامات تجارية عالمية نجاحاً لافتاً, ليتجاوز عدد الامتيازات الدولية الـ24 امتيازاً, خلال السنوات الأخيرة مثل اديداس وبنتون وكيكرز ولاكي مان وبيست ماونتن ومارينا وبيير كان وناف ناف ولا روسيو كاسوتشي وستيفانيل وام جي وآزارو وبريمر وإيل... إلخ. وتنتشر فروعها في مختلف أنحاء دمشق والمحافظات الأخرى, وترفع التنافس مع الماركات الأخرى محلية الصنع التي لا تقل جودة وشهرة عنها, مثل أزياء الـ 400 وآسيا والقاضي والرضائي... إلخ.

خطوات متتالية

القرار بتبني اقتصاد السوق واستلهام بعض من النموذج الصيني, وشيء من التجربة الماليزية, قلص أو ربما ألغى قائمة المحظورات الاقتصادية, وبدأت الخطوات تتوالى تباعاً, لكن بتعثر بعد تأخر طال.

ورغم التصعيد الاميركي ضد سوريا الذي بدأ خلال السنتين الأخيرتين مع اشتداد الحصار على سوريا, وفرض العقوبات الأميركية في محاولة لعزلها بعد الحرب الأميركية على العراق, إلا أن خطوات الانفتاح الداخلي بقيت على وتيرتها, فسُمح بعمل البنوك الخاصة بعد أربعين عاماً من تأميم القطاع المصرفي. واتخذ بنك بيمو السعودي الفرنسي موقعاً في شارع 29 أيار وسط دمشق قريباً من البنك المركزي بمواجهة فرعي البنك الصناعي والبنك التجاري, وكان أول بنك خاص يبدأ في العمل بداية العام 2004. بينما اختار بنك سوريا والمهجر موقعاً له في الحريقة أم الأسواق السورية وتجمع البرجوازية الدمشقية. أما بنك لبنان والمهجر فاختار المنطقة الحرة, للافادة من تسهيلات مصرفية إضافية, كما رخص للبنك العربي الأردني. وفي آذار -مارس- الماضي أقرت الحكومة السورية مشروع قانون إحداث المصارف الإسلامية بهدف اجتذاب المدخرات المالية وتمويل المشاريع التنموية, وحدد القانون رأس مال التأسيس بـ100 مليون دولار كحد أدنى, وكان بنك قطر الإسلامي وبنك التنمية الإسلامية ودلة البركة السعودية أول المتقدمين بطلبات ترخيص. بالتوازي مع ذلك استمر تطوير العمل في البنوك العامة. وسجل البنك التجاري العديد من التغييرات, ليتمكن من منافسة البنوك الخاصة, فتم تعديل ساعات الدوام, ضمن توجه لتحديث العمل المصرفي, فبُدئ بتعديل سعر الصرف منذ كانون الثاني -يناير- 2001, ليعكس القيمة الحقيقية لليرة السورية, فهبط الفارق بين سعر الصرف في البنوك والسوق السوداء, كما وضعت خطة لتغيير القوانين المصرفية لتصبح اقرب إلى أنظمة منظمة التجارة العالمية, وجرى إصدار بطاقات ائتمان, لم تكن متوافرة إلا عبر البنوك الخارجية, ويجري العمل الآن على تنفيذ مشروع للسرية المصرفية, وإنشاء سوق للأوراق المالية. وعلى صعيد التجارة, كان الحدث الأبرز إلغاء حصر استيراد السيارات وتخفيض أسعارها, وكان واحداً من الأحلام السورية صعبة التحقق, لتنتشر بكثافة عند مداخل دمشق معارض السيارات الحديثة على الجانبين. وينتظر مع بداية العام المقبل, ولادة أول سيارة صناعة محلية في معمل سيارات انشئ بالتعاون مع إيران.

«برستيج» انفتاحي

مهما كانت الملاحظات على التحول الجاري, لا يمكن تجاهل انعكاساته على إيقاع الحياة اليومية السورية بدفعها باتجاه مظاهر أكثر ديناميكية وانفتاحاً, إذ بدأت بفكفكة تدريجية لقبضة الدولة المتكلسة حول العديد من المجالات, وفتحت الأبواب أمام تقدم القطاع الخاص لإدخال التقنيات الحديثة إلى البلاد, حيث أوكل شأن إحداث أول شبكتين للهاتف الخلوي لشركتي سيرتيل وتسعة أربعة «أريبا», بموجب عقد احتكار مدته سبع سنين, بعدها سيسمح لشركات أخرى الاستثمار في هذا الحيز, علماً أن عدد مشتركي الخلوي اليوم يتجاوز المليوني مشترك. وقد أضفى الهاتف المحمول طابعاً عصرياً على الأجواء السورية, يميل نحو التجمل بمعنى البرستيج في مجتمع تسجل البطالة فيه معدلات عالية, فغدا وسيلة ترفيه لا اتصال, شاع استخدامه بين الشباب والمراهقين, بل وبين الأطفال, لتبادل الأغاني والنغمات والنكات والصور ومقاطع الفيديو؛ وفي المستوى الأعلى, وعلى نحو أضيق بكثير, طاول شرائح عمرية أكبر, أخذت تستفيد من خدمة الأخبار الفورية التي بدأت بتقديمها هذا العام وكالة «سانا» كباقي وكالات الإعلام العربية والعالمية الأخرى.

من جانب آخر, أسهم الإقبال على اقتناء الهواتف المحمولة في نشوء سوق تنمو بسرعة كبيرة. فلغاية نهاية العام الماضي, وصل عدد محال بيع المحمول واكسسواراته المسجلة إلى 700 محل في دمشق وريفها فقط, حسب دليل وسيلة السائح الإعلاني.

تطور حقيقي

وإذا كان اجتياح الخلوي للمشهد السوري العام مثَّل تغيراً ظاهرياً, فإن تغييرات أخرى تتصل بإعادة بناء الفرد بدأت, أسهمت فيها العملية التربوية والعلمية في السنوات الأخيرة, فأعيد تقسيم مراحل التعليم ما قبل الجامعي, من ابتدائي وإعدادي وثانوي, ليصبح ثلاث حلقات. وفي العام 2003 ألغي الزي العسكري ومادة التربية العسكرية من المدارس, بعد ثلاثين عاماً من عسكرة المجتمع, واستعيض عنها بلباس مدني بألوان زاهية -بيج أو ازرق مع وردي- وأعيد النظر باحتكار التعليم, وسُمح بافتتاح فروع لمدارس عربية وأجنبية خاصة تعتمد مناهج مختلفة عن مناهج وزارة التربية, وباشرت أربع جامعات خاصة منذ نحو عامين باستقبال الطلبة: جامعة القلمون في دير عطية قرب دمشق, وجامعة المأمون في محافظة الحسكة وريف حلب, وجامعة الاتحاد في الرقة, والجامعة الخاصة للعلوم والفنون في حلب. كما صدرت المراسيم الخاصة بإحداث أربع أخرى جديدة: الجامعة العربية, الأوروبية الخاصة -ناحية غباغب بدرعا- الأميركية الخاصة للتكنولوجيا -قرية تلحدية بمنطقة جبل سمعان بحلب- جامعة الأندلس الخاصة للعلوم الطبية -القدموس بمحافظة طرطوس- الجامعة الدولية الخاصة للعلوم والتكنولوجيا بدرعا وجامعة الوادي في وادي النضارة وكلية ابن حيان للصيدلة والتجميل؛ لتعمل إلى جانب الجامعات الحكومية الأربع: دمشق, البعث في حمص, تشرين في اللاذقية وجامعة حلب. كما استحدث في العام 2002 نظام التعليم المفتوح في الجامعات الحكومية, وكذلك الجامعة الافتراضية في العام نفسه, بما يجنب الطلاب مغبة السفر إلى الخارج لمتابعة الدراسة. وهناك من يعتبر مسألة التعليم العالي الخاص أنها أصبحت في ظل التطور العالمي للتعليم الجامعي عملية إنقاذية في ظل الإشكاليات التي يواجهها التعليم الجامعي في سوريا.

الإعجاز السوري

إلا أن المجال الأهم, الذي أسس الأرضية الاجتماعية لإحداث التغييرات, تمثل في نشر المعلوماتية, في عقد التسعينيات مع إنشاء الجمعية السورية للمعلوماتية, وتبنيها برنامج محو أمية الكمبيوتر. ويُحسب للسوريين القدرة على مواكبة العصر الرقمي بإمكانات شحيحة جداً, فبرعوا في مجال تجميع أجهزة الكمبيوتر لتخفيض سعره قدر الإمكان, وتعلموا البرمجة بشكل ذاتي, وامتهنوا العمل في هذا المجال. وفي سوق البحصة, تجمع محال بيع أجهزة ومستلزمات الكمبيوتر, يلفت النظر أعداد العاملين من الأطفال ومنهم متخصصون بالصيانة, ومن دواعي الفخر سماع أكثر من رأي في الخارج يؤكد تميز السوريين في الهندسة الإلكترونية, وثمة معلومات عن أنهم من أهم المبرمجين المتخصصين بتعريب برامج المايكروسوفت العالمية في أميركا. ما يؤكد الفكرة المتداولة على سبيل الطرفة عن الإعجاز السوري, بقدرته على التأقلم وتدبر أموره في أسوأ الظروف المعيشية وتحت أقسى الضغوط.

جاء إدخال خدمة الانترنت مع بدايات العام 2000, ليكشف عن الوجه الحيوي لسوريا ولو افتراضياً, وراح يتمظهر مع حلول العام 2003 بإتاحة الخدمة للجميع عبر مزودي الخدمة الجمعية المعلوماتية ومؤسسة الاتصالات. ومع أن رقم المشتركين لم يتجاوز الـ160 ألف مشترك, لا يزال متواضعاً جداً بالقياس إلى دول العربية الأخرى, إلا أن عدد المستخدمين الفعليين حسب حجم التفاعل بين المواقع السورية يقدر عدد المستخدمين بأكثر من ذلك بكثير, حيث تنشط عشرات من مقاهي الانترنت في مختلف الاحياء الشعبية والراقية على حد سواء, كما إن خط الاشتراك الواحد يستخدمه أفراد العائلة جميعاً, ما يجعل رقم المشتركين المسجلين في مؤسسة الاتصالات والجمعية المعلوماتية لا يعبر عن العدد الحقيقي لمستخدمي الانترنت في سوريا. والجدير بالذكر, أن الحكومة تنظر في طلبات تقدمت بها حوالى تسع شركات خاصة للتزويد بخدمة الانترنت, منها حوالى ست شركات يتوقع أنها ستقدم خدمات مميزة.

سوريا الحيوية

شبكات الانترنت أسهمت في تفعيل الحوار السوري الداخلي بمختلف اهتماماته ومستوياته من الدردشة السخيفة, والبحث عن صديق أو النصف التائه, وحتى النقاشات المعمقة في الفلسفة والأدب والدين والسياسة, ونشأت منتديات للحوار لمناقشة القضايا العامة, منها ما نال صيتاً واسعاً وتحول من الواقع الافتراضي إلى الواقع الحي المعاش عبر تنظيم لقاءات ورحلات للتعارف, كملتقيات سوريا دوت كوم, وعشتار, وملتقى السيريانز3 وغيرها العشرات, اشتهر بعضها مثل السيريانز لأن غالبية أعضائه المقدر عددهم بـ300 شخص من المثقفين والمبدعين المهمومين بالشأن العام في الداخل والمغتربات, وهذا المنتدى كغيره تدور في داخله جدالات سياسية حرة, ومواجهات ساخنة, على وقع الأحداث المفصلية الراهنة في المنطقة كاحتلال العراق, والانسحاب السوري من لبنان... إلخ , وتتم أرشفة المساهمات على شكل ملفات في الموقع.

والملاحظ من الأعضاء الدائمين في ذلك المنتدى وغيره, الاعتقاد بأن الملتقيات طورت لديهم ملكة الحوار وهذبتها, وجعلتهم أكثر مرونة في تقبل الرأي الآخر, مهما كان خارجاً على المألوف, وفتحت الباب أمام التفكير الحر بعيداً إلى حد ما عن سلطة المحظورات الاجتماعية والسياسية, وربما هذه إحدى فضائل المواقع السورية الإخبارية الأخرى في الانترنت والتي تفسح في المجال للمشاركة التفاعلية في التعليق على الأحداث والآراء. كما عوضت الانترنت عن غياب صحافة سياسية مستقلة, وان كانت غالبية المواقع تعتمد في مادتها الأساسية على تجميع المقالات المنشورة عن سوريا في الصحافة العربية والعالمية, فقد أسهمت في توفير المعلومات للمهتمين بالشأن العام, وجعلها في متناول اليد, بتوفيرها على المتابع الكثير من الجهد والمال والوقت. كما كشفت الصحافة الالكترونية المتحررة من أي قانون أو رقابة عن أقلام سورية متميزة, وشجعتهم على التفاعل والمشاركة, وحفزت بعض المنكفئين على العودة إلى الساحة, هذا بالإضافة إلى عشرات من مواقع المعارضة ومنظمات حقوق الإنسان, التي يفوق كثيراً حضورها وديناميكيتها التفاعلية ومساهمتها في صناعة الخبر المحلي ما تمثله المواقع الحكومية على الشبكة, والتي للأسف لا تزال اقل من المستوى المطلوب؛ والمتابع لتلك المواقع عموماً ستذهله سوريا الافتراضية, ويكاد يختلط الأمر بين أيهما أقرب للحقيقة!

بالتزامن مع انتشار استخدام الانترنت, صدر قرار لإعادة الروح إلى الصحافة السورية المستقلة بعد نحو أربعة عقود من الإعلام الرسمي المحنط, وبدأت بالظهور العام 2001 مع صحافة الأحزاب, منها صحيفة الدومري التي أغلقت لاحقاً, وتكرر الأمر مع صحيفة المبكي هذا العام, وقيل إن الأسباب تعود لمخالفة قانون المطبوعات. وقارب عدد التراخيص الممنوحة اليوم 200 جريدة ومجلة أسبوعية وشهرية وفصلية, تشمل التخصصية الإعلانية والعلمية والاقتصادية... إلخ ومنها الاجتماعية والثقافية العامة. علماً أن حوالى أربعين ترخيصاً ألغي قبل الصدور لأسباب مالية, ولا تزال سوريا تفتقر الى صحافة سياسية يومية, كما تفتقر الى قنوات تلفزيونية وإذاعية سياسية خاصة, مع انه تم الترخيص لأربع إذاعات إعلانية ترفيهية بدأت البث من دمشق وحلب العام الماضي, بالإضافة الى ترخيص قناة فضائية اسمها «الشام», بدأ بثها التجريبي على قمر العربسات, ورغم الهنات الكثيرة غير الهينات في حركة الإعلام السوري الخاص, لكنه شكل أحد الملامح الأساسية الجديدة في سوريا, ومهما اختلفت الآراء حوله فإن أربعين عاماً من التصحر الإعلامي لا يمكن تجاوزها بسهولة, وحسب السوريين رغبتهم الجارفة بإنعاش صحافتهم في وقت يتأهب فيه العالم لتشييع الصحافة الورقية على وقع جلبة تطور عالم الاتصالات الرقمية.

لا شك في أن سوريا تغيرت كثيراً, عن تلك التي كانت في الثمانينيات والتسعينيات, وثمة سوريا جديدة تخرج من الشرنقة, إلا أن خطواتها الحقيقية على درب المستقبل لم تبدأ بعد, ومع ذلك يحسب لها القدرة على التحمل والتحدي والإصرار على الحياة والتطور ومواكبة الجديد, وما يحسب لها فعلاً تجاوزها مراحل مرت بها, وكانت أكثر صعوبة من التي تعيشها الآن في ظل الضغط الخارجي.

الكفاح العربي 20 / 08 /2005

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

أعلى الصفحةالسابق

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ