النظام
البعثي هو نظام علماني
قائم
على عصبيات ما دون طائفية....
النظام
السوري نظام سلطوي أكثر مما هو
نظام توتاليتاري
فاديا
كيوان *
نوّد المساهمة في
النقاش الدائر حول مصير النظام
في سوريا ومصير سوريا نفسه عبر
إضاءات بسيطة على طبيعة هذا
النظام وطبيعة المتّحد السوري
وحول العلاقة القائمة بين
النظام والمتّحد في زمن معين
يجري الحديث فيه علناً عن إعادة
هيكلة الشرق الأوسط.
في طبيعة النظام
السوري
فيما يتداول الناس
في الأحاديث السياسية الشعبية
في شأن ثنائية الأنظمة
التوتاليتارية أو الأحادية
والأنظمة التعددية أو
الديموقراطية، أظهرت الوقائع
في الحياة السياسية المعاصرة
خاصة في الدول التي تشكلت في
مرحلة نهاية الاستعمار، أن هناك
مروحة واسعة من الأنظمة التي
تتأرجح بين هذا النموذج وذاك
وهي عامة معروفة بالأنظمة
السلطوية مع وجود درجات متفاوتة
من هذه السلطوية. والمقصود
بالسلطوية هو اعتماد الفوقية في
اتخاذ القرارات وفي فرضها
بالقوة، أو التهديد، على
المواطنين. وقد يذهب النهج
السلطوي الى حد محاولة السيطرة
على مؤسسات المجتمع المدني كافة.
أما الأنظمة
الديموقراطية فتراوح بدورها
بين التجارب الأوروبية الغربية
وأميركا الشمالية وتتميز
جميعها بالاعتراف بالحريات
الديموقراطية وبالتعددية
السياسية وإمكان تداول السلطة
وفصل السلطات واستقلالية
القضاء.
وفي هذه الأنظمة
تلعب الأحزاب السياسية على
اختلاف مشاربها دوراً مؤسسياً
في الحياة السياسية وتضمن حداً
أدنى من الحركية الاجتماعية ومن
المشاركة الشعبية الحرة في
الحياة السياسية وفي إعادة تشكل
نسبية ولكن دائمة للنخب
السياسية.
ويتفرع من الأنظمة
الديموقراطية، عائلة الأنظمة
التوافقية وهي تلك التي تتأسس
في مجتمعات غير متجانسة فتوزع
المراكز القيادية في الحياة
العامة حصصاً تضمن من خلالها
مشاركة مختلف فئات المجتمع
الوطني.
أما الأنظمة
الأحادية فكانت ثلاث تجارب
تاريخية هي مصدر الإلهام
للنظرية السياسية وهي النظام
الشيوعي والنظام النازي
والنظام الفاشي.
توسعت الكاتبة
الشهيرة انا ارندت في توصيف
النظام الأحادي أو
التوتاليتاري واستندت الى
مقارنة بين تجربة الستالينية في
الاتحاد السوفياتي وتجربة
النازية في المانيا.
من أهم ميزات
النظام الأحادي أو
التوتاليتاري انه يدّعي
الاستناد الى الحقيقة وان
قيادته أي الحزب الحاكم يقوم
بدور ريادي في إنجاز الواقع
بحسب القانون – قانون التاريخ
بالنسبة للشيوعية الستالينية
وقانون الطبيعة بالنسبة
للنازية.
والسمة الثانية هي
الطابع المنظوماتي (سيستميك)
للعقيدة التوتاليتارية فهي
تعدُّ جواباً على كل الأسئلة و
تعدُّ تفسيراً لكل نواحي الحياة
وكل مفاصلها متداخلة ومتجانسة
بحيث يصعب التخلي عن أي جزء منها
تحت طائلة عدم الانسجام
والابتعاد عن المنطق. فهي مبنية
على المنطق، على منطق خاص
بالطبع.
والسمة الثالثة هي
استراتيجيتها الهادفة الى سلب
كل الحريات من المجتمع ومركزتها
في أيدي الحزب الحاكم باسم
العقيدة على انه المؤتمن عليها
وبالتالي يتم تجريد المواطنين
أفراداً وجماعات من كل حرياتهم
وحقوقهم ومبادراتهم باسم
الحقيقة التاريخية أو الطبيعية
التي تجسدها مبادرة النظام
التوتاليتاري وتعمل على هديها.
والسمة الرابعة هي
اعتماد الإرهاب في التعاطي مع
المجتمع والابتعاد كلياً عن
الحوار والتفاوض وإجراء
التسويات. فهي أنظمة كلية بمعنى
انها لا تعترف بشرعية أي موقع
خارج دائرة صناعة القرار
المركزية. والإرهاب من شأنه
ترويض عقول الناس وإخضاعها
لحقيقة يخال انها أكبر منها
وأنها غير قادرة على استيعابها.
فكما يجري الاعداد للممارسة
الديموقراطية والتأهيل لبلوغ
سلوكيات اجتماعية مشاِركة
مبنية على الثقة بالذات وبالدور
الفردي لكل مواطن، يجري الاعداد
للخضوع والانطواء وللشعور
بالتفاهة الشخصية وبعدم الوزن
في إطار النظام التوتاليتاري.
والسمة الخامسة هي
وضع اليد على كل مؤسسات المجتمع
أو تأسيس مؤسسات تابعة للسلطة
وتكون طيِّعة في يدها تمرِّر
قراراتها للناس وتقوم بالأدوار
الثانوية في إطار تحقيق الحلم
الكبير الذي هو إنجاز سنّة
التاريخ أو سنّة الطبيعة.
ومن خلال السيطرة
على كل مؤسسات المجتمع المدني
وتطويعها بالكامل فإن الأنظمة
الأحادية تتمتع بقدرة كبيرة على
التعبئة وتجييش الجماهير. فهي
تستعمل لذلك التهديد والترغيب.
ومع الوقت وفي إطار بناء
المجتمع والاقتصاد والدولة
بحسب العقيدة تستميل فئات عدة
من الناس وبخاصة في الأوساط
الأكثر تهميشاً في المجتمع بحيث
لا يكون لهذه الفئات ما تخسره
بالانضمام الى قطار النظام
الأحادي، لا بل ان بعض الناس
يستفيد من ذلك عبر موقع يعطى له
في الدولة التوتاليتارية. ومن
اللافت ان هذه الأنظمة تستهوي
أيضاً فئات من المثقفين تتحول
وسطاء لنقل الايديولوجيا
الحاكمة وتبرير أداء الدولة.
والجدير بالذكر ان
نماذج الأنظمة التوتاليتارية
التي كانت موضوع الدراسات
التاريخية والسياسية الكبرى
كانت غير قابلة للانفتاح على أي
صيغة من التكييف أو الإصلاح أو
التغيير الجزئي. ومنها ما انهار
عندما حاول اهله إصلاحه –
النظام السوفياتي – ومنها ما
انهار بسبب الهزيمة في الحرب –
النظام النازي.
هل النظام السوري
هو نظام توتاليتاري وبالتالي
يكون من المستحيل ان ينفتح على
أي إصلاح تحت طائلة التداعي
والانهيار ؟
غالباً ما يخلط
الناس بين الهيمنة والتسلط
والاستبداد والتوتاليتارية.
وابسط مثال على اختلاف هذه
الحالات هو أن نظاماً
ديموقراطياً توافقياً مثل
النظام اللبـناني قد خضـع – ومن
دون ان يغير من عقيدته
الليبرالية – للهيمنة والتسلط
حتى جرى الحديث عن تشكل دولة
أمنية من خلال تسلط بعض الأشخاص
في بعض الأجهزة الأمنية على
مواقع القرار في الدولة وفي
المجتمع. ومع ذلك فان أحداً لم
يصف النظام اللبناني بالنظام
التوتاليتاري بل بالدولة
الأمنية.
بناءً على هذا
المثل تحديداً يجب أن نميز بين
السلوكات المتسلطة والمهيمنة
والمستبدة والتي قد تتشكل في أي
نظام في حقبة ما من تاريخه
والعقيدة التوتاليتارية التي
تؤسس شرعية نظام وتدعم أعماله
وتبررها.
وهناك فارق بين
التسلط كشكل من أشكال جنوح نظام
ما والتواء أدائه في الخفاء
والخطاب العلني الكلياني الذي
يدّعي الشرعية لنظام
توتاليتاري.
قام النظام السوري
الحالي في العام 1963 عندما استلم
الحكم في سوريا حزب البعث
العربي الاشتراكي وكان آنذاك ما
زال بقيادة زعاماته التاريخية
المؤسسية ومن بين هؤلاء ميشال
عفلق وصلاح البيطار.
وبدأت التحولات
الكبرى في سوريا منذ ذلك
التاريخ في مناخ دولي ثنائي
فكانت الأنظمة في الدول العربية
التي شهدت تغييراً سياسياً،
تستلهم أسس الحكم من النموذج
الاشتراكي الجماهيري، وتعاقبت
الانقلابات في سوريا حتى جاء
المنعطف الأول الكبير مع تغلب
القيادة القطرية على القيادة
القومية عبر انقلاب 1966 والذي
دفع في اتجاه تغييرات أكثر
راديكالية على مستوى بناء
الاشتراكية. ومن ثم كانت الحركة
التصحيحية للرئيس حافظ الاسد
التي حسمت النزاع بين المنظمة
المدنية لحزب البعث بقيادة صلاح
جديد وجناح عسكريي الحزب بقيادة
الرئيس الاسد في العام 1970.
منذ ذلك التاريخ
نَحَتْ سوريا منحى جديداً هو
مأسسة النظام ووضع دستور جديد
للبلاد رسم قواعد اللعبة
السياسية عبر اعتماد النهج
الدستوري – وإن شكلاً حيث ان
القرار الأساسي كان في يد
الرئيس حافظ الاسد وفريق عمله –
ومنطق الانتخابات التشريعية،
وتحويل النزاع على السلطة الى
اقنية عدة منها البرلمان وقيادة
الحزب وقيادة الجبهة الوطنية
التقدمية.
وربما كانت هناك
سمتان للنظام السوري – المصحّح
نسبة الى الحركة التصحيحية -
تم تكريسهما في الحقبة
التأسيسية الأولى وهما تحملان
دلالات حول مسألة توتاليتارية
النظام أو عدمها.
السمة الأولى هي
اعتماد ائتلاف بين حزب البعث
الذي كان مسيطراً أصلاً وبدون
منازع وبين اربع قوى سياسية
اعتبر البعث في ذلك الوقت انها
قريبة من مبادئه الأساسية وهي
العروبة والاشتراكية.
وتقاسم البعث
مناصفة مع هذه القوى مراكز
الجبهة الوطنية التقدمية.
وعلى خطٍ موازٍ
أدخل البعث في الدستور مواد
تعطي حزب البعث دون سواه الحق
الحصري في العمل السياسي داخل
صفوف المؤسسة العسكرية وفي صفوف
الطلاب والشباب.
يبدو أن تلك كانت
تسوية اراد من خلالها الرئيس
الاسد إقامة هدنة مع خصومه –
العروبيين والاشتراكيين -
وليس مع أعدائه اهل اليمين
والرجعية – من أجل أخذ الوقت
الكافي لمأسسة سيطرة حزب البعث
في أوساط الشباب والعسكريين.
وشكل دخول الجبهة
الوطنية التقدمية بالنسبة الى
القوى العروبية والاشتراكية
آنذاك فرصة ذهبية لدخول مواقع
السلطة فيما لم تكن أي منها
تمتلك الامتداد الشعبي أو مواقع
عسكرية كافية لوضع اليد على
السلطة بمفردها.
كانت هذه الخطوة من
وجهة نظر الرئيس الاسد بادرة
تنفيس احتقان ومحاولة دفع
الخصوم الى العمل السياسي
العلني.
بعد التسوية مع
القوى السياسية "القريبة"
ايديولوجياً وبعد اعتماد
الاقنية الدستورية وبداية
تنظيم مؤسسات الحزب، اتخذ
الرئيس الاسد تدابير عدة لادخال
بعض الحرية الى قطاعات اقتصادية
عدة من دون الخروج عن النهج
الاشتراكي.
وكان الأهم من كل
ذلك توجه النظام السوري منذ
اواسط السبعينات الى التعامل مع
الطروحات الاميركية الخاصة
بتسوية النزاع العربي -
الإسرائيلي تعاملاً منفتحاً
ولو بحذر.
وكان دخول القوات
السورية الى لبنان رسمياً في
العام 1976 وبقاؤها فيه حتى نيسان
2005 بقبعات مختلفة ولكن برضى
اميركي وبتساهل غربي عموماً
تجسد – في ما تجسد – بإقرار
بدورٍ لسوريا في اتفاق الطائف
في العام 1989.
هذه اللمحة السريعة
الى حقبتي السبعينات
والثمانينات تدل على ان النظام
السوري كان نظاماً مرناً يقوم
دائماً بالحد الأدنى في التكيف
للحفاظ على بقائه. وهو بدا
تدريجاً نظاماً مخضرماً يجمع
بين بعض سمات الانظمة
التوتاليتارية وبراغماتية
سياسية سمحت له بالبقاء لفترة
خمسة وثلاثين عاماً.
خلال هذه المدة
الطويلة اسس النظام انواعاً عدة
من الشراكة في ميادين عدة من
الحياة الاقتصادية والاجتماعية
والسياسية. ومن الخطأ الاعتقاد
ان أي نظام يمكن ان يستمر طوال
مدة كهذه مستنداً فقط الى
الترهيب. فقد نجح النظام في عقد
تحالفات مع شرائح بورجوازية
محلية بعضها ينتمي الى طائفة
الأكثرية وتعاون لانه كان
يستفيد مادياً من التقرب من
السلطة، وبعضها ينتمي الى
اقليات طائفية غير إسلامية.
وكان يجد في سيطرة أقلية
اسلامية على زمام الحكم فرصة
لتعزيز موقعه الاقتصادي
والاجتماعي وكذلك السياسي.
ذلك ان النظام
البعثي هو نظام علماني قائم على
عصبيات ما دون طائفية infracommunautaire. وقد سعى الى اعطاء
مختلف الفئات التي تشكل اقليات
تاريخية في البلاد فرصاً للكسب
ولتبوء مراكز ما كانت لتحلم بها
في ما لو كانت مقاليد الحكم في
يد الغالبية الاسلامية
التقليدية.
والجدير بالذكر انه
تشكل في ظلال حكم الحزب الرائد
بورجوازية طفيلية اختلط في
صفوفها البعثي بغير البعثي
والعسكري بغير العسكري واختلطت
في صفوف المستفيدين كل الطوائف.
وفي هذه الظلال عقد بعض
المسؤولين تحالفات بين بعض
الاجهزة وراكموا عبر الدور
العسكري السوري في لبنان، ثروات
ونفوذ في لبنان وفي سوريا الى ان
تحولوا الحلقة الاهم في صناعة
القرار في النظام السوري
وانسحبت هيمنتهم على كل
الميادين.
هذه الهيمنة تساهم
في تفسير ضياع فرصة التجديد
والتحديث والاصلاح التي تراءت
للمراقبين عندما توفي الرئيس
حافظ الاسد وتسلم ابنه مقاليد
الحكم.
يبدو من كل ما تقدم
ان النظام السوري نظام سلطوي
أكثر مما هو نظام توتاليتاري،
وهو ملتبس في خطابه كما في
خياراته الاستراتيجية وربما
اهم سمة تبعده عن التوتاليتارية
هي النهج البراغماتي الذي تعامل
به منذ السبعينات خاصة مع
المجتمع الدولي.
في المتّحد السوري
يخطئ من يعتقد ان
العروبة هي وجبة بعثية في سوريا
وانها تغيب ان غاب حزب البعث عن
السلطة. فالمتّحد السوري قائم
على فكرة العروبة وأكثر من ذلك
فهناك اقتناع سائد لدى الرأي
العام السوري بأن سوريا هي قلب
العروبة. ومنذ فشل مشروع
المملكة العربية المتحدة
للامير فيصل في مطلع القرن
العشرين وحتى بعد تشكل الدولة
العربية السورية الحديثة، بقي
المناخ العام في سوريا يعيش في
حنين الى العروبة بحدودها
الاكبر من الدولة السورية.
والشعور القومي العربي لم يكن
هو المشكلة بل كان النهج
الشعبوي السلطوي الذي اعتمده
حزب البعث العربي الاشتراكي،
بوحي من النموذج السوفياتي، هو
الذي دفع الى التضحية بالحريات
الديموقراطية على مذبح وحدة
الأمة وبناء الاشتراكية. فالفكر
السياسي القومي تأثر في أجياله
الاولى بالفكر السياسي القومي
في أوروبا والذي اندفع في اتجاه
الفاشية. وانطلاقة العمل
السياسي القومي العربي الاولى
كانت تولي الاهمية للامة على
حساب الفرد وتعتمد الاسلوب
الفوقي السلطوي لبناء الوحدة
والانصهار...
تلك كانت حقبة
مرتبطة بزمن عالمي تغير فهل
بامكان الفكر القومي ان يؤسس
للوحدة انطلاقاً من الايمان
بالانسان العربي ومن الثقة
بامكان سلوك دروب الوحدة عبر
الحرية الفردية وضمان حقوق
الإنسان؟
تلك هي إشكالية
مفصلية تواجه الفكر العروبي
اليوم. ساهمت بدون شك العقود
التي سيطر خلالها حزب البعث على
الحياة الثقافية في تاسيس أجيال
متعصبة للعروبة، ولكن ربما لم
تكن العروبة نفسها التي تبلورت
عند مؤسسي البعث في الاربعينات
من القرن الماضي.
انطلاقاً من
العروبة ومن موقع سوريا فيها
ينظر العديد من السوريين الى
الدور السوري في لبنان نظرة
معتدلة، اذ هم يعتبرون ان سوريا
قامت بدور فعّال لمنع تقسيم
لبنان ولمنع تسوية منفردة مع
اسرائيل كانت لتضعف الخاصرة
السورية خاصة بعد خروج مصر من
"الكماشة" العربية. وينظر
هؤلاء الى السلوك العسكري
السوري في لبنان، والذي شكا منه
اللبنانيون على انه جنوح لاشخاص
وربما لاجهزة. لكنهم لا يذهبون
الى حد معارضة التدخل العسكري
السوري في لبنان أو إدانته. ففي
الحقبة السابقة يرى العديد من
السوريين ان سوريا لعبت دوراً
إقليمياً بارزاً وقد أصبحت بذلك
رقماً صعباً لا يمكن تجاوزه.
انطلاقاً من هذا
الواقع يثمّن السوريون عموماً
الموقف المتصلب للنظام السوري
في موضوع النزاع العربي -
الاسرائيلي ويعتبرون ان الرفض
والممانعة من قبل سوريا عززا
موقع العرب في أية مفاوضة
محتملة. السوريون عموماً يفخرون
بسياسة رفض الإذعان ويتمسكون –
كما يردد خطاب النظام السوري
نفسه – باستعادة الجولان، أي
الأرض مقابل السلام.
العروبة واستعادة
الجولان كانا بندين أساسيين في
وثيقة المعارضة السورية في
أواخر تشرين الاول الماضي. وهذا
الأمر يدل على ان التغيير
المطلوب من قبل السوريين أنفسهم
ومن بينهم ألدّ أعداء النظام
يقف عند عتبة ثوابت كانت دائماً
في صلب خطاب الحزب الحاكم في
سوريا.
فالمطلوب بالنسبة
اليهم اطلاق الحريات العامة
وإسقاط هيمنة حزب البعث وتبقى
الثوابت ثوابت. كما تجدر
الاشارة الى ان وثيقة المعارضة
السورية دعت مرات عدة البعثيين
من أهل النظام الى التعاون بشرط
الا يكونوا من "المتورطين أو
الفاسدين" ...
مما يعني انه ليست
هناك إدانة للأهداف الوطنية
الكبرى ولكن فقط للنهج السلطوي
الذي اعتمده الحزب في زمن مضى
وهو اليوم لم يعد مقبولاً. لكن
الكلام عن المتّحد السوري لا
يمكن ان يغفل عن العصبيات
الطائفية التي طبعت تركيبة
المراكز القيادية ومراكز
النفوذ في المجتمع والدولة خلال
خمسة وثلاثين عاماً.
ومعلوم انه خلال كل
هذه الفترة، كانت الهيمنة تعود
الى "سيبة" ثلاثية، فيها
قيادات قائمة على عصبية حزبية
بعثية واخرى على عصبية مهنية
عسكرية وثالثة على عصبية طائفية
بل عائلية أو عشائرية.
لم يكن كل الحزب ولا
كل العسكر(...) النافذين
والمستفدين وأحياناً المتورطين
أو الفاسدين. فهل يفرط عقد
المتّحد السوري إذا ما تفككت أو
انهزمت احدى هذه العصبيات أو
حتى إذا تفككت جميعها؟
ليس بالضرورة، وهذا
الأمر يتوقف على عوامل عدة.
أولها ان يسلك قادة
النظام السوري نهج اللين في
التعاطي مع الحقائق والمعطيات
المستجدة وان يتجنب هؤلاء
العزلة الدولية. وبالاضافة الى
الصين وروسيا هناك مواقف
اوروبية متمايزة عن الموقف
الاميركي المتصلب.
وفي هذا المشهد
الدولي تمايزات تفتح نافذة على
إمكان الدخول في عملية إصلاح
واسعة بازاء التعاون الكلي مع
المجتمع الدولي في شأن التحقيق
بجريمة اغتيال الرئيس الشهيد
رفيق الحريري.
ثانيها ان تنتهج
المعارضة السورية خطاً مستقلاً
قدر الامكان عن الضغوط الخارجية
التي تردد التهديد والوعيد
للنظام السوري ولكن بعضها قد
تكون عينه ليس فقط على اطاحة
النظام بل البلد نفسه.
ومن الواقعية
السياسية ان تزن المعرضة
السورية امكاناتها ودرجة
انسجامها بمختلف مشاربها فتطرح
تسوية مع غير المتورطين
والفاسدين فتبتعد سوريا عندها
عن شبح النموذج العراقي للتغيير
الماثل للاذهان وهو مثال حي
لكنه لا يحتذى.
ثالثها ان تتغير
تدريجاً – وقد بدأت بالفعل –
اللهجة اللبنانية في مقاربة
الوضع السوري فيهدأ المتحمسون
– وبعضهم مجروح ويمكن تفهم
تطرفه – لفكرة اطاحة النظام
السوري ويستشرفون انهياره. ففي
العالم العربي، تعودت الشعوب ان
ترى تغييراً يحصل ولكن الى
الاسوأ حتى راجت كلمة الشاعر:
"ربّ يومٍ بكيت منه فلما صرت
في غيره بكيت عليه"...
ناهيك عن الخطر
الداهم للمتحد اللبناني في ما
لو انفرط عقد المتّحد السوري
وتصبح عندها بلدان المشرق
الثلاثة في حال من الفوضى
ويتعمم التفتيت والارهاب.
ورابعها ان تحاول
الاسرة الدولية ان تتمايز في
مواقفها المشتركة عن الموقف
الاميركي المتشدد – والذي يشهد
معارضة داخلية اميركية – والذي
قد يدفع بالوضع في المنطقة الى
المزيد من التوتر ويفتح بؤر عنف
جديدة.
لا أحد يتجاهل
تفاعل العوامل الداخلية مع
العوامل الخارجية. كمالا يخفى
على أحد النفوذ الاميركي الحالي
على مستوى السياسة الدولية. لكن
هناك مساحة ممكنة لاستقلال
صناعة القرار الوطني في كل دولة
عن العوامل الخارجية الضاغطة.
فهل يعرف صانعو القرار اغتنام
الفرص والسعي الى تعزيز مساحة
الاستقلال الوطني في القرار؟
اما النظام السوري
الذي هو اليوم تحت المجهر أكثر
من أي يوم اخر، فتقاليده كانت
تقاليد خطاب متشدد وتدوير زوايا
وانفتاح على التسوية في الوقت
نفسه.
فالسؤال الاول
اليوم يدور حول درجة
البراغماتية في تعاون النظام
السوري مع المجتمع الدولي فيدخل
موضوع الإصلاح من بابه العريض.
ويعتقد المراقبون ان هذا التوجه
من شأنه ان يجنب النظام
الانكسار ويجنب المنطقة خطر
المزيد من التفتت والعنف.
* مديرة معهد
العلوم السياسية في جامعة
القديس يوسف – اطروحتها
للدكتوراه عام 1984 والتي نالتها
في جامعة السوربون كانت عن
الوضع في سوريا.
النهار
14
/11/ 2005
المقالات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|