واشنطن
ودمشق:
الصفقة
جزئية أم شاملة ؟
أكرم
البني
بداية، يجانب
الحقيقة من يعتبر أن صفقة
لتسوية الأمور بين دمشق وواشنطن
هي من سابع المستحيلات بسبب أن
الأخيرة عقدت العزم، دون تردد
أو تراجع، على إطاحة النظام
السوري بكل الوسائل المتاحة
ومهما تكن النتائج، أو لأن
النخبة السورية الحاكمة عاجزة
عن التحرر من شعاراتها الوطنية
والقومية المعلنة ومن عقليتها
القديمة في إدارة الأزمات
وأوراق النفوذ الإقليمي.
فمن الطبيعي
موضوعياً أن يسارع طرفان تغرق
سياساتهما بالنهج البراغماتي
حتى النخاع الى تجميد خلافاتهما
والتوصل الى تسوية وتوافق.
فالنظام السوري وطوال تاريخه
وخلال أزمات أشد وطأة وصلت الى
الذروة في مطلع الثمانينات مع
حضور القوات المتعددة الجنسية
الى لبنان، لم يقطع شعرة معاوية
مع إدارة البيت الأبيض ولم يغلق
قنوات الحوار والتواصل. وكلنا
يتذكر عبارة درجت على لسان
المسؤولين السوريين وهم في أوج
تحالفهم الاستراتيجي مع
الاتحاد السوفياتي، بأنه من
الحماقة الاستهتار بوزن اميركا
ودورها في المنطقة أو معاداتها
والقطع معها!!...
وفي المقلب الآخر
فإن ما يحرك سياسات واشنطن هي
مصالحها أولاً، وتاريخها
القديم والحديث غني وحافل بما
يؤكد هذه الحقيقة وإنها في غير
مكان وزمان، أشاحت بوجهها عن
دعوات الحرية وقيم حقوق الإنسان
ولم يردعها رادع في استخدام شتى
الوسائل لكسب موقع أو الحفاظ
على نفوذ مهدد.
لكن العقدة الرئيسة
أمام نجاح صفقة بين واشنطن
ودمشق ذاتية المنشأ، تكمن في
الصعوبة الراهنة لصوغ علاقة
تفاهم بين طرفين صارت المسافة
بينهما كبيرة على صعيد الدور
والقوة، وتفارقت أهدافهما
ودوافعهما وحاجتهما اليها،
فالولايات المتحدة تملك اليوم
وزناً حاسماً ومقرراً في
المنطقة، ولديها من الوسائل
الكثير للمناورة والردع.
والواضح أنها منذ احتلالها
العراق، وضعت نصب عينيها وبصورة
رئيسة، مهمة إطاحة نظام البعث
السوري لا خلق التفاهمات معه،
وتحاول بناء الشروط الكفيلة
بتحقيق ذلك. ويرجح أن تأييدها
للجهود الرامية للتفاهم مع
سوريا هي أشبه بموقف أكرهت على
اتخاذه لإرضاء حلفائها. لكن مع
ضمانة حقيقية بكف يد النظام
وتأثيراته في مسارات مشاريعها،
خاصة في الساحات العراقية
واللبنانية والفلسطينية، بما
في ذلك العمل على فرط تحالفه مع
إيران تمهيداً لمزيد من عزله.
بينما حاجة السلطات
السورية اليوم الى التسوية حاجة
عضوية وملحة، يشبهها البعض
بحياة أو موت، فهي غير قادرة على
السباحة خارج تلك المياه،
ومحاصرة ومعزولة، وقد ضاق هامش
مناورتها الى حد خانق. وتجاهد،
وربما يعتبرها البعض تستجدي،
عبر المساومة على ما تملكه من
بقايا قوة ونفوذ، كي تتوصل الى
شكل من أشكال التسوية لا يكون
مجحفاً مطلق الإجحاف، أو في
الحد الأدنى يحفظ لها ماء الوجه
ويضمن استمرار سلطانها.
وضغط هذه الحاجة
يزداد حدة في ضوء تداعيات قرار
مجلس الأمن 1636 وطلب التحقيق مع
بعض الشخصيات السورية التي
وضعها تقرير ميليس في دائرة
الاشتباه، ولا يغير من هذه
الحقيقة عبارات التحدي
والشعارات الهجومية الثقيلة،
ضد المجتمع الدولي والأمم
المتحدة واميركا وميليس ولبنان!!
على قاعدة ما سبق
تلتقي معظم الآراء على أن جوهر
"صفقة ممكنة" بين النظام
السوري واميركا هو مقايضة الأول
بما تبقى له من أوراق إقليمية،
وحتى التضحية ببعض الشخصيات
الأمنية داخلياً، رغم أن بعضها
يحتل مواقع حساسة، كي يحفظ
سلامة الباقي ويضمن استمرار
كتلته الرئيسة في سدة الحكم،
لقاء مساهمة منتظرة من الأطراف
الغربية في فك الحصار عنه
وإحياء التعاون معه وربما
التقدم خطوات حثيثة لتوقيع عقد
الشراكة السورية ـ- الأوروبية.
والأهم هو المساعدة في تعويم
بعض نتائج تقرير ميليس، إن
أدانت النظام السوري، وتخفيف
اندفاعاته السياسية، بتحييد
هذا المستوى وتحميل شخصيات
أمنية ما جرى. ويدرج الكثيرون
حادثة انتحار وزير الداخلية
السوري غازي كنعان في هذا
الإطار، وأيضاً عودة التعاون
بين الحكومة السورية واللجنة
الدولية للتحقيق واتفاقهما على
اللقاء مع المشتبه بهم في مدينة
فيينا.
وإذ نعترف بأن كل
يوم يمر يضعف الدوافع والمقدمات
الداعمة لاحتمال عقد صفقة تفاهم
وتسوية بين إدارة البيت الأبيض
والنظام السوري فثمة إشارات
تتواتر تدل على عكس ذلك وتظهر أن
الموضوع السوري لا يزال مدار
بحث من أطراف دولية وعربية
مختلفة مع الولايات المتحدة
هدفه وقف تدهور العلاقة بين
دمشق وواشنطن كي لا تصل الى
مواجهة مباشرة ربما تكون مكلفة
وصعبة جداً وتهدد استقرار
المنطقة برمتها. ويشاع أن
السلطات السورية طلبت من مصر
والمملكة العربية السعودية
مرات عدة التوسط بينها وبين
أميركا بغية إزالة ما يكتنف
علاقتهما من جفاء وتوتر، وكان
الجواب دائماً هو النصح باتخاذ
سلسلة مواقف أو تنفيذ مجموعة من
الإجراءات كي يصبح التوسط ممكنا.
وجوهر هذه الإجراءات هو التعاون
التام مع لجنة التحقيق الدولية
للكشف عن قتلة رفيق الحريري
ووقف التدخلات السورية في شؤون
الجيران.
صحيح أن الإدارة
الاميركية فقدت الثقة بالنظام
السوري وانحسرت رغبتها في
تجريبه وإعطائه مزيداً من
الفرص، لكنها تعرف جيداً أنه لا
يزال يملك قوى يستحسن تفكيكها
بصورة متدرجة، أو على الأقل
تحييدها في الوقت الراهن كي لا
تستمر في إرباكها وخلق العثرات.
وما يشجعها أكثر أن ليس ثمة بديل
موضع ثقة واطمئنان يمكن أن يخلف
الحكم في سوريا، طالما المرجح
في حساباتها أن تتقدم لسد
الفراغ تيارات إسلامية لم تختبر
سياساتها الداخلية والإقليمية
بما يكفي.
يضاف الى ذلك تردد
الموقف الأوروبي الذي لا يزال
يبدي تحفظاً شديداً عن إجراء
انقلاب دراماتيكي في البنية
السياسية السورية أو إزاحة
سريعة للسلطة الحاكمة، ترفده
اجتهادات داعمة من بعض المؤسسات
الاميركية التي تتخوف أيضاً من
أن يؤدي انفلات الأوضاع الى خلط
الأوراق الى درجة العجز عن
إعادة الإمساك بها أو السيطرة
عليها. ثم لابد أن يؤخذ في
الاعتبار الموقف الإسرائيلي
المعلن وتفضيله استمرار الحكم
السوري الراهن، لكن ضعيفاً
ومحاصراً. وأيضاًُ موقف غالبية
الأنظمة العربية، وخاصة مصر
والسعودية، التي لا تحبذ إسقاط
السلطة السورية بل تميل الى
تطويعها واحتوائها خوفاً من أن
يفضي التغيير الجذري الى نتائج
غير محمودة قد تؤثر على استقرار
المنطقة برمتها.
ومن بعض التصريحات
والإشارات، يبدو أن واشنطن
تشترط اليوم لأخذ ما سبق في
الاعتبار بأن تكون الصفقة هذه
المرة شاملة أو شبه شاملة لا
صفقة جزئية ومحدودة. ما يعني أن
تقترن إضافة الى تعاون كامل
وصريح للحكومة السورية مع لجنة
التحقيق، بضمان حياد السياسات
السورية في بلدان الاضطراب،
وبخوض مفاوضات تسوية مع الكيان
الصهيوني، وإجراء تغييرات
داخلية مهمة في علاقة السلطة
السورية مع المجتمع. فالإدارة
الاميركية تجد الصفقة الشاملة
أفضل ضمان لتنفيذ الوعود
والشروط، وتالياً لقلب قواعد
لعبة سادت لعقود في منطقة
المشرق العربي، وكان يفترض أن
تتهاوى منذ زمن طويل بعد انهيار
الاتحاد السوفياتي ونهاية
الحرب الباردة. لكن اختيار
السلطة السورية الانضواء تحت
راية الولايات المتحدة ضمن
التحالف الدولي المناهض لصدام
حسين في حرب الخليج الثانية مد
من أنفاس هذه القواعد وأعطاها
عمراً إضافياً. ناهيك عن أن
الصفقة الجزئية تزيد الشكوك
الشائعة في الأوساط العربية
عموماً والحراك اللبناني على
وجه الخصوص بصدقية الإدارة
الاميركية كداعية لشعارات
التغيير والحرية وتظهرها كمن
يبيع مبادئه لقاء بعض المكاسب
الخاصة من النظام السوري وتخون
ما رفعته من شعارات ضد الأنظمة
المستبدة.
على العكس يرشح عن
النظام السوري أنه طامع بأن
تكون الصفقة جزئية ومحدودة وأن
يجري تناول كل ساحة على حدة،
العراق أو لبنان أو فلسطين، مع
استبعاد أي اشتراط لتغيير
علاقته مع إيران استبعاداً
تاماً، ويأمل من هذا الخيار
تحييد الوضع الداخلي من جهة وأن
لا يفقد دفعة واحدة كل أوراق
مناورته من جهة أخرى طالما يفضي
ما يقدمه من تنازلات، هنا
وهناك، الى إغلاق التحقيق في
اغتيال الحريري بأقل الخسائر
والأضرار وتخفيف الحصار
والعزلة، وربما الرهان على خلق
شروخ في الصف المناهض لسياساته
وبخاصة استمالة الموقف
الأوروبي، بقصد ربح الوقت
انتظاراً لمستجدات يتوهم أنها
لا بد حاصلة قد تساعده على تعديل
توازن القوة وتحسين الموقع
التفاوضي.
والمفارقة أن تباين
الموقفين الاميركي والسوري من
هذه الصفقة يضعنا اليوم أمام
حالة غريبة من تبادل المواقع،
فأصحاب سياسة الخطوة خطوة باتت
مصالحهم تستدعي اليوم التسوية
الشاملة، ودعاة التسوية
الشاملة تاريخياً صاروا اليوم
من أنصار التسويات المحدودة
والصفقات الجزئية.
أخيراً، يمكن القول
أن نجاح صفقة بين دمشق وواشنطن
أو فشلها لن يغير كثيراً في
الحقيقة التي تقول إن هذا الشكل
من الحكم في سوريا وصل الى
القاع، حتى إذا تمكن من التشبث
بالسلطة لوقت إضافي جديد،
والأمر كذلك بغض النظر عما
ستفضي إليه تحقيقات ديتليف
ميليس في جريمة اغتيال رفيق
الحريري، وتالياً صار أشبه
بتحصيل حاصل استحقاق التغيير
الشامل في سوريا والتقدم لصياغة
صورة جديدة للمجتمع تستند ليس
الى الشعارات القومية والوطنية
التي ملّها البشر وعافتها
نفوسهم، بل الى قواعد
الديموقراطية وآلياتها والتي
تحترم أساساً حاجات الانسان
وحقوقه.
النهار - 4/12/2005
المقالات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|