تحية
رمضانية (8)
المحاسبي:
طريق إلى التوبة
فقد انتهى البيان إلى أن هذه
الأمة تفترق على بضع وسبعين
فرقة منها فرقة ناجية، والله
أعلم بسرائرها فلم أزل برهة من
عمري أنظر اختلاف الأمة، وألتمس
المنهاج الواضح، والسبيل
القاصد، وأطلب من العلم والعمل،
وأستدل على طريق الآخرة بإرشاد
العلماء، وعقلت كثيراً من كلام
الله عز وجل بتأويل الفقهاء،
وتدبرت أحوال الأمة، ونظرت في
مذاهبها وأقاويلها، فعقلت من
ذلك ما قدر لي، ورأيت اختلافهم
بحراً عميقاً غرق فيه ناس كثير،
وسلم منه عصابة قليلة. ورأيت كل
صنف منهم يزعم أن النجاة لمن
تبعهم، وأن المهالك لمن خالفهم.
ثم رأيت الناس أصنافاً فمنهم:
العالم بأمر الآخرة، لقاؤه
عسير، ووجوده عزيز. ومنهم
الجاهل، فالبعد منه غنيمة. ومنه
المتشبه بالعلماء، مشغوف
بدنياه، مؤثر لها. ومنهم حامل
علم منسوب إلى الدين، ملتمس
بعلمه التعظيم والعلو، ينال
بالدين من عرض الدنيا. ومنهم
حامل علم لا يعلم تأويل ما حمل.
ومنهم متشبه بالنساك، متحر
للخير، لا غناء عنده، ولا نفاذ
لعلمه، ولا معتمد على رأيه.
ومنهم منسوب إلى العقل والدهاء،
مفقود الورع والتقى. ومنهم
متوادون، على الهواء واقفون،
وللدنيا يذلون، ورئاستها
يطلبون. ومنهم شياطين الإنس، عن
الآخرة يصدون، وعلى الدنيا
يتكالبون، وإلى جمعها يهرعون،
وفي الاستكثار منها يرغبون، فهم
في الدنيا أحياء، وفي العرف
موتى، بل العرف عندهم منكر،
والاستواء (بين الحي والميت)
معروف.
فتفقدت في الأصناف نفسي، وضقت
بذلك ذرعاً، فقصدت إلى هدى
المهتدين بطلب السداد والهدى،
واسترشدت العلم، وأعملت الفكر،
وأطلت النظر، فتبين لي من كتاب
الله وسنة نبيه، وإجماع الأمة،
أن اتباع الهوى يعمي عن الرشد،
ويضل عن الحق، ويطيل المكث في
العمى.
فبدأت بإسقاط الهوى عن قلبي،
ووقفت عند اختلاف الأمة مرتاداً
لطلب الفرقة الناجية، حذاراً من
الأهواء المردية، والفرقة
الهالكة، متحرزاً من الاقتحام
قبل البيان، وألتمس سبيل النجاة
لمهجة نفسي.
ثم وجدت باجتماع الأمة في كتاب
الله المنزل أن سبيل النجاح في
التمسك بتقوى الله، وأداء
فرائضه والورع في حلاله وحرامه
وجميع حدوده، والإخلاص لله
تعالى بطاعته، والتأسي برسوله
صلى الله عليه وسلم.
فطلبت معرفة الفرائض والسنن عند
العلماء في الآثار، فرأيت
اجتماعاً واختلافاً، ووجدت
جميعهم مجتمعين على أن علم
الفرائض والسنن عند العلماء
بالله وأمره، الفقهاء عن الله،
العاملين برضوانه، الورعين عن
محارمه، المتأسين برسوله عليه
الصلاة والسلام، والمؤثرين
الآخرة على الدنيا، أولئك
المتمسكون بأمر الله وسنن
المرسلين.
فالتمست من بين الأمة هذا الصنف
المجتمع عليهم، والموصوفين
بآثارهم. واقتبست من علمهم،
فرأيتهم أقل من القليل، ورأيت
علمهم مندرساً كما قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: (بدأ
الإسلام غريباً وسيعود غريباً
كما بدا فطوبى للغرباء). وهم
المتفردون بدينهم.
فعظمت مصيبتي لفقد الأولياء
الأتقياء، وخشيت بغتة الموت أن
يفاجأني على اضطراب من عمري
لاختلاف الأمة فانكمشت في طلب
عالم لم أجد لي من معرفته بدا،
ولم أقصر في الاحتياط ولا في
النصح، فقيض لي الرؤوف بعباده
قوماً وجدت فيهم دلائل التقوى،
وأعلام الورع، وإيثار الآخرة
على الدنيا.
ووجدت إرشادهم ووصاياهم موافقة
لأفاعيل أئمة الهدى، (ووجدتهم)
مجتمعين على نصح الأمة، لا
يرجون أبداً في معصيته، ولا
يقنطون أبداً من رحمته، يرضون
أبداً بالصبر على البأساء
والضراء، والرضا بالقضاء،
والشكر على النعماء، يحببون
الله تعالى إلى العبيد بذكرهم
إياديه وإحسانه، ويحثون على
الإنابة إلى الله تعالى، علماء
بعظمة الله، علماء بعظيم قدرته،
وعلماء بكتابه وسنته، فقهاء في
دينه، علماء بما يحب ويكره،
ورعين عن البدع والأهواء،
تاركين للتعمق والإغلاء،
مبغضين للجدال والمراء،
متورعين عن الاغتياب والظلم،
مخالفين لأهوائهم، محاسبين
لأنفسهم، مالكين لجوارحهم،
ورعين في مطامعهم وملابسهم
وجميع أحوالهم، مجانبين
للشبهات، تاركين للشهوات،
مجتزئين بالبلغة من الأقوات،
متقللين من المباح، زاهدين في
الحلال، مشفقين من الحساب،
وجلين من المعاد، مشغولين
بينهم، مزرين على أنفسهم من دون
غيرهم، لكل امرئ منهم شأن
يغنيه، علماء بأمر الآخرة
وأقاويل القيامة، وجزيل الثواب
وأليم العقاب، وذلك أورثهم
الحزن الدائم والهم المقيم،
فشغلوا عن سرور الدنيا ونعيمها.
ولقد وصفوا من آداب الدين صفات،
وحددوا للورع حدوداً ضاق لها
صدري، وعلمت أن آداب الدين وصدق
الورع بحر لا ينجو من الغرق فيه
شبهي، ولا يقوم بحدوده مثلي،
فتبين لي فضلهم، واتضح لي
نصحهم، وأيقنت أنهم العاملون
بطريق الآخرة، والمتأسون
بالمرسلين، والمصابيح لمن
استضاء بهم، والهادون لمن
استرشد.
فأصبحت راغباً في مذهبهم،
مقتبساً من فوائدهم، قابلاً
لأوابهم، محباً لطاعتهم، لا
أعدل بهم سبباً ولا أوثر عليهم
أحداً، ففتح الله لي علماً اتضح
لي برهانه، وأنار لي فضله،
ورجوت النجاة لمن اقتربه أو
انتحله، وأيقنت بالغوث لمن عمل
به.
ورأيت الاعوجاج فيمن خالفه،
ورأيت الرين متراكماً على قلب
من جهله وجحده. ورأيت الحجة
العظمى لمن فهمه. ورأيت انتحاله
والعمل بحدوده واجباً عليّ،
فاعتقدته في سريرتي، وانطويت
عليه بضميري، وجعلته أساس ديني،
وبنيت عليه أعمالي، وتقلبت فيه
بأحوالي.
وسألت الله عز وجل أن يوزعني شكر
ما أنعم به عليّ، وأن يقويني على
القيام بحدود ما عرفني به، مع
معرفتي بتقصيري في ذلك، وأني لا
أدرك شكره أبداً.
المحاسبي: (الوصايا
والنصائح)
|