ـ |
ـ |
|
|
|||||||||||||||
مبادئ
الحكم الرشيد في الإسلام: أسس وقواعد لتأصيل وبناء
ديمقراطية إسلامية معاصرة* لؤي عبد الباقي تهدف هذه
الورقة إلى تسليط الضوء على بعض
المبادئ السياسية الإسلامية
التي تميز نظام الحكم الإسلامي
الراشد عن غيره من أشكال الحكم
التي تقوم على الوراثة أو
الغلبة أو الشمولية والاستبداد.
وتحديدا فإنها تتناول،
بالمناقشة والتحليل، الجوانب
التي تُبرز أهم نقاط التوافق
بين المبادئ السياسية
الإسلامية وبين الأسس التي تقوم
عليها الديمقراطية، مؤكدة أن
الدعوة إلى بناء "ديمقراطية
إسلامية راشدة" ليست مجرد
فكرة منطقية قابلة للتأصيل
النظري، بل هي إمكانية ماثلة في
واقعنا المعاصر وواعدة أيضا. من
هنا فإن هذه الورقة تحاول توضيح
ومناقشة بعض الأفكار والمبادئ
التي تعتبر عند معظم الحركات
الإسلامية بأنها مرجعية صحيحة
وشرعية، وأساس نظري أصيل
لديمقراطية إسلامية تنبثق من
القيم الإسلامية التي تحقق
العدالة والمساواة وسيادة
القانون وإقامة الحريات وحق
الشعوب في اختيار حكامها
وقادتها. ولتأصيل هذه المفاهيم
والمبادئ ستوضح هذه المساهمة
باختصار كيف تم التعبير عن هذه
المبادئ في الفترة التأسيسية
للأمة الإسلامية (العهد النبوي
وعهد الخلفاء الراشدين)، وفي
الأدبيات الإسلامية الكلاسيكية
(عصر تدوين العلوم الإسلامية)،
بالإضافة إلى أدبيات الحركات
الإصلاحية والصحوية الإسلامية
في الفترة الحديثة والمعاصرة. الحكم
الراشد في العصر التأسيسي للأمة
الإسلامية عندما يتصدى
العلماء والمفكرون الإسلاميون
لمسألة طبيعة العلاقة بين
الإسلام والسياسة فإنهم يرجعون
بالدرجة الأولى إلى النشاط
والعمل السياسي الذي قام به
الرسول (صلى الله عليه وسلم)
عندما أسس دولة المدينة بعد
الهجرة. كيف قامت هذه الدولة؟
وما هي الأسس والمبادئ التي
ارتكزت عليها؟ المصادر
التاريخية تقدم لنا سجلا هاما
حول ثلاثة أحداث بارزة تسهم في
تقديم إجابات واضحة على هذه
التساؤلات المرتبطة بإجراءات
تأسيس دولة المدينة، وخاصة فيما
يتعلق في مسألة توافقها مع
إجراءات وقواعد الحكم
الديمقراطي الحديث. هذه الأحداث
هي: بيعتي العقبة، كتابة
الصحيفة أو دستور المدينة،
وإجراءات الخلافة وانتقال
السلطة بعد وفاة النبي (صلى الله
عليه وسلم). بما أن الوقت
لا يسمح في هذه العجالة لتناول
هذه الأحداث الهامة بشكل مفصل،
فسأكتفي هنا بالتركيز على بعض
النقاط الأساسية ذات الصلة
المباشرة بموضوع الديمقراطية. بالنسبة لبيعة
العقبة (الثانية بشكل خاص)،
بالرغم من أنها تضمنت بعض القيم
والواجبات الدينية التي تشكل
إلى درجة كبيرة جوهرا لقانون
الشريعة الذي ستسير عليه دولة
المدينة التي أرسى أسسها النبي (صلى
الله عليه وسلم) فيما بعد، إلا
أن هذه البيعة شكلت بالدرجة
الأولى عقدا سياسيا واضحا حيث
أنها أسست علاقة تعاقدية ( علاقة
أمر وطاعة) بين الرسول (صلى الله
عليه وسلم) وبين مسلمي المدينة.
وبهذا فإن هذه البيعة حددت
وبشكل رسمي وصريح دور الرسول (صلى
الله عليه وسلم) ومركزه في دولة
المدينة كقائد سياسي إلى جانب
دوره كرسول هداية.[1] أما بالنسبة
للصحيفة التي كانت بمثابة دستور
لدولة المدينة، فإنها، من ناحية
أولى، بينت ما هو مقبول أو مسموح
وما هو مرفوض وممنوع، كما أنها،
من ناحية ثانية، نظمت العلاقة
بين مختلف القبائل المسلمة من
مهاجرين وأنصار، وعلاقة
المسلمين بغيرهم من سكان
المدينة، كاليهود. لقد ذكرت
الصحيفة بالتسمية الصريحة كل
قبيلة وكل مجموعة محدِّدة
حقوقها وواجباتها. ومن أهم
ميزات هذه الوثيقة أنها قدمت
إطاراً نظرياً واضحاً لبناء
دولة تعددية ومجتمع متعدد
الأديان، مؤسِّسةً بذلك مفهوم
الأمة بشكل يضم غير المسلمين
إلى الجماعة السياسية دون إقصاء
أو تمييز.[2]
لقد بينت الوثيقة بشكل حاسم لا
يخالطه وهم أو ضبابية أن يهود
المدينة أمة مع المؤمنين.
باختصار شديد، إن التسامح
الديني وحرية العبادة كانت
مكفولة للجميع بأوضح العبارات
في هذه الوثيقة الدستورية. تنبع الأهمية
الحقيقة لهذه الوثيقة اليوم، من
ناحية توافقها مع الديمقراطية،
من كونها قدمت سابقة دستورية
تعتبرها الحركات الإسلامية
مرجعية ثابتة لبناء مجتمع تعددي
سياسيا ودينيا. لذلك فإن هذه
الوثيقة بالنسبة للمسلمين ليست
تاريخا غابرا مضى وانتهى، وليست
من قصص التغني بأمجاد الآباء
والأجداد، بل هي تنبض بالحياة
في واقعنا الحاضر، وهي مصدر
استلهام لملايين المسلمين،
ولذلك يمكن الاستفادة منها
لبناء ديمقراطية إسلامية
معاصرة. إجراءات
انتقال السلطة: الخلافة الراشدة
والديمقراطية الراشدة إن الإجراءات
التي اتبعها الصحابة لاختيار
الخليفة وانتقال السلطة في فترة
الخلافة الراشدة ذات صلة أكبر
بواقعنا المعاصر، حيث أن
الخلفاء رضوان الله عليهم لم
يتمتعوا بسلطة دينية بعد وفاة
النبي (صلى الله عليه وسلم)
وانقطاع وحي السماء. فسلطة
الخلفاء، وغيرهم من الحكام على
مر التاريخ الإسلامي، انحصرت في
تفسير الوحي المحفوظ وتطبيق
شرعه وقانونه. وأي ادعاء من قبل
أي حاكم بصلاحيات دينية أو سلطة
مقدسة يعتبر بالنسبة لأهل السنة
والجماعة، على خلاف الشيعة،
انحراف عن الشرع الحنيف وهرطقة.
وفي أية حال فإن الإجراءات التي
سارت عليها الأمة في انتقال
السلطة خلال العهد الراشدي أرست
مبادئ سياسية هامة أصبحت فيما
بعد أساسا للنظرية السياسية
الإسلامية ومعيارا نموذجيا
للحكم الرشيد عند أهل السنة
والجماعة. المصادر
التاريخية المعتمدة تؤكد أن
زعماء المسلمين من مهاجرين
وأنصار اجتمعوا في سقيفة بني
ساعدة للنقاش والتداول حول
مسألة الخلافة ومن الذي سيتم
ترشيحه لهذا المنصب، وحول إتمام
إجراءات انتقال السلطة. المؤكد
تاريخيا أن ثمة خلاف وجدل قد نشب
بين المجتمعين حول هذا الموضوع.
والمؤكد أيضا، وهذا الأهم، أن
النزاع قد حسم دون إراقة دماء،
وإن كنا لا ندري على وجه التحديد
الفترة الزمنية التي استغرقتها
هذه المداولات.[3] بشكل عام،
هناك أربع استنتاجات تم الوصول
إليها عند جمهور أهل السنة
والجماعة (مع بعض الخلافات
الفرعية) من هذا الحدث التاريخي
الهام والحاسم في تاريخ الأمة
الإسلامية: 1- إن مجرد حصول
خلاف وانقسام في بداية الأمر
حول مسألة الخلافة يدل على أن
هذه المسألة لم تكن محسومة
مسبقا من قبل النبي (صلى الله
عليه وسلم)، وأن موضوع اختيار
الخليفة قد ترك للأمة أو قادتها
ليقرروه.. 2-
النقاش الذي حصل في اجتماع
السقيفة كان بالأساس حول خلاف
سياسي وليس ديني، فلم يرد
نهائيا أن المرجعية الإسلامية،
سواء القرآن أو السنة، كانت
موضع خلاف أو نقاش بين الصحابة،
كما أن التوافق والاقتناع تم
بناءً على اجتهادات عقلية وحجج
منطقية، وليس على نص ديني من
القرآن أو السنة. إن حجة أبي بكر
في أن العرب "لن ترضى بهذا
الأمر إلا لهذا الحي من قريش"
كانت حاسمة في أن قريش يجب أن
تحكم لأن في ذلك مصلحة عامة في
الحفاظ على وحدة الدولة من خلال
تعيين حاكم ترضى به العرب وتقبل
بسلطته. 3-
إن سعي القادة والزعماء إلى
الحصول على موافقة وقبول عامة
الناس من خلال البيعة العامة
يدل على أن الأمة، بمجموعها
بشكل عام، كانت تعتبر مصدر
الشرعية السياسية لانعقاد
الخلافة، فليس من المتصور أن
يتم انعقاد الخلافة في حال رفضت
الأمة مبايعة الخليفة. 4-
إن حسم مسألة الخلافة قد تم من
خلال إجراءات شورى تداولية بين
أهل الحل والعقد، وإجماع واسع
بين المسلمين. بناءً على
ذلك، فإن أربعة مبادئ أساسية
ارتكزت عليها مسألة الخلافة
أصبحت فيما بعد هي المعيار
النموذجي لقياس مدى شرعية
انعقاد الإمامة في الفقه
السياسي الإسلامي: (1) الشورى؛
(2) الاختيار من قبل أهل الحل
والقد؛ (3) الإجماع؛ (4) والبيعة.
وكما تفيد
المصادر التاريخية المعتمدة،
هذه المبادئ الأربعة، إضافة إلى
تطبيق الشريعة في الحكم (وهذه لم
تكن موضع خلاف في أي مرحلة من
مراحل التاريخ الإسلامي) كانت
أساس مشروعية الخلافة في العهد
الراشدي، وبما أن هذه المعايير
النموذجية لم تجتمع سوى للخلفاء
الأربعة، أبو بكر وعمر وعثمان
وعلي (رضوان الله تعالى عليهم)،
فإن أهل السنة والجماعة
أطلقوا بالإجماع على هؤلاء لقب
الخلفاء الراشدين تمييزا لهم
عما سواهم من باقي الخلفاء
الذين لم تجتمع لإمامتهم هذه
المعايير النموذجية، وإن
تمتعوا بالحد الأدنى من الشرعية
نظرا لالتزامهم بمبدأ تطبيق
الشريعة الإسلامية. قياسا على
ذلك، فإن أي حكم تجتمع فيه
المعايير النموذجية الأربعة
التي تميزت بها الخلافة
الراشدة، بالإضافة إلى الحكم
بالشريعة، يكتسب صفة الشرعية
والرشد. إن
المبدأ الأساسي الذي لم يكن
موضع خلاف بين الصحابة، أي
تطبيق الشريعة الذي أصبح فيما
بعد الحد الأدنى المطلوب لقبول
شرعية الخلافة وطاعة الحاكم،
كان أساس تقييد سلطة الحاكم عبر
التاريخ الإسلامي الذي لم يشهد
على الإطلاق حكم دكتاتوري أو
دولة شمولية على غرار ما شهدناه
ونشهده في هذا العصر من
دكتاتوريات فردية وأنظمة
علمانية شمولية، كما سنبين فيما
يلي. ويظهر جليا هذا التقييد
لسلطة الحاكم في أول خطاب ألقاه
سيدنا أبو بكر (رضي الله عنه) في
المسلمين بعد انعقاد خلافته،
حيث قال: "أيها الناس، وليت
عليكم ولست بخيركم، أطيعوني ما
أطعت الله فيكم، فإذا عصيت فلا
طاعة لي عليكم."[4]
هذه الخطبة التاريخية وضعت
الحجر الأساس لحدود وقيود سلطة
الحاكم، وبينت بما لا يدع مجالا
للشك أن خرق العقد القائم بين
الحاكم والمحكوم من قبل الحاكم
يلغي شرعية حكمه ويعطي الحق
للأمة في عزله وإسقاط حكومته
المتمردة على حكم الله وسلطان
الأمة. قد يبدو
للبعض، كما يحلوا للكثيرين أن
يجادلوا، أن هذه صورة مثالية
للماضي. إلا أنه، وبغض النظر عن
مدى مثالية ونموذجية تطبيق هذه
المبادئ السياسية تاريخيا،
فبمجرد أنها تعتبر مرجعية شرعية
مؤصلة لملايين المسلمين اليوم،
وأن الحركات الإسلامية تستلهم
منها أساليب وقواعد العمل
السياسي، فإنها ولا شك صالحة
كأساس لبناء ديمقراطية إسلامية
راشدة في الدول الإسلامية في
هذا العصر. والمراد
بالديمقراطية الراشدة في هذا
السياق هو كل نظام حكم تتحقق فيه
جميع معايير الخلافة الراشدة ما
عدا وحدة الأقطار والأمصار
الإسلامية، فإذا ما تحققت
وحدة الأقطار، أو كتلة كبيرة
منها، عندها تسمى خلافة، فلا
يمكن أن نطلق لقب خليفة
المسلمين على حاكم دولة قطرية
صغيرة لم تشارك في اختياره
ومبايعته سوى قلة من المسلمين.
أما بالنسبة للخلاف الفقهي حول
عدد من تنعقد بهم الخلافة، حيث
يجيز بعض الفقهاء انعقاد
الإمامة أو الخلافة بعدد قليل
جدا من أهل الحل والعقد،
فالأرجح أن ذلك يصح عندما يكون
هؤلاء المبايعين ممن ترضى بهم
وباختيارهم الأمة، حتى ولو لم
يتجاوز عددهم أصابع اليد
الواحدة، كما يرى بعض الفقهاء.
وهذا، وإن كان يصح في العصور
الإسلامية الأولى، وخاصة في عهد
الخلفاء الراشدين حيث وجد رجال
ترتضيهم الأمة، كأهل بدر، إلا
أنه من الاستحالة أن يتحقق
اليوم بدون تمثيل واسع من مختلف
الأقطار الإسلامية. الفقه
وتطور النظرية السياسية:
التعددية التشريعية أو الفقهية
وفصل السلطات بعد وفاة
الخليفة الرابع علي بن أبي طالب
(رضوان الله تعالى عليه) أسس
الأمويون نظاما وراثيا يخالف
المبادئ السياسية النموذجية
للحكم الإسلامي الراشد، لذلك
فقد أجمع علماء المسلمين على أن
الخلافة الراشدة قد طويت منذ
ذلك الحين وعلى مر التاريخ
الإسلامي، باستثناء خلافة عمر
بن عبد العزيز التي حظيت بقبول
واسع بين المسلمين نظرا لما
حققته من عدل وشورى، فأطلق عليه
الكثير من العلماء بخامس
الخلفاء الراشدين. الخلفاء
العباسيون والعثمانيون اتبعوا
نظاما مشابها لما أقامه
الأمويون. وعلى الرغم من أن
عنصري الوراثة والغلبة كانا
السائدين في معظم مراحل التاريخ
الإسلامي، إلا أن جمع الخلفاء،
وغيرهم من
السلاطين والأمراء، قد حكموا
تحت راية الإسلام وأقروا بسيادة
قانون الشريعة الإسلامية. وهكذا
فإن سلطتهم قد بقيت مقيدة
بالشريعة، وهذا ما جعلهم
يتمتعون بالحد الأدنى من
المشروعية؛ هذا الحد الذي جعله
العلماء المسلمون المعيار
الفاصل بين جواز وتحريم الخروج
على الحكام بحد السيف. إذا
كانت سلطة الحكام مقيدة بقانون
الشريعة، فمن الذي يتمتع
بصلاحية تفسير الشريعة وبيان
أحكامها ومبادئها؟ من المعلوم من
الدين بالضرورة أن وحي السماء
قد انقطع بوفاة النبي (صلى الله
عليه وسلم)، مما يعني أنه لا
يمكن لحاكم أو أي شخص أن يدعي
احتكار صلاحية تفسير الشريعة،
وهذا فتح الباب على إمكانية
تعدد الاجتهادات وتنوع المذاهب
الفقهية، مما فسح المجال لنشوء
نظرية فقهية تعددية في الإسلام. وبما أن
الحكام كانوا قد فقدوا سلطتهم
الأخلاقية أمام عامة المسلمين،
نظرا لمخالفتهم مبادئ الشورى
والاختيار وتهميشهم لدور أهل
الحل والعقد، فقد تمكن العلماء
تدريجيا من السيطرة على سلطتي
التشريع (أي الاجتهاد وتفسير
الشريعة) والقضاء، وذلك من خلال
تمكنهم من علوم الشريعة وتبحرهم
بها، وتأثيرهم المعنوي الكبير
على عامة المسلمين الذين اتبعوا
المذاهب الفقهية المتنوعة التي
أسسها ألئك الفقهاء والعلماء.
وضمن ذلك السياق التاريخي
والعلمي قام العلماء بوضع ضوابط
وقواعد الاجتهاد؛ ما يسمى بعلم
أصول الفقه، التي تبلورت مع
تدوين وانتشار المذاهب الأربعة
المعتمدة عند أهل السنة
والجماعة: الحنفي والمالكي
والشافعي والحنبلي.[5] لقد استطاع
الفقهاء الكبار الذين أسسوا هذه
المذاهب الأربعة الحفاظ على
استقلاليتهم عن سلطة الدولة،
ورفضوا الاندماج في مؤسساتها
رغم ما نزل بهم من محن وسَجن
وأحيانا تعذيب جسدي. بالرغم من
أن تلميذ أبي حنيفة أبا يوسف قبل
تولي منصب قاضي القضاة، إلا أنه
بقي مستقلا عن سلطة الخليفة،
حيث كان هو من يعين القضاة، كما
كان يقضي بين الناس على مذهب أبي
حنيفة بدون أي تدخل من الدولة
التي كانت تلتزم بتنفيذ ما يحكم
فيه القضاة. بناءً على
ذلك، فإن المسلمين هم أول من
قام بفصل السلطات الثلاث،
وبتحقيق استقلال السلطتين
التشريعية والقضائية عن السلطة
التنفيذية، وتكون فكرة فصل
السلطات ليست، كما يزعم
الكثيرون اليوم، غريبة عن الفكر
والتاريخ الإسلامي. من هنا فإنه
من الممكن، بل والضروري،
الاستفادة من هذا المفهوم
المؤصل في الفكر والتاريخ
الإسلامي لبناء ديمقراطية
إسلامية راشدة في المجتمعات
والدول الإسلامية المعاصرة. عندما دخلت
الخلافة العباسية في مرحلة
الضعف والتمزق حيث صعدت قوة
السلاطين والأمراء، الذين
أحكموا سيطرتهم حتى على بغداد
لتتحول الخلافة إلى منصب رمزي،
برزت الحاجة إلى بلورة نظرية
سياسية تحافظ على مكانة الخلافة
وأهميتها، وتنظم العلاقة بين
الخليفة وبين السلاطين
والأمراء المتغلبين. فكان
الفقيه الشافعي أبو الحسن
الماوردي أول من قدم نظرية
سياسية متكاملة في الحكم
الإسلامي في كتابه الشهير "الأحكام
السلطانية والولايات الدينية"،
حيث عالج الواقع السياسي الذي
وصلت إليه الخلافة من ضعف وتمزق
وحاول ربط الحكام المتغلبين
بالخليفة من خلال إقرار الخليفة
بشرعية سلطتهم، من ناحية،
وبالمقابل يقدم هؤلاء الحكام
الولاء النظري للخليفة حفاظا
على مكانته وعلى هيبة منصبه.
وباختصار شديد، على الرغم من أن
الماوردي برر إمارة التغلب، إلا
أنه لم يفعل ذلك على حساب
التنازل عن الحكم وفق الشريعة،
بل، على العكس، فقد ربط هذا
التبرير بضرورة "حفظ
القوانين الشرعية وحراسة
الأحكام الدينية" وتجنب
الفتنة التي تؤدي إلى مفسدة
أكبر، إضافة إلى أنه ساهم في
الحفاظ على أهمية وصيانة مؤسسة
الخلافة.[6] بقية العلماء
الذين جاؤوا بعد الماوردي،
وخاصة الإمام الغزالي وشيخ
الإسلام ابن تيمية، لم يخرجوا
عن هذا الخط العام من حيث ربط
طاعة الحاكم المتغلب بضرورة
الحفاظ على أحكام الشريعة
والمصالح العامة للأمة، على
الرغم من أن هذين الأخيرين كانا
أكثر وضوحا في نقدهم لأمراء
التغلب والسلاطين الظلمة. في
كافة الأحوال، فإن جمهور
العلماء اتفقوا على قاعدة "الضرورات
تبيح المحظورات"، وإن
اختلفوا في تقييم الضرورة
ومقدار الضرر الذي يجوز درؤه من
خلال التغاضي عن فعل أو قبول ما
اعتبر محظورا، فالقاعدة التي
سادت هي أن طاعة الحاكم الظالم
ضرورة لتجنب الفتنة والفوضى،
وكما عبر شيخ الإسلام ابن تيمية
"ستون سنة من إمام جائر أصلح
من ليلة بدون سلطان."[7] بشكل مختصر،
لقد تمكن العلماء من بناء نظرية
فقهية وسياسية، بالرغم من أنها
قدمت مبررات شرعية للحكام
المتغلبين، إلا أنها قيدت
سلطتهم بقوانين الشريعة، وضحدت
أي مزاعم يدعي من خلالها الحاكم
تمتعه بسلطة دينية توجب على
المحكومين طاعة مطلقة لا يوجهها
قيد ولا يحدها شرط. إن أهم ما
ساعد على إمكانية التعايش بين
الحكام الجائرين، من ناحية،
وبين العلماء ومعهم غالبية
المجتمع الذي يتأثر بفتاواهم،
من ناحية ثانية، هو أن سلطة
الدولة في التاريخ الإسلامي لم
تكن شمولية كما هو الحال
بالنسبة للدولة الحديثة التي
تهيمن وتنظم معظم المجالات
السياسية والعسكرية
والاجتماعية والثقافية في
المجتمعات المعاصرة. لقد كانت
سلطة الدولة آنذاك تكاد تنحصر
في المجالات العسكرية والأمنية.
فبالإضافة إلى أن سلطة التشريع
والقضاء كانت تحت سيطرت العلماء
لدرجة كبيرة، فإن التعليم
والأوقاف (وهي موارد مالية هامة)
والوعظ في المساجد، بل وإلى
درجة كبيرة التجارة والصناعة،
كلها كانت من المجالات المستقلة
التي نادرا ما تتدخل في تسييرها
وتوجيهها الدولة. وهكذا، بما
أن سلطة الحاكم أو انتقالها من
شخص إلى آخر كانت من الشؤون التي
لا تنعكس سلبا أو إيجابا وبشكل
مباشر وواضح على حياة المجتمع
ككل، كانت الثورات الشعبية
وحركات الخروج على الحكام
الجائرين قليلة نسبيا في
التاريخ الإسلامي إذا ما قيست
بما كان عليه الحال في
المجتمعات الأوروبية خلال ما
يسمى بعصر النهضة. الحركة
الإصلاحية والديمقراطية في
العالم الإسلامي مع تصاعد
القوة الغربية الاستعمارية
وهبوط القوة العثمانية في القرن
التاسع عشر، بدأ العلماء
والمفكرون المسلمون يدركون
الهوة الفاصلة بين مجتمعاتهم
وبين القوى الغربية المتنافسة
على استعمار البلاد الإسلامية،
وكان عجز الدولة العثمانية عن
صدّ الاستعمار والدفاع عن بلاد
المسلمين، التي بدأت تتساقط تحت
براثن القوى الغربية الغازية،
من أهم العوامل التي نبهت
المسلمين على هذه الفجوة
الخطيرة. لذلك فقد بدأ العلماء
بالتفكير والتنظير في مسألة
أسباب هذه الفجوة، وحول كيفية
ردمها وتجاوز الواقع المتردي
الذي وصلت الأمة إليه. هذا الجهد
الفكري أدى إلى ظهور ما يسمى
بالتيار الإصلاحي في العالم
الإسلامي، والذي دعا إلى
التحديث التقني، والإصلاح
السياسي، والعودة إلى فتح باب
الاجتهاد، الذي كان قد ضاق
وتراجع منذ هبوط الخلافة
العباسية، كسبيل أمثل لنهضة
الأمة ووحدة المسلمين. لقد شخص علماء
وقادة التيار الإصلاحي، وعلى
رأسهم السيد جمال الدين
الأفغاني والإمام محمد عبده،
أسباب تراجع المسلمين وضعفهم في
ثلاث نقاط أساسية: (1) البعد عن
الدين وعدم فهم المسلمين لدينهم
بشكل صحيح؛ (2) الاستبداد
السياسي وغياب الشورى؛ (3) وتمزق
جسد الأمة المسلمة الواحدة إلى
دويلات وممالك وإمارات متعددة.
لذلك فقد دعوا إلى (1) العودة إلى
أصول الإسلام وفتح باب الاجتهاد
لتفسير أحكام الشريعة على ضوء
التغيرات التي حدثت بسبب عوامل
اختلاف الزمان والمكان (على
قاعدة تتغير الأحكام
الاجتهادية بتغير الزمان
والمكان)؛ (2) الإصلاح السياسي،
وفق مبدأ الشورى وإعادة دور أهل
الحل والعقد على ما كان عليه في
صدر الإسلام؛ (3) وتوحيد بلاد
المسلمين لتتمكن من التصدي
لأطماع المستعمرين الغربيين.[8]
وفي سياق بلورة وتوضيح برنامجهم
السياسي والإصلاحي، قام هؤلاء
الدعاة بمحاولة التوفيق بين بعض
الأفكار والمبادئ السياسية
الغربية وبين ما يقابلها عند
المسلمين من مبادئ كانت قد عطلت
منذ مئات السنين. وحرص هؤلاء
الرواد الإصلاحيون على
الابتعاد عن القيم الغربية التي
لا تتلاءم مع الإسلام، مركزين
على الجوانب الإجرائية التي
رأوا أنها ساهمت في نهضة
المجتمعات الغربية وتقوية
جبهاتها الداخلية، وخاصة فيما
يتعلق من إجراءات دستورية تساعد
على تحقيق مبدأ الشورى، وتقييد
سلطة الحاكم، وتفعيل دور أهل
الحل والعقد من قادة وزعماء
وعلماء المسلمين. إن قوة تأثير
التيار الإصلاحي على المسلمين
وفكرهم السياسي أثبتت أنها
شاملة وممتدة عبر الزمان
والمكان، فسرعان ما انتشر الفكر
الإصلاحي عبر الدول والمجتمعات
الإسلامية ليصبح مصدر إلهام
وتحفيز للحركات الإسلامية التي
انتشرت في العالم الإسلامي من
أقصى شرقه في إندونيسيا إلى
أقصى غربه في دول المغرب
العربي، وما كاد ينصرم القرن
العشرون حتى أصبحت هذه الحركات
الإسلامية تلعب دورا فكريا
واجتماعيا وسياسيا هاما
وأساسيا في حياة المسلمين على
كافة الميادين والمستويات. تجربة
الحركة الإسلامية مع الدولة
الوطنية المعاصرة بالرغم أن
معظم العلماء والمفكرين
المسلمين كانوا يؤيدون إعادة
بناء الخلافة الإسلامية، وذلك
بعد إلغاء منصب الخلافة في
تركيا على يد أتاتورك في عام 1924،
إلا أن الغالبية منهم لم ترفض،
على الأقل بشكل قطعي ومطلق،
شرعية الدول الوطنية التي نشأت
على أنقاض الدولة العثمانية
وتحت هيمنة المستعمرين، بل إن
الكثيرين من العلماء والدعاة
ساهموا في بناء المؤسسات
السياسية والدستورية، كما
شاركوا في حركات التحرر الوطني،
مطالبين باستقلال بلادهم
وإقامة حكومات تحكم وفق الشريعة
الإسلامية تمهيدا لتوحيد بلاد
المسلمين وقيام دولة الخلافة.
وقد كانت حركة الإخوان المسلمين
التي أسسها الإمام الشهيد حسن
البنا (رحمه الله) في طليعة
الحركات التي لعبت دورا هاما في
دفع حركات التحرر من الاستعمار،
كما أنها اليوم أصبحت تقود
عملية الإصلاح والنهوض في كثير
من الدول الإسلامية، إضافة إلى
المساهمات الهامة التي قدمتها
ومازالت تقدمها على كافة
المستويات الفكرية والاجتماعية
والاقتصادية والسياسية. وقد كان
الإمام حسن البنا من أوائل
الذين تلقوا الدساتير التي تبنت
الحكم النيابي في الدول
الإسلامية الحديثة بالقبول
مؤكدا أنه ليس هناك "في قواعد
هذا النظام النيابي ما يتنافى
مع القواعد التي وضعها الإسلام
لنظام الحكم".[9] ومع سقوط
السلطات السياسية في أيدي
الأنظمة الشمولية والعسكرية
ذات التوجهات القومية
والعلمانية بعد الاستقلال في
الكثير من دول العالم الإسلامي؛
مع العلم أن العديد من هذه
الأنظمة استلهمت النماذج
الثورية الشيوعية والفاشستية
والنازية، قام عدد من المفكرين
الإسلاميين برفض شرعية هذه
الأنظمة، وخاصة بالنسبة لتلك
الأنظمة التي اتخذت موقفا
عدائياً واستئصالياً من
التيارات الإسلامية. فقام عدد
من المفكرين بتقديم نظريات
إسلامية شاملة حول أسس وقواعد
وأهداف ومهام الدولة الإسلامية.
وقد كانت هذه النظريات تحاكي في
كثير من جوانبها الدولة
الشمولية الحديثة من حيث نظرتها
إلى سلطة الدولة على أنها يجب أن
تهيمن على جميع مناحي الحياة
وتوجهها. من الأمثلة على ذلك ما
جاء في دستور الدولة الإسلامية
الذي قدم فيه الشيخ تقي الدين
النبهاني (رحمه الله)، مؤسس حزب
التحرير، تفاصيل دقيقة تخص، على
سبيل المثال، اللغة الرسمية
والنظام الإداري والتعليمي
والاجتماعي والاقتصادي، مؤكدا
أن هذه التفاصيل ثابتة في
الإسلام بشكل قطعي، بالرغم من
أنه لم يقدم الأدلة الصريحة حول
معظم تلك التفصيلات.[10]
ومن ذلك أيضا النهج الذي انعطف
إليه المفكر الإخواني الشهيد
سيد قطب، رحمه الله، في السنوات
الأخيرة من المحنة التي تعرض
لها مع بقية إخوانه من الإخوان
المسلمين تحت بطش الأجهزة
القمعية للنظام الحاكم في مصر
إبان عهد الرئيس جمال عبد
الناصر، وخاصة فيما يتعلق بفكرة
الجاهلية التي رأى فيها الكثير
من العلماء، بمن فيهم بعض
العلماء والمفكرين الإخوانيين،
توسعا مبالغا فيه. وقد انتقد
الشيخ العلامة يوسف القرضاوي،
مؤخرا، ما أسماه بـ"ركون"
سيد قطب "إلى فكرة التكفير
والتوسع فيه"، بالرغم مما
يكنه له من احترام وتقدير
كبيرين.[11] على الرغم من
أن الإعلام العالمي والمحلي
الرسمي في أغلب الدول العربية
والإسلامية، مازال يصور
الحركات الإسلامية على أنها
جامدة ومتشددة، فإن الحركات
الإسلامية اليوم متعددة
ومتنوعة وتتبنى مواقف مختلفة
بحسب اختلاف الأنظمة القائمة
وسياساتها. بل إن غالبية هذه
الحركات السائدة اليوم، وعلى
رأسها حركة الإخوان المسلمين،
تستنكر وبشدة النهج التكفيري،
وترفض وسائل العنف السياسي،
وتتبنى النهج السلمي
الديمقراطي كوسيلة لتحقيق
أهدافها. وهي، على عكس ما تحاول
الأنظمة الاستبدادية وحلفائها
من الأنظمة الغربية تصويره في
وسائل إعلامها المتحيز، لا
تتبنى تصورا شموليا حول الدولة
الإسلامية، بل تفرق بين شمولية
الإسلام، بمنظومته العقدية
والأخلاقية وبمنهجه الحياتي،
وبين محدودية سلطة الدولة،
كوحدة سياسية تعددية لا ينبغي
أن تتجاوز الحقوق والحريات
الفردية أو تمس بمعتقدات
المجموعات الدينية والثقافية
والإثنية. ومع أن معظم
التيارات السياسية الإسلامية
واضحة في تبنيها النهج
الديمقراطي السلمي، إلا أن
الكثير من المتشككين مازالوا
يطرحون تساؤلات كثيرة حول
مصداقيتها في تبني العمل السلمي
الديمقراطي، بشكل مبدئي وليس
تكتيكي، حسب تعبيرهم، ويلقون
باللائمة حول غياب
الديمقراطيات في الدول
الإسلامية على وجود تيارات
إسلامية متشددة. بل إن الكثير من
هؤلاء الذين يدعون الموضوعية لا
يتورع عن محاكمة النوايا
والتنجيم فيما يمكن أن يتمخض من
مواقف واتجاهات مستقبلية. فإلى
أي حد تؤيد التجربة العملية
والواقع التاريخي هذه المزاعم
والادعاءات والتوقعات؟ لا يحتاج
المراقب المحايد إلى الكثير من
الدراسات والأبحاث لكي يكتشف من
هم الذي صادروا فعلياً وعرقلوا
ممارسة ومنهجياً الإجراءات
الديمقراطية في معظم الدول
الإسلامية، فتاريخ النظم
الاستبدادية والدكتاتوريات
المعاصرة لا يدع مجالا للشك في
أن الغالبية الساحقة من هذه
الأنظمة الشمولية والسلطوية
ذات خلفية قومية علمانية، بل
بعضها متطرفة في علمانيتها، وأن
هذه الأنظمة قامت واستمرت، في
معظم الأحيان، على الدعم الغربي
لها. ومن ناحية أخرى، فإن جميع
التجارب الديمقراطية في الدول
الإسلامية، تشهد بالدور
الإيجابي وبالمساهمات الفاعلة
للحركات الإسلامية في الحياة
السياسية الديمقراطية. فمنذ
سنوات الاستقلال المبكرة في
سوريا وفي إندونيسيا، حيث شهدت
كلتا الدولتين ازدهارا
ديمقراطيا في الخمسينيات على
سبيل المثال، كانت للحركات
الإسلامية مشاركات إيجابية في
تطور العمل السياسي السلمي، بل
إن الديمقراطية في كلا
النموذجين المذكورين قد صودرت
آنذاك على أيدي التيارات
العلمانية القومية، حيث كانت
الحركة الإسلامية من أشد
المدافعين عن الديمقراطية، ومن
أشرس المعارضين للدكتاتوريات
الفردية. بل إن نجاح التحول
الديمقراطي الذي تشهده
إندونيسيا منذ عام 1998 ما كان له
أن يرى النور، على رأي معظم
المحللين، لولا مساهمات الحركة
الإسلامية الطلابية، التي كانت
تنشط في الجامعات منذ
الثمانينيات وفق نظام الأسر
والحلقات المتأثر بفكر وأسلوب
حركة الإخوان المسلمين. لقد
قادت هذه الحركة المظاهرات
الطلابية التي احتلت البرلمان
وتمكنت من الضغط على الرئيس
سوهارتو حتى قدم استقالته. وقد
قام أقطاب هذه الحركة بتأسيس
الأحزاب السياسية التي مازال
تشارك مشاركة فعالة في
الانتخابات البرلمانية. ويرى
محللون آخرون أن تخلي الولايات
المتحدة عن دعم نظام سوهارتو
بعد تغير ظروف الحرب الباردة
كان من أهم العوامل التي ساعدت
على سقوط سوهارتو وإقلاع عملية
التحول الديمقراطي. من ناحية
ثانية، يرى بعض المحللين
السياسيين أن مساهمة الحركة
الإسلامية الإيجابية في التحول
الديمقراطي في إندونيسيا جاءت
بسبب بروز تيار أو جيل جديد من
المفكرين والمثقفين المسلمين
في العقود الأخيرة، يؤكد على
التعددية السياسية، ويغلِّب
المضمون على الشكل والمقاصد على
الظاهر في فهمه للإسلام، وبشكل
خاص فيما يتعلق بعلاقة الإسلام
بالسياسة والحكم، حيث ظهر تأثير
هؤلاء المفكرين واضحا في الخطاب
السياسي والبرامج السياسية
للأحزاب الإسلامية التي نشأت في
إندونيسيا بعد سقوط النظام
الشمولي. إن أهم ما يميز هذا
التوجه التعددي ضمن التيار
الإسلامي في إندونيسيا، حسب ما
يؤكد معظم الباحثين والمحللين
السياسيين، هو أنه تراجع عن
المطلب الدستوري للحركة
الإسلامية الإندونيسية الذي
طالما تمسكت به تاريخيا بشأن
إعادة الفقرة المتعلقة بفرض
الشريعة الإسلامية على جميع
المسلمين إلى الدستور، وهي ما
تعرف بوثيقة جاكرتا التي ألغاها
القوميون العلمانيون في عام 1945
بعد أن كان قد تم الاتفاق عليها.
يؤكد بعض المحللين السياسيين أن
الاختلاف الحاد حول هذا المطلب
كان المعيق الأساسي أمام
الديمقراطية كما أنه كان المبرر
المباشر الذي صودرت على أساسه
الإجراءات الديمقراطية في
إندونيسيا منذ أواخر
الخمسينيات من القرن الماضي.
لذلك يرى الكثيرون أن قبول
الإسلاميين بدستور تعددي يشمل
جميع مكونات المجتمع
الإندونيسي والسعي لتقنين
القوانين المتوافقة مع مبادئ
وقيم الإسلام من خلال البرلمان
المنتخب، بدل من فرضه دستوريا،
مهّد لقيام الحد الأدنى من
الوحدة الوطنية مما ساعد على
المضي قدما بالإجراءات
الديمقراطية. بناءا على هذا
التحليل فإن غياب تيار إسلامي
متسامح تعددي في الدول العربية
هو العنصر الأساسي الذي يعيق
قيام وحدة وطنية بين التيارات
السياسية المتنافسة، مما يعرقل
إجراءات التحولات الديمقراطية
في هذه البلاد. فهل صحيح أن
جميع التيارات الإسلامية في
الدول العربية ترفض التعددية
وتصر على قيام دولة إسلامية
شمولية؟ لا شك أنه لا
يمكن إنكار وجود بعض الميول
الشمولية المتشددة ضمن التيار
الإسلامي، إلا أن التيارات
السائدة في معظم الدول العربية
لا ينطبق عليها هذا التعميم
الذي لا يخلو من التبسيط المخل
والنظرة القاصرة التي لا تدرك
تعقيدات الظروف السياسية التي
مهدت أساسا لظهور التشدد عند
بعض التيارات الإسلامية. إن
إلقاء اللائمة على الإسلاميين
فيما يخص غياب الديمقراطية
ووصمهم جميعا بالتشدد
والشمولية، يساهم في تشجيع
وازدياد التشدد، كما يقدم
المبررات لممارسات الأنظمة
الدكتاتورية والاستبدادية التي
صادرت فعليا الديمقراطية
وأقصت، بل في بعض الأحيان
استأصلت، جميع التيارات
السياسية المعارضة، سواء منها
الإسلامية أو غيرها. إن الميول
والتوجهات التعددية ليست، ولم
تكن في يوم من الأيام، غائبة عن
الساحة الإسلامية في العالم
العربي. وربما لا نبالغ لو قلنا
أن الذي غاب عن الساحة
السياسية في العالم العربي هو
التحليل الموضوعي، والنظرة
الحيادية، والقراءة المتأنية
للواقع الجائر وظروفه السياسية
الاستثنائية، التي عانت
ومازالت تعاني منها الحركة
الإسلامية بشكل خاص، في كثير من
الدول العربية. فعندما تتقدم
حركة إسلامية ببرنامج سياسي
معتدل، كالمشروع السياسي الذي
طرحته جماعة الإخوان المسلمين
في سوريا أواخر عام 2004، على سبيل
المثال، حيث تدعو فيه بشكل واضح
وصريح إلى قيام دولة مدنية
تعددية وديمقراطية تضمن
الحريات وتحقق المساواة لجميع
المواطنين والشرائح في المجتمع
السوري، في حين أنها تواجه في
الوقت ذاته نظاما قمعيا يقابلها
بسياسات الإقصاء والاستئصال،
نقول عندما تتقدم هذه الحركة
ببرنامج تعددي ضمن هذا الواقع
الصعب، لا يمكن لأي مراقب محايد
أن يحملها مسؤولية هذا الوضع
الشاذ الذي يرزح تحته المجتمع
السوري. فالمعادلة الصحيحة التي
يجب الاعتراف بها هي أن
المواجهة العنيفة بين التيار
الإسلامي وبين الاستبداد في
سوريا لم تكن نابعة من أفكار
ومفاهيم وبرامج إسلامية
متشددة، كما يتوهم البعض، بل
كانت نتيجة طبيعية لسياسات
القمع والبطش والاستئصال
الوحشي الذي مارسه النظام في حق
الحركة الإسلامية، مع العلم أن
هذا القمع قد طال أيضا، وإن كان
لدرجة أقل نسبيا، جميع التيارات
السياسية المعارضة، بل حتى
المفكرين والمثقفين المستقلين
والمواطنين الأحرار لم يسلموا
من جبروت هذا الطغيان الجائر. سواء كان هذا
التوجه المنفتح والتعددي جديدا
على الحركة الإسلامية، أو كان
أصيلا ولكن دفعت الحركة بعيدا
عنه في ظروف استثنائية قاسية،
فإنه يستحق اليوم أن يؤخذ بعين
الاعتبار، ويتطلب دراسة
موضوعية متأنية، فهو على أقل
تقدير يشكل خطوة هامة وجديرة
تمهد لبناء ديمقراطية إسلامية
راشدة، تحقق العدل والمساواة
والتسامح وسيادة القانون،
وتضمن الحريات الفردية
والسياسية وحقوق المجموعات
الدينية والعرقية، كما تفتح
الباب أمام الجميع للمشاركة
السياسية الإيجابية. إن هذا
التوجه التعددي الذي تبنته جماعة
الإخوان المسلمين في سوريا في
مشروعها السياسي، والذي أصلت له
هذه الورقة عبر البحث في
المصادر الإسلامية والتاريخية،
يبرهن بوضوح على أن مسألة تأسيس
ديمقراطية إسلامية معاصرة هي
إمكانية ماثلة أمامنا، بل إنها
أمل واعد في المستقبل القريب
إنشاء الله. *
هذه
المقالة هي خلاصة مترجمة لبحث
مفصل باللغة الانكليزية حول
الإسلام والديمقراطية، وقد
قدم ملخص البحث كورقة في ورشة
عمل نظمها مركز موناش آسيا
التابع لجامعة موناش
الاسترالية تحت عنوان "الثقافة
الإسلامية وبناء الأمة
والإعلام: قضايا معاصرة"،
وقد جمعت هذه الورشة باحثين
أكاديميين وإعلاميين مسلمين
وغربيين في فندق ويندزر (ملبورن)
بتاريخ 22 و23 أيلول 2006. يرجى
ممن لديه ملاحظة أو تصويب أو
نقد أن يراسل الكاتب على
البريد الإلكتروني التالي:
l_a_baki@hotmail.com للاطلاع
على باقي المواضيع التي نوقشت
في ورشة العمل (باللغة
الانكليزية)، يمكن الدخول على
أحد الروابط التالية: http://www.arts.monash.edu.au/mai/islam/abstracts.pdf#search=%22%22louay%20abdulbaki%22%22 [1]
للمزيد
من التفاصيل حول بيعة العقبة،
انظر سيرة ابن هشام. [2]
المصدر
السابق، ص 501-504؛ انظر أيضا
أكرم ضياء العمري: مجتمع
المدينة في عهد النبي (صلى
الله عليه وسلم). [3]
للاطلاع
على تفاصيل الحوار الذي دار
في سقيفة بني ساعدة، انظر ابن
قتيبة الدينوري، الإمامة
والسياسة؛ انظر أيضا سيرة ابن
هشام. [4]
سيرة
ابن هشام، ص 261. [5]
حول
نشأة وتبلور المذاهب
الفقهية، انظر مناع القطان،
التشريع والفقه في الإسلام:
تاريخاً ومنهجاً. [6]
انظر
كتاب الأحكام السلطانية
والولايات الدينية لأبي
الحسن الماوردي. [7]
ابن
تيمية، السياسة الشرعية في
إصلاح الراعي والرعية، ص 137-138. [8]
انظر
الأعمال الكاملة للإمام محمد
عبده؛ وجمال الدين الأفغاني:
الأعمال الكاملة، تحرير
الدكتور محمد عمارة. [9]
مجموعة
رسائل الإمام الشهيد حسن
البنا، ص 322، انظر أيضا ص 319. [10]
نظام
الحكم في الإسلام، تقي الدين
النبهاني. [11]
انظر
مذكرات القرضاوي، الجزء
الثالث: القرضاوي شاهد على
النكبة، الحلقة
الثانية: وقفة مع سيد قطب،
إسلام أون لاين، على الرابط
التالي: http://www.islamonline.net/Arabic/Karadawy/part3/2003/11/article02.shtml
|
ـ |
ـ |
من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ |