ـ |
ـ |
|
|
||||||||||||||||||
قضايا المجتمع (3) بسم
الله الرحمن الرحيم القتل
دفاعاً عن الشرف الجناية..
والعذر الهدف
من هذه الدراسة: هذه
الدراسة محاولة موضوعية لوضع
الجناية، فيما أطلق عليه
إعلامياً (جريمة الشرف والعذر
المحل) في إطارها العدلي
والقانوني، ولرصد الظاهرة
وحجمها وأبعادها، والوقوف عند
الانعكاسات الواقعية لها،
جناية وعذراً في واقع يشتبك فيه
الجاني مع الضحية، والعدلي مع
الاجتماعي. البحث عن مناط
العدل، والسعي إلى إقراره في
حياة الناس هو الهدف الأساس
لهذه الدراسة. وأول
العدل ألا نباشر البحث منحازين
مع أو ضد، بل أن نتسلح
بالموضوعية والحياد والواقعية.
إن إشاراتنا المتعددة لمقررات
الشريعة الإسلامية في سياق هذا
البحث؛ لا يعني أننا نقترح لهذه
الشريعة دوراً تكميلياً أو
ترقيعياً. فنحن نعتقد أن
المنظومة التشريعية الإسلامية
منظومة متكاملة. منظومة لها
قواعدها وضوابطها وأطرها
وأحكامها. إن محاولة الاتكاء
على بعض هذه المقررات فيما يروق
للبعض من أحكام، والتغافل عن
السياق العام لها ليس من
المنهجية العلمية في شيء. إن
الإجابة غير المباشرة ردا على
تساؤلات تتناثر في كتابات البعض
هو هدف آخر لهذه الدراسة، في سعي
منا لإيضاح مكانة الشريعة
الربانية، والتصدي لمحاولات
تبذل لإقناع شعوبنا باستبدال
الذي هو أدنى بالذي هو خير. لقد
اخترنا لبحثنا عنوان (القتل
دفاعاً عن الشرف، الجناية
والعذر) َلأننا رأينا هذا
العنوان أقرب لروح القاضي
المحايد من العنوان الشائع (جريمة
الشرف والعذر المحل) الذي يحمل
في طياته روح التناقض، والإدانة
المسبقة. ثم
من المفيد في هذا السياق أن ننوه
أنه في إطار بحث علمي منهجي لا
يقبل ذلك الضرب من التلاعب
البلاغي بالألفاظ والزوغان عن
مواجهة الحقائق، بتقديم صياغات
جوفاء لمفاهيم الشرف والعقوبة
والجريمة. القتل
دفاعاً عن الشرف حجم
الجناية وأبعادها تشكل
ظاهرة (القتل دفاعاً عن الشرف)
جناية متعددة الوجوه والأبعاد.
وهي تخلف شرخاً مأساوياً بعيد
الغور في الحياة الاجتماعية ،
والأسرية. إنها عاصفة مدمرة
تجتاح كيان الأسرة ووجودها،
وتصبغ حاضرها، وترخي بظلالها
على مستقبلها ومستقبل أفرادها. في
جناية كهذه ثمة
أكثر من جناية، وأكثر
من ضحية . يميل البعض إلى إدانة
الجناية المادية الظاهرة ،
والتعاطف مع ضحاياها. ويتناسون
الضحايا على الطرف الآخر!! لا
أحد يرصد عمق الجرح الاجتماعي
أو يتتبع آثاره ومساربه العميقة.
قليل من يحاول أن يرصد اختلاج
النفس الإنسانية المرتجفة تحت
وطأة عوامل متناقضة من الغضب
والخوف الاجتماعي والحب
والشفقة.لا أحد يتتبع مصير
الأسرة الاجتماعي بعد أن قيل
فيها ما قيل، أو حدث ما حدث. كم
ضحية ذبحت اجتماعيا بسكين
الجريمة الفاحشة ، التي يسوّقها
البعض اليوم حقا شخصيا وحرية
فردية، ويأبى المجتمع أن ينظر
إليها إلا على
طريقته؟! لا أحد يتابع ليالي
الأم المفجوعة الطويلة،
وتقلبات الأب الحاني أو الجاني (بالمهملة
و المعجمة) على فراش العذاب
النفسي، ومصير الأخوات
الباقيات، إن كن، ومستقبلهن،
والوزر الذي سيتحملهن، أو
يحملنه خلافا لقوله تعالى (ولا
تزر وازرة وزر أخرى)!! لقد
فُرضت هذه الظاهرة، بفعل فاعل،
على كثير من أولويات الإصلاح
الاجتماعي والسياسي. حتى أصبحت
جزء من أجندة عربية وإسلامية،
تقرأ عنها في مصر والشام كما
تقرأ عنها قي تركية وباكستان.
وينخرط في الحديث عنها رجال
الفكر والسياسة، و تناقشها
شاشات العرض وخشبات المسارح
وفنون النثر والشعر. إشارتنا
هذه لا تعني موقفاً مسبقاً، ولا
تعني أننا مع أو ضد. وإنما هي جزء
من بيان موضوعي يقتضينا السياق
أن نشير إليه. ربما يخيل لمن
يتابع عن بعد الموجة التي تثار
للدفع بهذه الظاهرة إلى السطح،
أن ذبح النساء، زوجات وأخوات
وبنات، هواية تمارس في
مجتمعاتنا صباح مساء، كما يوحي
بذلك بعض الكاتبين والكاتبات. من
غير نكران لجوانب السلب في
حياتنا الاجتماعية، نستطيع أن
نؤكد أن مستوى الجريمة في
مجتمعاتنا العربية والإسلامية
أقل بكثير مما هو في مجتمعات
تدعى متقدمة، وتقدم لنا على
أنها انموذج يحتذى!! العلاقة
بين الرجل والمرأة، ولا نقصد
هنا الزوج والزوجة فقط، لا
يضبطها قانون ولا يحرسها شرطي،
وإنما يضبطها سلوك راسخ في
النفس ينبع مما نسميه القيم
الأساسية، ومع إقرارنا أننا لا
نملك إحصاءات دقيقة ترصد حجم
الجريمة ومساحتها وعمقها؛ نؤكد
من غير تردد أن حجم العنف المادي
والمعنوي الذي يقع على نسائنا،
وهو مستنكر ومدان، لا يبلغ، في
كمه وكيفه، عشر ذاك الذي يقع في
بلاد الآخرين. عندما
تصطدم المرأة في عالمنا بزوج فظ
غليظ أو عنيف تركن إلى ركن شديد
وناصر من أسرتها: أب أو أخ أو عم،
والمرأة هناك تتحمل مصيرها بصمت
أسود مريب ؛ ولاسيما إذا لم يكن
لها مصدر دخل حقيقي يغنيها عن
العوز والمهانة. ثم لا ننسى
العنف الذي يمارسه الرجال هناك
تحت تأثير الخمر أو المخدر،
وهما داءان قد تعافت منهما
مجتمعاتنا إلى حد كبير. في
المجتمعات الأنموذج التي يقترح
علينا البعض تقليدها يتم إحصاء
جرائم القتل والسلب والسطو
المسلح والاغتصاب بالثواني. وفي
تلك المجتمعات، التي يحسبها
البعض مخملية تتعرض المرأة
لأنواع من العنف والامتهان،
بنسب تضج منها استطلاعات الرأي
ووثائق الإحصاء ولا تخطر لليلى
ولا لزينب على بال. لا
نتحدث في مجتمعاتنا عن (مدينة
فاضلة)، ومشكلة القتل دفاعاً عن
الشرف إحدى المشكلات التي تهدد
أمننا الاجتماعي، والتي تحتاج
إلى مبادرات متعددة الاتجاهات
لاحتواء أسبابها وتوابعها،
ووضع حد لانتشارها، والأخذ على
أيدي مرتكبيها. إن
التأكيد على محدودية الظاهرة لا
يعني التقليل من أهميتها، أو من
خطورتها. إن إيماننا بقدسية
النفس الإنسانية وحرمتها مبدئي
وليس كمياً. حرمة النفس الواحدة
في شريعتنا هي حرمة الإنسانية
جمعاء. وهذه الحقيقة تجعلنا
نتوقف بجدية مع القضية
المطروحة، لنتلمس مناط العدل في
تشريع يدفع البغي ويحد من
العدوان. الشريعة
الإسلامية تبني مجتمعها تٌحسب
المجتمعات العربية والمسلمة
على الشريعة الإسلامية المطهرة
. بشكل ما يحاول البعض أن يلبس
العوائد الاجتماعية ثوب
القداسة، ويعتبر الدفاع عنها
نوعاً من الدفاع عن الإسلام ،
بينما يجد آخرون في التنديد بها
مدخلاً خفياً لغمز جانب الشريعة
، والنيل من تشريعاتها. وينشأ من
هذه المواقف نوع من الإثارة أو
التحدي ، و في إطار الفعل ورد
الفعل، يفقد الموقف المطلوب
صوابيته. لا
بد من الإشارة في هذا السياق إلى
أن بعض الاجتهادات الفقهية،
التي صدرت عن أصحابها في عصور
خلت ، بحاجة إلى بعض المراجعة، في
إطار عملية (التجديد) التي
تقتضيها طبيعة الشريعة ذاتها،
لتوائم بين النص الشرعي وحياة
الناس. الاستنباط المتجدد
بشروطه من النص الثابت هو مهمة
المجتهد المسلم بما يحقق مصالح
المسلمين ويدفع الحرج عنهم. هناك
عوائد اجتماعية صُلبة جهدت
الشريعة الإسلامية منذ استقرت
لتغييرها أو ضبطها، ولكنها
استطاعت أن تتكيف مع الواقع
التشريعي الجديد، أو أن تلتف
أحياناً عليه. فالثأر مثلاً
مازال عادة اجتماعية متوارثة،
حتى بعد أن وضع الرسول الكريم
دماء الجاهلية في حجة الوداع ،
وأكد حرمة الدماء والأعراض
والأموال، وبعد أن فرضت الشريعة
القصاص بديلاً. يعني الثأر أن
يقتص الإنسان لنفسه، ويعني
الثأر أن تتحمل العشيرة أو
الأسرة الأكبر أجمع مسؤولية فعل
أحد أبنائها، في الثأر بغي
وعدوان وفوضى، ولكنه بقي عادة
اجتماعية صُلبة ماتزال
المجتمعات العربية والإسلامية
ترزح تحت وطأتها، وتدفع ضريبتها. سنجد
في العوائد المتعلقة بالمرأة
العربية، مساحة أكبر للعوائد (الصلبة).
فقد حرم الإسلام أنواعاً
من النكاح ، ولكن المجتمع
مايزال يعمل بها، كزواج الشغار
والمقايضة. كما حرم الإسلام عضل
المرأة ومنعها من الزواج ، أو
إكراهها على الزواج بمن لا
تريد، ولكن هذه العادة
مرصودة على نحو واسع في
حياتنا الاجتماعية. و حرم
الإسلام أن تُّحرم المرأة من
حقها في الميراث ، أو أن يفضّل
إخوتها عليها بنوع من العطية،
ولكن هذا التقليد مايزال متبعاً
في حياتنا المدنية ، حرم
الإسلام أشكال العنف اللفظي
والمادي بحق المرأة ، ولكنه
مازال عادة معمولاً بها[1]،
و قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم (لا تمنعوا إماء الله
المساجد ..) ولكن أقدام نسائنا،
في الشام خاصة، لم تكد تعرف
طريقها إلى المسجد. خص الرسول
الكريم النساء بدروس تعليم
وإرشاد، وكان الناس لعصر قريب
يقولون إن الأمية للمرأة أحوط،
وفيه سد للذرائع!! أردنا
من هذه التمثيلات السريعة، أن
نفصل بوضوح بين العديد من
المواضعات والعوائد الاجتماعية
وبين الشريعة الإسلامية. فليس
جميع العوائد الاجتماعية
منتمية إلى الشريعة، وكوننا قد
فتحنا أعيننا عليها لا يعني
أنها مقدسة. ومحاولة تغييرها أو
إصلاحها ليس تمرداً على الشريعة
بل هو أحياناً تحقيقاً لمقاصدها. ينبغي
أن يكون واضحاً أن للشريعة
الإسلامية منظومتها التشريعية
المتكاملة. وهذه المنظومة
التشريعية تقوم أصلاً على قاعدة
مجتمعية إيمانية. وهذه القاعدة
، ببنيتها العامة مع ما قد تشتمل
عليه من تباينات في مستوى
الالتزام، هي الأساس الأولي
لبناء المجتمع. تغطي الشريعة
الإسلامية المجال الذاتي
والحيوي للفرد والأسرة
والمجتمع والدولة، وفي هذه
الأطر يتأسس نظام الشريعة
وقانونها. العدالة
في مجتمع الشريعة يمثلها المنهج
و القانون والقاضي. إن اجتزاء
الحكم الشرعي وإفراده عن
المنظومة التشريعية لتوظيفه
لخدمة هدف قريب مع الإعراض عن (كلي)
الشريعة هو نوع من الاستخدام
للشريعة لا يليق: (وإذا دعوا إلى
الله ورسوله ليحكم بينهم إذا
فريق منهم معرضون وإن يكن لهم
الحق يأتوا إليه مذعنين أفي
قلوبهم مرض أم ارتابوا أم
يخافون أن يحيف عليهم الله
ورسوله ). في
مقاصد الشريعة الإسلامية كما
اتفق عليها الفقهاء تتقدم
المقاصد الخمسة التالية: حفظ
الدين ـ حفظ النفس ـ حفظ العقل ـ
حفظ العرض ـ حفظ المال. سنجد أن
مقصدين من هذه المقاصد (حفظ
النفس ـ حفظ العرض) تشتبك في
القضية التي نتحدث عنها. ·
في
شرعة الإسلام يتساوى الرجل
والمرأة في أطر ثلاثة: المساواة
المطلقة في الكرامة الإنسانية.
والمساواة في الأهلية لشرعية،
والمساواة في الأهلية المدنية
على تفصيل في ذلك[2].
وفي إطار المساواة المدنية
نتحدث عن المساواة في المسؤولية
الجنائية والمساواة أمام قانون
العقوبات. ·
في
شرعة الإسلام ـ الزنا ـ جريمة من
الجرائم الكبرى (ولا تقربوا
الزنا إنه كان فاحشة وساء
سبيلاً). وهذه الجريمة واحدة من
الجرائم التي يعاقب عليها بالحد
كعقوبة زجرية مشددة. ·
وفي
شرعة الإسلام الرجل والمرأة
سواء في هذه الجريمة، وسواء في
العقوبة أيضاً، وإن لم يكن
الأمر في المجتمعات العربية
والإسلامية كذلك. ·
في
شرعة الإسلام لا تثبت جريمة
الزنا إلا بعدد مضاعف من
الشهداء (أربعة شهداء) نظراً
لحساسية القضية. بينما يكفي في
جريمة القتل شاهدان. أما الشروط
التفصيلية لشهادة الشاهد،
فتجعلك تحسب الجريمة لا تثبت
إلا بإقرار. ·
في
شرعة الإسلام إشاعة الفاحشة في
ثنايا المجتمع ، وتهوين أمرها،
جريمة إضافية تنضم إلى الجريمة
الأساسية (إن الذين يحبون أن
تشيع الفاحشة في الذين آمنوا
لهم عذاب أليم في الدنيا
والآخرة..) بمعنى
أن للفاحشة بعدا غير البعد
الفردي ؛ بعدا اجتماعيا يتعلق
ببنيان الأسرة والمجتمع. ·
في
شرعة الإسلام، الاتهام بالزنا
دون بينة ـ أربعة شهداء_ بشروط
الشهادة المشار إليها جريمة
كبيرة، القذف ، يعاقب عليها
بإحدى العقوبات الزجرية
الشديدة. وليس لأحد أن يطلق هذه
التهمة من غير بينة مادية، إلا
الزوج. ·
في
شرعة الإسلام عندما يوجه الزوج
مثل هذه التهمة إلى زوجته تكون
كلمتها مقابل كلمته، وتكون
كلمتها هي الفصل في القضية، وفق
إجراء شرعي يعرف باللعان. ·
في
شرعة الإسلام على الرجل إذا رأى
مع زوجته رجلاً أن يأتي بأربعة
شهداء ليثبت الجريمة، أو أن
يلاعنها ليضع حداً لعلاقته بها. ·
في
شرعة الإسلام (لا تزر وازرة وزر
أخرى) والخطيئة فردية وكل إنسان
يتحمل وزر عمله. ·
في
شرعة الإسلام (تدرأ الحدود
بالشبهات) وتشترك ظروف الجناية،
ودوافعها، وحالة الجاني في
تحديد مقدار العقوبة تشديدها أو
تخفيفها. ·
وأخيراً
في شرعة الإسلام، ليس للشخص أن
يقتص لنفسه. والأصل في أمر
القصاص والعقوبات أنها لولي
الأمر ومن يمثله. والقاضي هو
صاحب الكلمة الفصل في إثبات
الجريمة، وتحديد العقوبة
وإيقاعها. ما
وراء الأكمة صراع
على المرجعية والقيم نفترض
أن إرادة الإصلاح هي الباعث
الذي يبعث الكثيرين إلى مقاربة
موضوع (العذر المحل) بسلب أو
بإيجاب، بمعنى أن هناك على
صعيدنا الوطني رؤية وليس مؤامرة.
وهذا الافتراض الأولي، يشجع على
الانخراط في هذا التجاذب
الاجتماعي، ذلك أننا من خلال
متابعتنا لمعطيات الساحة
السياسية والثقافية
والاجتماعية، الدولية
والإقليمية، ندرك أن طرح ما
يسمى (جريمة الشرف والعذر المحل)
هو عنوان في سياق، وأن وراء
الأكمة على الصعيد الدولي ما
وراءها. نتمنى أن نمتلك جميعاً
الإرادة والشفافية لمناقشة
قضايا مجتمعنا في أطرها
الحقيقية. من غير تنابذ ولا
تراشق ولا اختباء وراء العناوين
والانفعالات. و
مادام (مشروع الإصلاح الوطني)
بأبعاده السياسية والاجتماعية
والاقتصادية قد ارتضى صندوق
الاقتراع فيصلاً وحكماً، فإن
الأمانة العلمية، والوفاء
الوطني، يقتضيان هذا النوع من
الشفافية في مواجهة الحقائق
وكشف الأبعاد الحقيقية للمواقف.
إن (الرأي العام) الواعي والمفكر
والمتنور هو هدفنا وهو جسرنا
أيضاً إلى الحياة الحرة
الكريمة، لا بغي ولا عدوان. رؤيتنا
لموضوع (الجناية دفاعاً عن
الشرف والعذر المحل)، مع
إقرارنا الأولي بإدانة مجريات
الواقع، لا يمكن اختزاله بإعلان
الإدانة لمادة في قانون، أو
التعاطف مع ضحية؛ هناك
مشكلة اجتماعية قائمة ذات
ارتباطات متعددة تحتاج إلى مبضع
الجراح. والإصلاح كمطلب كلي
يعتمد على ثوابت ومرتكزات وله
مناهج وآليات. أول ارتباط
للجناية التي نعالج شأنها هو
بالفعل السابق الذي أدى إليها.
هل يمكن أن نفصل في سياق متوازن
جناية عن أخرى ؟! وكيف ؟! الصراع
على القيم في
الخلفية
الأساسية للصراع الحضاري يفرض
الصراع على (القيم) نفسه.و يلقي
بظلاله على جميع مرتكزات الصراع
الحضاري وتجاذباته. بعض بني
قومنا الذين يستحسنون قيم الآخر
وأنماط سلوكه
ليس عليهم أن يترددوا في إعلان
ذلك ؛ لكي تكون الطروحات واضحة
ومكشوفة . لم
يعد الصراع على القيم مقتصرا
حول الخلاف على تصنيف أنماط
السلوك بين الخير والشر فقط، بل
تعمق الصراع أو الخلاف ليصل إلى
طرح التساؤل حول وجود الخير
والشر أو الحق والباطل المطلقين
، وفي مستوى أعمق يطرح السؤال
حول (المصدر) الذي يحكم في الخير
والشر ،أهو القانون الفطري
الطبيعي المجبول مع الكينونة
الإنسانية في قانون الخلق
الأزلي، والذي أطلق عليه القرآن
الكريم قانون الفطرة، معززا بمقررات
الشريعة الربانية، مؤيدا بما
تقتضيه بدائه العقول
ومسلماتها؛ أم هو قانون السوق
والسلعة المستعدة لتسعير كل
شيء؟! ثبات
القيم أو نسبيتها هو المناط
الحقيقي لكل التجاذبات
المطروحة على الساحة العربية
والإسلامية تحت الكثير من
العناوين الجزئية، التي يتم
الاختفاء خلفها، واقتناص بعض
أبعادها العاطفية لكسب التأييد
لها. ثبات
القيم أو نسبيتها ومرجعيتها هي
المناط لخلاف حضاري حول تحديد
المرجعية الأولية للحضارة
الإنسانية للتمييز بين الحق
والباطل والخير والشر والحسن
والقبيح. تحديد
المرجعية التي تميز الحق
عن نقيضه، وترسم ملامح
هويته، وتعطيه سلطانه ؛ واحدة
من قضايا الفكر الإنساني الكبرى.
ولقد تحدث الفلاسفة والمشرعون
على مدار التاريخ عن القانون
الفطري( الطبيعي)، بأساليب
ولغات وعناوين مختلفة ولكنهم
جميعاً كانوا يدورون حول جوهره:
الحق وجود أصيل في خلق الكون
والإنسان، وهو الذي يشكل ضمير
الفرد. وعندما يخرج الإنسان على
معالم هذا الحق يبدأ بالهروب من
نفسه. ترتكز مبادئ هذا القانون
على الأوليات العقلية ، و بها
يعرف الإنسان في داخله ميزان
العدل . في
إطار تاريخنا الحضاري، اختلف
المتكلمون المسلمون، كما اختلف
غيرهم ، حول الحسن والقبح؛
أشرعيان هما أو ذاتيان عقليان ؟
ومع أن ثمرة الخلاف لم تكن مقلقة
يوم كان هذا الجدل محتدماً بين (جمهور
المسلمين) والمعتزلة، إذ كان
الخلاف يدور على المناط دون أن
يصل إلى التطبيقات العملية. يدور
الجدل العصري، في إطاره
الحقيقي، حول مصدر الحكم على
القيم؛ فيما هو حق وباطل، وخير
وشر، وحسن وقبيح. وقبل هذا يدور
حول وجود الحق المطلق أو الخير
المطلق أو الحسن المطلق
ونقائضها. نتابع اليوم على
الصعيد الحضاري الإنساني حركة
تبادلية في مواقع القيم، وفي
تصنيف أنماط السلوك؛ إذ ألحقت
هذه القيم، بشكل ما ، بقانون
المنفعة أو بقانون السوق !! في
إطار متابعتنا للحركة
التبادلية، لمواقع القيم
ولتصنيف أنماط السلوك، سنشير
إلى بعض الشواهد التي يتعلق
بعضها بالجزئية التي نناقشها.
لأن اضطراب مفهوم الحق
والباطل أو الخير والشر يشكل
خطراً على الحضارة الإنسانية
أجمع، وليس فقط على مجتمعاتنا. ـ
مقررات مؤتمرات المرأة
العالمية والمؤتمرات السكانية
التي تعقد بإشراف الأمم
المتحدة، تلح على تجاوز الأسرة
كوحدة أساسية شرعية للاجتماع
الإنساني. وتطالب بتسهيل قنوات
الاتصال الجنسي خارج إطار
الزواج. ـ
الزنا في أكثر قوانين العالم
الغربي، لم يعد فاحشة ، بل أصبح
حرية...!! ـ
والشذوذ الجنسي غدا (مثلية) كلمة
شذوذ تعتبر إدانة مسبقة، ولا
يحق لنا استعمالها. ـ
(الأمهات العازبات) طبقة أو
شريحة اجتماعية ينبغي الاعتراف
بها والإفساح لها. ـ
لم يعد من حقوق الطفولة أن يمتلك
الطفل أسرة من (أبوين) ، وعلى
الدولة أن تستعد لاستقبال جيل
متكاثر من الأطفال أبناء
اللقاءات العابرة!! كما
أن الوحدات الاجتماعية الشاذة
منحت الحق في التبني أو في
استئجار الأرحام. ـ
الأحاديث ترى عن ضرورة إلحاق
تعاطي المخدرات في إطار (الحرية
الفردية) وأن تشارك الدولة في
تأمين الأجواء المناسبة للتمتع
بهذه الحرية، حتى لا يتم ذلك في
أجواء غير آمنة!! ـ
الحق في (إنهاء الحياة) هو بعض ما
يناقش هناك، ليس فقط في حالة (الموت
الرحيم) وإنما المطالبة بأن
يكون خياراً إنسانياً أولوياً.
وليس لأحد أن يفرض على إنسان أن
يعيش حياة يأباها. ـ
(الخيول المتعبة) التي تستهلك
ولا تنتج هي الأخرى تشكل عبئاً
على الاقتصاد العالمي، وهناك
مطالبات خفية لوضع حد لوجودها
في إطار المعطى الرأسمالي الجشع.
إنهم عبء حقيقي على فاتورة
الغذاءوالدواء. لذلك نؤكد أننا
نناقش سياقاً ولا نناقش جزئية.
وخلافاً للقائلين بنسبية القيم
أو الأخلاق وبتبعيتها
الاجتماعية (لثقافة المجتمع
وتقدمه وتطوره) نقول بثبات
القيم في جوهرها المطلق،
وبتبعية المجتمعات لها. لا ننكر
أن تحدث بعض التطورات في
المظاهر المعبرة، أو في الظروف
المرافقة، ولكن يبقى جوهر هذه
القيم ثابتاً. نؤمن
أن الحق أزلي وأصيل وثابت في خلق
السموات والأرض (ربنا ما خلقت
هذا باطلا سبحانك) (ولو اتبع
الحق أهواءهم لفسدت السموات
والأرض ومن فيهن ). نؤمن
أن مصدر القانون الأولي في
تمييز الحق من الباطل، كامن في
قانون الفطرة الأولي الذي يشترك
فيه جميع البشر (فأقم وجهك للدين
حنيفاً، فطرة الله التي فطر
الناس عليها، لا تبديل لخلق
الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر
الناس لا يعلمون).هذا القانون
الذي تدعى البشرية اليوم إلى
الخروج عليه. و
نؤمن أيضاً أن الشريعة الربانية
هي المصدر الفاصل في تمييز الحق
من الباطل، والخير من الشر،
والحسن من القبيح. نتحدث هنا عن
الشريعة الربانية المتمثلة في
جوهر القيم التي جاءت بها
اليهودية والمسيحية والإسلام.
الإسلام الذي جسد الحلقة
الأخيرة في التشريع الرباني (مصدقاً
لما بين يديه من الكتاب
ومهيمناً عليه). ثم
نرتكز ثالثاً على المعطى العقلي
المستقل الذي سيظل قادراً، ما
التزم المنهج العلمي المجرد،
على التمييز بين الحق والباطل.
إن العقل الجمعي لإنسانية
متحررة من طغيان أصحاب الأهواء
سيكون منحازاً إلى الأجمل
والأكمل. القانون
الفطري أو الطبيعي والقانون
الشرعي الرباني والقانون
العقلي المتحرر من سلطان الهوى
تتضافر هذه القوانين جميعاً
لتشكل مرجعية أولية تلوذ بها
الإنسانية جمعاء لحماية جوهر
وجودها، وللحفاظ على إرثها
الحضاري والمدني في مواجهة
قانون الهوى أو (الرغبة
والإشباع) الذي آل إليه أمر
المدنية الغربية. هذه المدنية
التي تسعى لتنصيب (قانون السوق)
مرجعية وحكماً في كل أمور
الحياة. لقد وقعت (المدنية)
الإنسانية أسيرة رأسمالية جشعة
تحكمت ليس في وسائل الإنتاج
المادي فقط، ولكن تحكمت في
وسائل الإنتاج الفكري
والمعرفي، وفي وسائل (البلاغ)
وقنوات الاتصال بالجماهير.و
تسعى هذه الرأسمالية إلى توظيف
معطيات العلوم لتلبية الرغبة في
الاستحواذ. وتموه المرجعية
الإنسانية لصناع القرار
الإنساني اليوم تحت مسميات
عمياء ينطق عنها
قوله تعالى (أ فرأيت من
اتخذ ألهه هواه أفأنت تكون عليه
وكيلاً). بمنهجية
علمية موضوعية نلتمس من جميع
العاقلين والعاقلات من أبناء
أمتنا، بشكل خاص، أن يتفكروا
إلى أين يمكن أن يقود الإنسانية
هذا الانفلات
وراء الرغبة والهوى؟! *
*
* * ولكن
ما الذي قادنا إلى كل هذا، ونحن
بصدد مناقشة: جناية على نفس،
وعذر محل يجعل الجاني يختال
بجنايته، وينسل منها كما تنسل
الشعرة من العجين، بدعوى الدفاع
عن الشرف ؟! الذي قادنا إلى كل
هذا هو أننا نريد أن ندين القتل
في إطار إدانة الجريمة التي
تسببت فيه. الجريمة
(الفاحشة) كما عبر عنها
القرآن. الذي
قادنا إلى كل هذا أننا نصر على
مصادرة الفاحشة من حياتنا
الاجتماعية أو على قطع الطريق
على إشاعتها. وأننا نرفض مصطلح (الأمهات
العازبات) و(الأطفال بدون أسر).
الأسرة هي الحق الأساسي الأولي
لكل طفل يولد في الفضاء
الإنساني الرحب، وسنظل
ندعم هذا الحق، ونذود عنه،
ونقاوم كل من يعمل على حرمان
أطفال العالم منه. الذي
قادنا إلى كل هذا هو حرصنا على
كرامة المرأة ومكانتها
، حرصنا على صونها من الابتذال
والانحدار إلى مستنقع الأشياء ،
والوقوف دون تحويلها إلى سلعة
للاستهلاك و الإشباع ، وتحويل
الجنس إلى صناعة تدر الربح
والمال. الذي
قادنا إلى كل هذا هو تمسكنا
بالمفهوم الأصيل للشرف الذي
أقرته الفطرة، ووضحت معالمه
الشريعة، وأشارت إليه عقول
العقلاء، ورفضنا للمفاهيم
المزخرفة التي يحاول من لا خلاق
له، أن يعيد تسويقها حسبما يزين
له (إلهه هواه..). الشرف القيمة
الجامعة لكل معاني السمو والطهر
والعفة والالتزام. شرف الموقف،
وشرف الكلمة، وشرف الروح، وطهر
الجسد، الشرف العفة التي
ارتضعناها فنمت مع الروح والدم
والجسد قبل أن تكون كلمات تلقى
أو معارف تلقن. الذي
قادنا إلى هذا أننا نريد أن نؤكد
أن مصطلح (الخاطئة الشريفة) لا
مكان له في معاجمنا ولا في
مجتمعاتنا ولا في ذواتنا. الذي
قادنا إلى هذا أننا نريد أن نؤكد
أن الرجل والمرأة في الخطيئة
سواء، وفي الإدانة سواء، وفي
العقوبة سواء. نقرر هذا لا لنلحق
حال المرأة بحال الرجل في
اللامبالاة الاجتماعية، بل
لنعكس الموقف فنلحق حال صاحب
الخطيئة بصاحبتها في السقوط
والرفض والازدراء. المبادرة
إلى القتل الفردي جناية مدانة
لما فيها من أخذ بالظنة، وتجاوز
في العقوبة، وافتئات على
القانون وتقدم عليه.في إطار
القيم الثابتة للحق والباطل،
والخير والشر، والحسن والقبيح
نبني رؤيتنا ومواقفنا. وسنظل
مرابطين مع أبناء أمتنا، وأبناء
مجتمعنا لحماية قيمنا بالخيار
الديمقراطي القائم على المعرفة
والفكر الحر المستنير والمتمثل
في نمط السلوك الرشيد. العقوبة..
فلسفة وأهداف العقوبة
في فلسفة التشريع الإسلامي هي (الجزاء
المقرر لمصلحة الجماعة).
والمقصود من العقوبة إصلاح
الفرد و حماية الجماعة وصيانة
نظامها. والعقوبة في التشريع
الإسلامي محددة مقدرة
في إطار، أو تعزيرية مفوضة
لرأي الجماعة أو من يعبر عنها. ويأخذ
التشريع الإسلامي العقوبات
المحددة بالأعذار المخففة ،
ويجعل تنفيذ هذه العقوبات
مشفوعا ما أمكن بهذه الأعذار (ادرؤوا
الحدود بالشبهات).و يترك الشارع
لإرادة الجماعة أو من يعبر عنها
تقدير عقوبة التعزير والتصرف
بها، تشديدا أو تخفيفا، حسبما
تقتضيه مصلحة الجماعة. كما يترك
للقاضي هامشاً واسعاً لتحديد
حجم العقوبة المفروضة في
الوقائع الفردية المتشابهة في
شكلها المختلفة في ظروفها.
القاضي في منهج العدل الإسلامي
حضور فاعل في تقدير حجم
العقوبة، وليس منفذاً آلياً لما
ترسمه القوانين الصارمة. يقرر
الفقهاء المسلمون أن العقوبات (موانع
قبل الفعل زواجر بعده) وأن حد
العقوبة ـ التعزيرية ـ هو حاجة
الجماعة ومصلحتها. فإذا اقتضت
مصلحة الجماعة التشديد شددت
العقوبة، وإذا اقتضت مصلحة
الجماعة التخفيف خففت العقوبة.
ولا يصح أن تزيد العقوبة أو تقل
عن حاجة الجماعة. وبالنسبة
للعقوبات (المحددة) إذا درئت
بالشبهة أي أخذت بأي عذر مخفف
فإنها تتحول إلى عقوبة تعزير،
بمعنى أنه لا تسقط العقوبة
تماماً وإنما تترك لتقدير (المشرع)
و(القاضي).)[3]،
وفي
فلسفة التشريع الإسلامي تأديب
المجرم ليس معناه الانتقام منه
وإنما استصلاحه. ويرى الفقهاء
كما يقول الإمام الماوردي في
الأحكام السلطانية : العقوبة (تأديب
استصلاح وزجر يختلف بحسب اختلاف
الذنب). ويقرر ابن تيمية رحمه
الله تعالى أن العقوبات (إنما
شرعت رحمة من الله بعباده فهي
صادرة عن رحمة الخلق وإرادة
الإحسان إليهم، ولهذا ينبغي لمن
يعاقب الناس على ذنوبهم أن يقصد
بذلك الإحسان إليهم والرحمة
لهم، كما يقصد الوالد تأديب
الولد، وكما يقصد الطبيب معالجة
المريض). تتأرجح
فلسفة العقوبة بين اعتبارين
الأول اعتبار مصلحة الجماعة وما
يقتضي ذلك من تشديد العقوبة،
والتغافل عن مصلحة (الفرد) ، أو
اعتبار مصلحة (الفرد)، وهو هنا
الجاني أو المجرم، والتغافل عن
مصلحة الجماعة. التشريع
الإسلامي يوازن في اعتبار
المناطين؛ فهو التزم مصلحة
الجماعة في جميع الأحوال، واهتم
بشأن الفرد في أكثر الأحوال. أي
أن التشريع الإسلامي أخذ بمبدأ
حماية الجماعة على إطلاقه،
والتمس هذا البعد في كل
العقوبات المقررة وهذا ما عبر
عنه (بالزجر)، كما أخذ بمبدأ
حماية الفرد حيث أمكن ذلك بمعنى
أنه أقر العقوبة بروح التأديب
والإصلاح، وحض على العفو
والتجاوز في مقامهما. قوله
تعالى ( ولكم في القصاص حياة )
يؤكد رعاية
الإسلام لحق الجماعة أصلا،
ولحقوق المجني عليه التي
أهدرتها التشريعات المعاصرة
تحت عناوين مختلفة. في
تقويمنا لأي منظومة تشريع
يرشدنا إلى وجه الحق فيها جواب
السؤال التالي: هل يثمر قانون
العقوبات تطويقاً لعالم
الجريمة، وتجفيفاً لمنابعها،
وتخفيفاً من عرامة المجرمين؟
الجواب على هذا التساؤل يشكل
الأساس الذي يقطع اللجاجات على
أهلها. المجرمون في المجتمع
المدني الإنساني يزدادون
عرامة وعنفاً وقسوة ومكراً.وحوادث
القتل والسطو والاغتصاب
والفساد، وهي الجرائم الأكثر
تهديداً للمجتمع المدني في هذا
العصر، تزداد قسوة وانتشاراً. في
مراجعتنا لقانون العقوبات
المدني في توجهات، قانون كوني
عام، نلحظ أن هذا القانون يسعى
لتقديم مصلحة (الفرد) على مصلحة (الجماعة)
متأثراً بذلك بفلسفة الحرية
الفردية التي هي جزء من الفلسفة
الرأسمالية. فلسفة العقوبة
المعاصرة ترى بعداً واحداً في
الجناية أو الجريمة، مصلحة
الجاني واعتباره ضحية،
والمطالبة بالتعاطف معه،
والتماس الأعذار له، على
كل حال. محاباة
الجاني على حساب المجني عليه
يدخل خللا غير محدود على مفهوم
العدل وتطبيقاته العملية.
بتمويهات مخادعة تسقط
التشريعات المائعة الحقوق
الفردية للمجني عليه وتدمجها
لتضييعها في الحق العام للمجتمع. في
إطار قانون عقوبات رادع ينبغي
أن نميز بين الخطاة والمجرمين.
إن معطيات قانون العقوبات
المقترح كونيا تقوم على نبذ
العقوبات الزجرية. واعتبار
المجرمين، بمعنى ما، أشخاصاً
أولى بالرعاية. إن العقوبة
الزجرية ليست عقوبة انتقامية من
المجرم كما يحاول بعض قصار
النظر تصويرها. المقصود من
العقوبة الزجرية أن تكون رادعاً
لدائرة من الأشخاص يضعون
أقدامهم على أطراف دائرة
الجريمة لئلا يقعوا فيها. يطالب
المشرعون الحداثيون بنبذ
العقوبات الزجرية!! وأن تقتصر
العقوبة على اعتبار جانب
الرعاية حتى مع عتاة المجرمين.
ويرتبط هذا المطلب بالموضوع
الذي نسجل هذه المطالعة حوله
بطريقة عكسية ؛فالمجرم ضحية يجب
أن يرعى جانبه ، وأن يخفف عنه في
كل سياق إلا هذا السياق!! ولا
يرى المشرعون الكونيون في
العقوبات الزجرية بكل أنواعها
وسيلة لإصلاح المجرم أو تأديبه
أو زجر الآخرين عن الوقوع فيما
وقع فيه.. بل هم يستنكرون جميع
أشكال هذه العقوبات وينبذونها
بأنها بدائية أيضاً، و ينبع ذلك
من لامبالاتهم بالحقوق الفردية
للمجني عليه و بمصلحة الجماعة.
فعدوان (المجرم) على الجماعة
يبقى مسوغا عند هؤلاء مقابل حرص
مزيف على مصلحة فرد منحرف ؛
ولكننا نلحظ أن المتسلطين الذين
يسيرون هؤلاء المشرعين يصرون
على استخدام العنف الجسدي
لحماية مصالحهم الذاتية، ضد
مخالفيهم في السياسات أو
الأفكار أي ضد الأبرياء
والشرفاء!! في
فلسفة قانون العقوبات الذي يطرح
في إطار توجه كوني عام تميل نصوص
التشريع إلى تضييق دائرة
المحظور الاجتماعي، وتوسيع
دائرة الحرية الفردية، وتخفيف
نطاق المسؤولية، وتمييع
العقوبات أو تجاوزها. وفي
إطار هذه الفلسفة نتابع إلحاحا
من منظمات حقوقية دولية، وباسم
الأمم المتحدة، تطالب بإسقاط
عقوبة الإعدام من سياق القانون
العالمي وقد ألغيت هذه العقوبة
فعلا في كل من فرنسا وألمانيا
والنمسا والدنمرك وفنلندا
وأيسلندا ولوكسمبورج والنرويج
والبرتغال والسويد وكندا
ونيوزلندا الجديدة، ودول
أمريكا الوسطى وأمريكا
الجنوبية، وجنوب أفريقيا،
وألغيت جزئياً في بلجيكا
واسبانيا وإيطاليا وانكلترا.
وما يزال رجال هذه المنظمات
يشنون حملتهم لجعل إلغاء هذه
العقوبة التزاماً إنسانياً
ودولياً متفقاً عليه. إن
إيماننا بقيمة الحياة
الإنسانية، وبقدسيتها لا حدود
له. وإن حرصنا على هذه الحياة
يجعلنا نتشدد في حمايتها، ونرى
قي العقوبة
الرادعة الجسر
الحقيقي للزجر عن الاستهانة بها إن
من المهم الذي ينبغي أن نشير
إليه في سياق إطلاق يد المجرمين
الممارسين لعمليات السطو
والاغتصاب والقتل، واعتبارهم
أشخاصا أولى بالرعاية، يأتي
التحلل من القيم كنمط للسلوك
الاجتماعي الذي ترى فيه
المجتمعات الغربية نوعاً من
الحرية الفردية، بكل ما يحمله
هذا النمط من ألوان البلاء
الإنساني. لم يعد الزنا جريمة،
ولا اللواط جريمة ؛ لا دينية ولا
مدنية ولا مجتمعية!! بل غدت
الإباحية الجنسية مطلباً تلح
عليه المنظمات الدولية
ومؤتمرات السكان والمرأة في
نصوص واضحة
لفرضه على جميع المجتمعات
الإنسانية بدون استثناء، كأحد
الأساليب المقترحة للحد من
التكاثر السكاني، الذي يهدد
السلطة الرأسمالية الخفية
بمزيد من الشركاء على ظهر هذا
الكوكب. إن
النصوص صريحة في مقررات تلك
المؤتمرات التي تلح على تجاوز
الأسرة كوحدة اجتماعية، أو
كأسلوب شرعي وحيد للقاء الجنسي.
وبالطبع لا يمكننا أن ننسى أن
لتلك المنظمات الدولية، التي
تشرف عليها الأمم المتحدة
وترعاها صناديقها الإنمائية
والدعائية، وترتبط بها العديد
من المنظمات المحلية
والإقليمية، وتسير في ركابها
دول، ومراكز دراسات، ومثقفون؛
أجندتها الخاصة التي تعمل
عليها، والتي تسمح لك أن تمسك
بسهولة برأس الخيط لتعلم أين
ينتهي. وبينما
يميل التشريع الكوني العام الذي
ترعاه هذه الجهات أجمع إلى
اعتبار المجرم (القاتل ـ
والمغتصب ـ والممارس لعميات
السطو والسلب ـ وتاجر المخدرات)
مريضاً اجتماعياً، وضحية يحتاج
إلى الرفق والشفقة والتعامل معه
في إطار عيادات الطب النفسي؛
تأتي الدعوة في العالم العربي
والإسلامي إلى تشديد النكير على
بعض الجناة الذين التمس لهم القانون
المدني العذر من واقع اجتماعي
ثقيل، لتدير الشراع في الاتجاه
المخالف للريح، وتطالب بإسقاط
كل عذر للجاني الذي هو على
الحقيقة ضحية لواقع لا يمكنه
الانفلات منه. سنكرر
دائماً أننا لسنا بصدد تسويغ
القتل ولا تسويغ الجناية التي
تتم تحت عنوان الدفاع عن الشرف،
وإنما نحن بصدد وضع القضية
المثارة في إطارها الدولي
(السياسي والثقافي
والاقتصادي). إن
وجود العذر المحل والعذر المخفف
ـ بغض النظر عن موقفنا- مما
يتناسب مع السياق التشريعي
العام الذي تقوده المنظمات
الدولية ذات الصلة حيث تلح هذه
المنظمات على تخفيف الوطأة عن
عالم الجريمة، وتمييع مفهوم
العقوبة، واعتبار المجرم ضحية،
وتتوفر جهدا ووقتا ومالا للدفاع
عن حقوقه. تراقب هذه المنظمات
حياة نزلاء السجون، أكثر مما
تفعله بالنسبة لنزلاء دور
العجزة، أو للأطفال الذين
يعيشون في الملاجئ و المخيمات!!
السؤال الذي يفرض نفسه: لماذا
هذا الإلحاح على نبذ مرتكب
جناية الشرف من هذا السياق؟!
لماذا لا تستمر النظرة إلى
الجاني على أنه ضحية؟! أثناء
كتابة هذا البحث تابع الإعلام
قصة المجرم المصري ابن العشرين
عاماً الذي اختطف خمسة أطفال مع
عصابته، واعتدى عليهم ثم ذبحهم.
وثارت ثائرة المنظمات الحقوقية
بالويل والثبور تتعاطف مع
المجرم الضحية(الحبوب المسكين!!)
!!. الأطفال الخمسة في رأي هؤلاء
يستحقون ما نزل بهم لأنهم جزء من
مجتمع ظالم متخلف منحط لم يؤمن
لهؤلاء المجرمين السبل الميسرة
للتفريغ من طاقاتهم الجنسية
والعنفية. المعادلة التي تنتصب
أمام أعيننا كالتالي: هذا الذي
اغتصب أطفالاً أبرياء (خمس
سنوات وست سنوات) ثم ذبحهم نحن
مطالبون بالتعاطف معه،
والإحسان إليه، واعتباره ضحية،
والتخفيف من معاناته!! بينما
الذي قتل في ساعة انفعال، وتحت
ضغط اجتماعي ثقيل، وبدافع يظنه
شريفاً؛ يجب أن نتشدد في حقه،
وأن نحرمه من أي عذر يخفف من
جريرته الجرمية!! نرفض
أن نحسب على الذين يطالبون
بتسويغ جناية الشرف أو السكوت
عليها، ولكننا نطالب ببعض
المنطق في
سياق قانوني عام. الموقف
من الجناية غير الموقف من
القانون العذر
المحل أو العذر المخفف هو سبب
قانوني محض للإعفاء من العقوبة،
أو لتخفيفها، على الرغم من توفر
أركان الجريمة كافة، ومن توفر
مسؤولية فاعلها. و مع الاعتراف
بجريمة متوافرة الأركان،
وتحققها بفعل شخص مسئول، يجد
المشرع في الظروف المقترنة أو
المصاحبة من الدوافع والأسباب
ما يجعله يجنح إلى رفع العقوبة
أو تخفيفها. يتمثل
العذر المحل، أو العذر المخفف
في نصوص قانونية لها تطبيقات
متعددة الميادين، ولا نظن أحدا
يعترض على المبدأ من الناحية
القانونية. ففي أكثر من ميدان
للجريمة (السياسية) و(الاقتصادية)
و(الاجتماعية) تمنح قوانين
العقوبات عامة أعذاراً مخففة أو
محلة، لتحقيق مصلحة أكبر يقدرها
المشرع من القانون. أحياناً
تكون هذه الأعذار مفيدة قبل
وقوع الجريمة وأحياناً تكون
مصاحبة لها، وأحياناً أخرى تكون
تالية لوقوع الجريمة وتابعة لها. فلا
شك يستفيد من العذر المحل أو
المخفف من اشترك مع مجموعة في
قتل الناس أو سلبهم، ثم بادر إلى
كشف هذه المجموعة من تلقاء نفسه
قبل أن تكتشفهم قوى الأمن أو أن
تقدر عليهم. ولا
شك يستفيد من هذا العذر صاحب
الدافع الشريف، كما لو وجد رجل
مجرما يحاول أن يعتدي على امرأة
في مكان عام فبادر إلى منعه،
وتطور الشجار بينهما إلى جناية،
هل يستفيد مثل هذا الذي حاول منع
جناية أخرى من الوقوع، من عذر
محل أو عذر مخفف؟؟ إن
الضغط الإعلامي الموجه
والمقصود على عنوان العذر المحل
أو المخفف جعله من القوانين
السيئة السمعة، رغم ما يشير
إليه في مضمونه القانوني من روح
العدل، بعيداً عن تطبيقاته
العملية والمقترنات السلبية
التي اقترنت به. فلقد ارتبطت هذه
المواد القانونية بالإعفاء من
العقوبة، في حالات القتل دفاعاً
عن الشرف، التي تخضع لحملة
عارمة فنالت بذلك سمعتها السيئة
بفعل فاعل. ولقد
اعتبر قانون العذر المحل /548/ من
قانون العقوبات السوري، وما
يماثله في قوانين العقوبات في
الدول الأخرى، مدخلاً قانونياً
للعنف ضد المرأة، واعتبر
القانون مشجعاً على الجريمة. فعند
طبقة ما من المجتمع العربي، لم
يعد الشرف بمفهومه التقليدي
قيمة، ولم يعد الزنا أكثر من
عملية إشباع غريزية ترتبط
بالحاجة وبالحرية الفردية،
وبالتالي فإن هذه الطبقة ترى أن
وجود هذه المواد القانونية يشكل
عائقاً أمام انتشار المفاهيم
والقيم الجديدة. ومع
محدودية الإحصاءات النسبية
التي تقع في مجتمعاتنا تحت
عنوان جريمة الشرف،( يتردد
الرقم ثلاث مائة حالة سنوياً في
سورية.) والحالات التي تستفيد من
العذر المحل أو المخفف في قاعات
المحاكم ليست جميعها، بل أكثرها
لا يستفيد من هذه الأعذار؛ ومع
ذلك فإن هناك هماً دولياً على
الساحة العربية والإسلامية
للإحاطة أو الإطاحة بهذه المواد
القانونية، دون النظر إلى
انعكاس ذلك على الحياة العدلية
والاجتماعية. تتحرك اليوم
بتوجيه عالمي، هيئات ومنظمات
عديدة في المجتمع العربي
بنشاطات مختلفة على مستوى
الثقافة والإعلام والمؤتمرات و
ورشات العمل لتبادل الأفكار
والخبرات والدراسات من أجل
إلغاء هذه المواد في قوانين
العقوبات العربية!! لأنها
بأحكامها تلك تشكل أحد العوامل
المؤثرة في وجود هذه الجرائم،
كما يرى المنغمسون في هذه
الحملة والمنغمسات. من
الضروري أن نميز في هذا السياق
بين الاعتراض على القانون
والاعتراض على الجناية في
سياقاته الشرعية والقانونية
والإنسانية. إن الخلط بين
الاعتراضين خطير. وبالتالي فإن
أي نقاش قانوني في بيان المناط
العدلي لمواد القانون في
سياقها، وفي تطبيقاتها
العملية، لا يجوز أن يحسب على
أنه إقرار للجناية، أو تسويغ
لها، أو قبول بها. ومن المفيد أن
نذكر أيضاً، أن مرتكب جناية
الثأر في قانون العقوبات لا
يستفيد من مثل هذه الأعذار،
ولكن عمليات الثأر لم تتوقف،
والجناية باسمها ماتزال مستمرة.
بمعنى أن إلغاء هذه المواد لن
يضع حداً للجناية، وإنما سيفاقم
الأبعاد الإنسانية والاجتماعية
لها. حتى
الذين يتحدثون عن تطور القيم ،
نحن من القائلين بثبات جوهر
القيم الإنسانية الكبرى (الخير-الشر-
الحق- الباطل- العدل ـ الظلم-
والحرية ـ والمساواة ـ والشرف)؛
يرون أن التطور القانوني يجب أن
يترافق مع التطور الاجتماعي،
وأن نظرة المجتمع إلى المصالح
والقيم الواجب حمايتها بنص
تجريمي أو تخفيفي تتطور بتطور
الفكر الاجتماعي والسياسي،
وترتبط بالمفهوم الجماعي
للقيمة والمصلحة الذي ينبع من
المبادئ الأساسية والأفكار
التوجيهية. فما هو قيمة يقتضي
المحافظة عليها بقوة، ورد
الاعتداء الواقع عليها بالعقاب
الزجري. إن ما تسقط قيمته في
نيويورك أو بكين ليس من الضروري
أن تسقط قيمته في دمشق أو في حلب.
لا بد من مراعاة المفارقات في
النظرة إلى
القيم. فالمشرع العادل يراعي في
عملية تجريم السلوك الإنساني في
أي بلد الحد الأدنى من التوازن
بين الحريات العامة أو الحقوق
الأساسية المعترف بها، وبين
القيم التي يجب تجريم الاعتداء
الواقع عليها. بمعنى
أن المجتمع يصوغ قوانينه
السابقة على قانون المشرع.
والمشرع الحكيم هو الذي يضع خطة
للارتقاء بالقانون الاجتماعي،
وهذا الذي نسميه الإصلاح، وليس
بالهجوم على قانون الجزاء إضافة
أو حذفاً تشديداً أو تخفيفاً.
أكثر من نصف قرن مضى على قانون
العقوبات السوري، و لسنا في
إطار الدفاع عن هذا القانون.
ولكننا أيضاً لسنا من القائلين
باعتساف الطريق إلى الإصلاح،
وإدخال المزيد من الحيف والخلل
على منظومتنا القانونية،
لتسجيل نقاط حسن أداء عند الذين
يقررون في نيويورك أو في بكين أو
في القاهرة أوفي واشنطن...مرة
أخيرة نكرر
أن موقفنا من القانون ليس هو
الموقف من الجناية.
الموقف الاستهانة
بجريمة (الذكر) حتى كأنها ذبابة
مرت أمام الوجه، أو جعلها
أحياناً عنواناً للرجولة،
ومدعاة للفخر، والمبالغة
بجريمة الأنثى حتى تسقط بسقوطها
أسرة أو عشيرة وبلدة بعض الجهل
الموروث، والعادات التي لا
تستقيم مع مقررات الشريعة، ولا
مواضعات العقل. نرفض
أن تتجاوز عقوبة أي خطيئة، مهما
كان شأنها، المدى الشرعي المقرر
لها. والانسياق وراء موروث
اجتماعي يفرض نفسه فوق الشريعة
وفوق القانون. ونرفض أن يكون
الفرد خصماً وحكماً. وأن يتملك
دون القاضي الحق في إصدار
الحكم، أو الاقتصاص وإيقاع
العقوبة. فتنفيذ العقوبة مناط
بالقضاء الناطق باسم الجماعة
والمعبر عنها. نرفض
أن تزهق أرواح بريئة على مذبح
الظنة والشبهة والتهور،
والحمية الجاهلية، وفي سياق (قيل
وقال) اجتماعي. أو إشباع لغرور
مريض. ننبه في هذا السياق إلى
الوسائل الأكثر عصرية، في إشاعة
الشبهات وقذف الغافلات. فلا
يمكن لرسالة قصيرة يعبث أو يبعث
بها مأفون، أو صورة عابرة
يختلسها ساقط المروءة، أن تكون
جسراً لجريمة قتل، وذريعة
للعدوان على حياة. ونرفض
أن يتحول (الدفاع عن الشرف) إلى
عنوان تصفى تحته الحسابات
الشخصية، أو تغطى به المآرب
الخاصة، فتدفع الضحية المسكينة
الثمن مرتين، تدفع الثمن الأول
من سمعتها وكرامتها ومكانتها
الاجتماعية، وأحياناً من سمعة
أولادها وبناتها من بعدها، بما
يوجه إليها من تهمة مهينة. وتدفع
الثمن الثاني من حياتها بذريعة
جرم لم تقاربه، وخطيئة لم
تقارفها. ـ
نرفض أن تكون حياة إنسانية
معصومة ومصانة، رهن مشيئة فرد،
تهدرها انفعالاته الآنية، أو
تصوراته القاصرة، سواء كان هذا
الفرد أباً أو أخاً أو زوجاً.
ونعلم أن مفهوم الولاية الشرعية
له حدوده وأبعاده وضوابطه، وهو
لا يعني أبداً حالة من الفوضى
الاجتماعية والبغي والعدوان،
بل هو رعاية تصادر الأسباب
والظروف التي تغري بالخطيئة،
وتدفع إليها. ـ
نعتقد أن الاستفادة من أي شبهة،
في إطارها الشرعي والقانوني،
لتخفيف عقوبة جناية، أو
لإسقاطها هي حق للذكر والأنثى
على السواء. لا بغي ولا عدوان. ـ
ننظر إلى الجاني في جناية
الدفاع عن الشرف على أنه الوجه
الآخر للضحية فهو أيضاً ضحية
واقع اجتماعي ثقيل، لا يمكنه
دفعه، ولا القفز فوق تبعاته.
وإذا كان المطروح قانونياً أن
تحمل ظروف الجاني،و مواضعات
المجتمع أي مسؤولية في القانون
الجنائي العام، فإن العذر الذي
نتحدث عنه في هذا السياق أبين،
ودواعي الاستجابة له أوضح. على
أن يكون منح العذر أو منعه أفقاً
للقاضي يتفهمه ويقدره ويقرره،
دون أن يكون حقاً للجاني يبني
عليه، أو يطمع فيه، ويطالب به. ـ
إن مادة التشريع التي تجعل من
القاضي منفذا آلياً محضاً لنصوص
القوانين، بحيث يضطر في كثير من
الأحيان أن يقضي، حسب حرفية
القانون، بعيداً عن قناعته، من
خلال فردانية الواقعية، هو الذي
يضيق دائرة العدل، ويوسع دائرة
الفوضى والبغي والعدوان.المطلوب
أن يكون القاضي العادل
جزءاً أساسياً من منظومة
العدالة التشريعية، بحيث يأخذ
مداه في تشديد العقوبة حيث
يقتضي المقام التشديد، وفي
تخفيفها حيث
يقتضي المقام التخفيف، وهذا
أول الطريق إلى تحقيق مناط
العدل الذي ينشده الجميع. ـ
إن المساواة الآلية في
إيقاع العقوبات، أو في منح
المتجاوزين أو المجرمين فرص
الاستفادة من الأعذار هي موطن
الخلل الذي تتوجه الأصابع إلى
موضع وجعه في هذا السياق. ـ
وإذا كان التوجه القانوني
السائد، فيما نحب أن نسميه توجه
القانون العالمي، يعتبر المجرم
أو الجاني ضحية أو مريضاً فإن
هذا الاعتبار أولى ما يكون في
السياق الذي نتحدث عنه. ففي
هذا السياق لدينا جان بدوافع
ليست جرمية في كثير من الحالات.
ولدينا أسرة مفجوعة بشرفها،
ومفجوعة أيضاً بأحد أعضائها.
لذلك فإن الإصرار على انتزاع
الجناية من هذا السياق، دون
جميع الجرائم، من سياقها
الاجتماعي، ومن ظروفها
المحيطة، هو إصرار غير مسوغ ولا
مفهوم. ـ
تقلقنا، كما تقلق الكثيرين،
الجنايات التي تقع باسم الشرف
على محدوديتها. في مجتمعنا تشير
الإحصاءات، محدودة الدلالة،
إلى ثلاثة مائة حالة في العام
وسطياً. و نظن أن القليل من هذه
الحالات يستفيد من الأعذار
المحلة أو المخففة، كما تقلقنا
على نحو مواز ظاهرة فتيات (المخادع)
وفتيات (الأرصفة)!! ننظر إلى
الظاهرة على أنها التعبير
الأكثر امتهاناً للمرأة،
واحتقاراً للأنوثة، وتجاوزاً
على قدسية الأمومة. وننظر إلى
السكوت على الظاهرة، أو الإغضاء
عنها، أو تمويه بشاعتها، أو
تسويغ دوافعها على أنه اشتراك
غير مباشر في شناعتها أو في
إشاعتها. ظاهرة
خطيرة وبشعة، تستهدف روح الطهر
في مجتمعاتنا لتسويق إنسانية
المرأة سلعة في حضارة الأشياء
المادية التي لا نرفض أن
نمتلكها، ولكننا نرفض أن تمتلك
إنسانيتنا، وأن تكون معياراً
زائفاً لتقدمنا أو لرقينا أو
لمدنيتنا أومن باب أولى لحريتنا!! الذين
واللواتي يكتبون ويكتبن بهذه
الحرقة عن (العذر المحل) ونحن
معهم في القلق من انسياب جناية
بلا مسؤولية في جسمنا الاجتماعي
؛ لم نسمعهم يدبجون مقالاً في
الحديث عن الأسماء الأقدس في
عالم طهرنا الاجتماعي، عن العفة
والشرف والترفع والإباء، عن
الفاحشة وكيف دفعت إليها الأسرة
الغافلة، أو المتغافلة،
والمدرسة المتهاونة، والمنظمة
القائمة لتكريس الانحراف،
والمناهج الضالة، والمسلسلات
الهابطة، والإعلام الذي لا
يوالي للأمة حضارة ولا قيمة،
وريح الغريزة ، وهوى النفس،
ودفعت بصاحبتها إلى
الانحلال من أفق إنسانيتها
وحريتها وكرامتها، لتسفح ذاتها
مهينة رخيصة في سوق السلعة تبذل
نفسها لتشبع غريزة، أو تبيع
جسدها لتحصل على سلعة ، تغني
عنها بعض قناعة. لم
نقرأ مقالاً يندد بنمط من
الحياة الاستهلاكية يقوم على
التباهي بالاستحواذ، وإعطاء
المكانة للمظهر، والاعتبار
لأناقة زائفة أو علاقة مصطنعة
تخفي وراءها العُر والعار. مظهر
وأناقة لا تستطيعه بعض الغريرات
بإمكانات أسرهن الذاتية، في
مجتمع كريم، أفقره جلادوه
وسارقوه، فيندفعن تحت ضغط
السعار والرغبة في طريق
الخطيئة، في وسط مرد على
زخرفتها وتزيينها وتهوينها!! ـ
نعتقد أخيرا، وهذا هو المهم في
هذا السياق، أننا بحاجة إلى
منهج متكامل للإصلاح الاجتماعي.
منهج يرسي القواعد، ويمايز بين
أنماط السلوك، ويؤشر على الآفاق. الخلاصة لقد
كان البحث عن مناط العدل
وإقراره في حياة الناس الهدف
الأساس لهذه الدراسة. كما كان
توضيح بعض مقررات الشريعة
الإسلامية من حقائق وعوائد
اجتماعية هدفاً أخر لها.
تشكل ظاهرة (القتل دفاعاً عن
الشرف) جناية متعددة الوجوه
والأبعاد . وهي تخلف شرخاً
مأساوياً بعيد الغور في حياة
المجتمع والأسرة. كما يشكل
القتل دفاعاً عن الشرف إحدى
المشكلات التي تهدد أمننا
الاجتماعي، وتحتاج إلى مبادرات
متعددة الاتجاهات لاحتواء
أسبابها وتوابعها ووضع حد
لانتشارها ، والأخذ على
أيدي مرتكبيها . إن إدانتنا
لموضوع الجناية لا يمكن اختزاله
بالتنديد بقانون أو إعلان
التعاطف مع ضحية.
وحين يميل التشريع الكوني
العام إلى اعتبار المجرم(
القاتل والمغتصب والممارس
لعمليات السطو والسلب) ..مريضاً
اجتماعياًَ وضحية يحتاج إلى
الرفق والشفقة ..تأتي الدعوة في
العالم العربي والإسلامي إلى
تشديد النكير على بعض الجناة
الذين التمس لهم القانون المدني
العذر ، لتدير الشراع في
الاتجاه المخالف للريح ..!! تمنح
قوانين العقوبات عامة أعذاراً
محلة أو مخففة لتحقيق مصلحة
اكبر يقدرها المشرع . أحيانا
تكون هذه الأعذار مفيدة قبل
وقوع الجريمة، وأحيانا تكون
مصاحبة لها، وأحياناً تكون
تاليةً لها . ومع ما تتمتع به هذه
الأعذار من وجاهة عدلية
وقانونية ؛ إلا أن الضغط
الإعلامي الموجه والمقصود على
عناوينها جعلها من القوانين
سيئة السمعة !! نقرر هذا بعيدا عن
التطبيقات العملية وما قد
يرافقها من تجاوزات... لقد
اعتُبرت المادة -548-
عقوبات سوري / وما يماثلها في
قوانين العقوبات العربية
والإسلامية مدخلاً قانونياً
لإجازة العنف ضد المرأة
والتشجيع على الجريمة.إنه من
الضروري بمكان التمييز بين
الاعتراض على القانون
والاعتراض على الجناية في
سياقاته الشرعية والإنسانية
والقانونية؛ لان الخلط بين
الاعتراضين خطير . أن
أي دفاع عن وجاهة القانون أو
عدليته لا يجوز أن يحسب على أنه
إقرار بالجناية أو تشجيع عليها
أو استهانة بأرواح الضحايا . أن
إلغاء هذه الأعذار ، من وجهة
نظرنا ، لن يساعد على وضع حد
للجناية وإنما سيفاقم
تداعياتها وآثارها السلبية
إنسانيا واجتماعيا لقد
رفضت هذه الدراسة واقعاً
اجتماعياً يمايز بين الذكر
والأنثى في مفهوم الشرف، وفي
اعتبار الخطيئة، وفي تقرير
العقوبة. وقررت ،انطلاقا من
الشريعة الإسلامية ، أن الإنسان
واحد، والمعصية واحدة،
والجريمة واحدة، والعقوبة
واحدة. وما عدا ذلك فتراكمات
تاريخية تحتاج إلى جهد المصلحين. ـ
وفي موضوع الجناية التي ترتكب
باسم الشرف ركزت هذه الدراسة
على واقع متشابك من البغي
والعدوان. ووجدت أن الالتفات
إلى إدانة الجناية، دون إدانة
سببها، واقتراح الإصلاح
القانوني، من وجهة نظر مستغرقة
في الجزئية، دون الإصلاح
المتكامل الأبعاد ؛ يدخل خللاً
أكبر على منظومة العدالة، ويعمق
أكثر هوة الحيف في الحياة
الاجتماعية. وميزت بين إدانة
الجناية التي اعتبرتها صورة من
صور البغي والتجاوز، وبين إدانة
القانون الذي كان أصلاً لحماية
المجتمع وتخفيف عبء التبعة عليه. إن
موقفنا ، في هذه الدراسة ، من
الجناية التي ترتكب باسم الشرف،
ومن قانون العذر المحل أو
المخفف بكل أبعاده؛ موقف متكامل
لا نعتبر من المنهجية العلمية
في شيء أن يجتزئ أحد بعض مواقفه
، دون الاعتبار الكلي لمقاصده. --------------- *مدير
مركز الشرق العربي للاتصال بمدير المركز 00447792232826
05/05/2007 [1]
ـ الإسلام
والعنف ضد المرأة، عنوان
دراسة تصدر قريباً عن مركز
الشرق العربي. [2]
ـ المساواة
بين الرجل والمرأة وأطرها
العامة في الإسلام، دراسة
تصدر قريباً عن مركز الشرق
العربي. [3]
ـ رجعنا في هذا
البحث إلى شرح فتح القدير م/4/ص114.
والأحكام السلطانية ص206. و
تبصرة الحكام م/2/ ص26 وما
بعدها، ونقلنا عن ابن تيمية
وغيره.
|
ـ |
ـ |
من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ |