دراسات
/
رقم
(9)
مشروع
الفوضى المدمرة
(التكفير)
لماذا..
وكيف.. نطوقه؟
زهير
سالم*
مائة
وثلاثون إنساناً قتلوا منذ أيام
في الصدرية في العراق. هويتهم
الأساسية أنهم عراقيون. ومثلهم
قتل في.. وفي.. وفي.. وبإمكانك أن
تملأ مكان النقط بالترتيب الذي
تريد مدينة الرياض في السعودية،
عرس في عمان، نفق مترو في مدريد،
أو في لندن، برج التجارة
العالمي في نيويورك.. يربط هذه
الحالات جميعها قتل غير مسؤول
وغير منضبط، قائم على العدوان
على قواطع الشريعة الإسلامية في
تكريم الإنسان (ولقد كرمنا بني
آدم) وفي تحريم الدم الإنساني
وتوفير عصمته واعتبار العدوان
على الفرد بمثابة العدوان على
الإنسانية أجمع (من أجل ذلك
كتبنا على بني إسرائيل أنه من
قتل نفساً بغير نفس أو فساد في
الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً
ومن أحياها فكأنما أحيا الناس
جميعاً..)
وحتى
لا يقع الكلام الذي نقرره في هذا
المقام غير الموقع الذي نريد،
بتأويل أو تحريف نبادر إلى
التوضيح بأن المقصود بالإدانة
ليس الجهد المقاوم الذي يتصدى
لقوى عسكرية محتلة في بقعة من
بقاع الأرض، فذلك حق كفلته
شرائع الأرض كما كفلته شرائع
السماء..
ومع
الإدانة الرسمية المعلنة التي
تبادر إليها الحكومات
والقيادات الشعبية الدينية
والمدنية كلما هز حدث فاجع من
عمليات القتل العشوائي المدمر
الضمير الإنساني، نلحظ إغماضاً
غير مسوغ ولا مقبول من قيادات
ينبغي أن يكون لها دورها في
التصدي لهذا المشروع، مشروع
الفوضى المدمرة الذي يدير حركته
التكفيريون في المنطقة العربية
والإسلامية.
ولما
كانت الكتابة في الزمن الصعب
أصعب ما تكون، فإن مبادرتنا
للمطالبة بالتصدي لمشروع
الفوضى المدمرة لا يعني قبولاً
أو سكوتا عن مشروع الفوضى
الخلاقة.
في
رؤيتنا إن الإعصار الذي يضرب
منطقتنا بقسوة وعتو تشترك في
تشكليه ثلاثة اتجاهات للقوة
تلتقي في بؤرة واحدة هي غالباً
العراق، أو تنفجر هنا وهناك على
شكل انبثاقات لردود فعل شديدة
القسوة غارقة في اللامبالاة..
المشروع
الأول، المشروع الأمريكي
المتحد مع المشروع الصهيوني.
هذا المشروع الذي شكل السبب
المباشر لكل التفاقمات، وأوجد
الأرضية المناسبة لكل هذا
الدمار. وما يزال هذا المشروع،
مع الأسف، يجانب الحكمة ويمعن
في التقدم بأرض وعرة، وبطريقة
لا مسؤولة. يرتقي المرتقى دون أن
يفكر في المنحدر. إن من الضروري
أن نوضح أن أمتنا أجمع تدفع
اليوم ثمن حماقات ارتكبها
الأقوياء النافذون في هذا
العالم. منذ أكثر من قرن قرر
البريطانيون والفرنسيون ومن ثم
الأمريكيون التحالف مع
الاستبداد فكان هذا النتاج
السيء من الفساد والإرهاب. بعض (المتعاقلين)
حتى اليوم من الدارسين
الأمريكين يشتركون معنا في
إدانة سياسة الأقوياء ولكنهم في
الوقت نفسه يرون في منطقتنا
شعوباً لا تستحق إلا المزيد من
القهر والمزيد من المستبدين!! في
تقرير بيكر هاملتون (الشروط
الموضوعية للديمقراطية في
المنطقة لم تنضج بعد)! ربما لا
نحتاج إلى تعليق..
ندرك
كما يدرك الكثيرون من أبناء
أمتنا أن للمشروع (الأمريكي –الصهيوني)
أبعاده السياسية والثقافية
والاقتصادية. وأن هذا المشروع
كان الفاعل الأساس الذي أحدث (الفراغ)
لتحرك المشروع الإيراني، أو
خلقَ التحدي لإثارة رد الفعل
الذي يمارسه التكفيريون بطريقة
خارجة عن نص الشريعة الإسلامية
وروحها وعن مصالح الأمة في
حاضرها ومستقبلها.
كان
المشروع الثاني الذي انطلق كقوة
مدمرة لإحداث الإعصار هو
المشروع الإيراني بأبعاده
السياسية والمذهبية
والديموغرافية. بعض شيعة العراق
شاركوا في جلب الاحتلال. وبعضهم
الآخر تواطأ مع هذا الحتلال،
والاحتلال الذي وجد نفسه في
مأزق المقاومة اندفع إلى حضن
إيران أو أنصارها الذي ظنه
دافئاً. و تحرك الريح الإيراني
الساخن ليملأ الفراغ الذي أحدثه
غياب النظام العربي عن العراق.
لم يقف مده عند حدود العراق، بل
وصل إلى سورية ولبنان ودول
الخليج العربي واليمن ومصر
والسودان ودول الشمال الأفريقي
وآسيا الوسطى وجنوب شرق آسيا..
تحدٍ جديد مفروض على المسلمين
لا بد من التنبه له واعتبار
مخاطره وانعكاساته ووضع الخطط
اللازمة للتصدي له.
وإذا
كانت أوراق المشروع (الأمريكي-الصهيوني)
هي الأشد وضوحاً عند الخاصة
والعامة، عند الحكومات
المهادنة أو الشعوب النافرة،
فإن المشروع (الإيراني)
قد بدأت معالمه تتضح بعد طول
جدل.. إلا أن المشروع الثالث
الذي نفرد له هذه الورقة، ما
زلنا نقاربه كأحداث عابرة، وإن
كانت مؤلمة، ثم يتم التغاضي عنه
وعن مخططه المدمر الذي لا يوفر
أحداً من (الناس)!!
المشروع التكفيري وأخطاره
وانعكاساته
نقول
بوجود مشروع حيث وجدت جهة
مركزية تضع خطة لتحرك على أكثر
من محور(أهداف وأساليب وأدوات)،
ثم تعمل على تحقيق أهدافها من
خلال خطوات تنفيذية على الأرض.
أهم أخطار المشروع التكفيري
وانعكاساته السلبية هي:
أولاً العدوان على حرمات
الله
من
منطوق إسلامي شرعي محض. أين يقع
هذا العدوان على النفوس
البريئة، وسفك هذه الدماء
المعصومة من غير المحاربين في
جميع بقاع الأرض؟! رجال ونساء
وشيوخ وأطفال وعمران وأموال.. كل
هذا يكون عرضة للقتل أوالتدمير
هنا وهناك. ماذا تعني هذه
الأفعال إلا الخروج على أمر
الله، ومشاققة أهل العلم من أهل
ملة الإسلام والإمعان في التحدي
مما يستجلب غضب الله وسخطه!!
ثانياً تزوير وتشويه صورة
الإسلام
تمعن
هذه الأفعال اللامسؤولة
والخارجة عن السياق الشرعي، في
تشويه صورة الإسلام، وتقديمه
للناس وهو دين الرحمة والسماحة
بهذا الوجه المكفهر الحريص على
سفك الدماء، أو اللامبالي بحياة
الناس. إن المسلم لا يشتق فعله
وموقفه من فعل أعدائه. حتى قوله
تعالى (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا
عليه بمثل ما اعتدى عليكم.. )
يبقى مقيداً بأطر الشريعة
العامة وأحكامها كما ينص
الفقهاء. أين ما أوصى به الصديق
رضي الله عنه جيش أسامة مما يفعل
هؤلاء.. لا تقتلوا طفلاً
ولاشيخاً ولا امرأة، ولا تقطعوا
شجرة، ولا تذبحوا بعيراً إلا
لمأكلة.
ثالثاً الإجلاب على
المسلمين بردات فعل غير محسوبة
وحتى
عندما يزعم أصحاب هذا المنهج
أنهم ينكرون المنكر، ويقومون
بحق الجهاد باليد كما أمر الله.
فإن إنكار المنكر في الشريعة
الإسلامية مقيد بألا يؤدي إلى
منكر أكبر منه. فأين هذه النكآت
الصغيرة من الوهن والدمار الذي
وقع في بلاد المسلمين في
أفغانستان وفي العراق، وفي
فلسطين وفي غير هذه البلاد حيث
كانت الآثار السلبية غير
المنظورة أشد وأعتى.. إذا صحت
المقايسة الكمية بين ما تكبده
المسلمون وما تكبده غيرهم فأي
منطق سياسي أو عسكري يمكن أن
يحكم مثل هذ الأفعال التي تعرض
وجود المسلمين للاجتثاث. وتعطي
اليد لأعدائهم عليهم وهم أضعف
ما يكونون!!
رابعاً المنهج التكفيري
وتمزيق الأمة
ومما
يؤكد خطورة هذا المشروع أن
أصحابه يدعون الوصاية على
الإسلام؛ على الفقه والموقف،
ويحتكرون الدائرة الإسلامية،
ويخرجون منها كل من خالفهم في
رأي أو في تفسير أو في موقف.. وهم
بهذا يعملون سكين التفتيت في
المجتمعات المسلمة على كل
المستويات.
ينبغي
ألا ننسى أن إشعال الحرب
الطائفية في العراق بين السنة
والشيعة كان هدفاً من أهدافهم
فهم عملوا عليه طويلاً. صحيح أن
الآخرين قد بدأوا بإشعال نار
الكراهية منذ مهدوا للاحتلال
وتحالفوا معه، وبدأوا بقتل
النخب العراقية. الدراسة
الموضوعية تقتضينا أن نشير إلى
كل الأطراف الذين شاركوا في
إذكاء هذه الحرب القذرة.
وخارج
إطار السنة والشيعة، يفري
المنهج فريه في تكفير أو تخطئة
حتى المخالفين في المنهج
السياسي كما سمعناهم يخطئون
حماس لدخولها في الانتخابات أو
يزيفون المنهج الديمقراطي
كوسيلة للتغيير بالتراضي بين
أبناء المجتمع الواحد، في
محاولة منهم لتضليل الرأي العام.
خامساً التكفيريون ضحايا
الفكر أو الفقه الضال
في
إطار التحليل السياسي، والرؤية
السياسية، لا ينبغي أن نؤخذ
أبداً بالنوايا الحسنة!! فالله
لا يقبل من الأعمال إلا ما كان
خالصاً وسداداً كما يقرر ابن
تيمية.. ننظر إلى التكفيرين على
أنهم ضحايا التفكير الخاطئ،
والفقه الضال. إن عملية
استرجاعهم بالحوار الدائب يجب
أن تظل مستمرة.
ولكن
الأهم من ذلك أن التحذير من
منهجهم ومن القائمين عليه، لا
يجوز أن يتوقف، بل ينبغي أن يكون
نشطاً وممنهجاً أيضاً لحماية
شبابنا وأبنائنا من الإنجرار
إلى دائرة التكفير بكل تبعاتها
النظرية والعملية..
لا نغفل عن جملة أمور في هذا
السياق وهي
1-
إن التحديات الغاشمة،
والسياسات الضالة التي يفرضها
الآخرون على أمتنا، تعطي الكثير
من المصداقية، مع الأسف، لخطاب
التكفير، كما تعطي المبررات
الظاهرة لأفعال أتباع هذا
المنهج..
2-
إن عجز القيادات الرسمية (الأنظمة)
العربية عن تحمل مسؤولياتهم في
الدفاع عن هوية الأمة ومصالحها،
مما يعرز أيضاً دعوة أصحاب منهج
التكفير، ويدفع الشباب المتحمس
باتجاههم.
3-
إن حالة اليأس والقنوط وانسداد
الأفق التي يعاني منها شباب
الأمة تجعلهم لا يجدون مخرجاً
من الواقع المأساوي إلا
بالالتحاق بمدرسة التكفير
نظرياً أو عملياً.
4-
شل طاقات الدعاة المعتدلين،
والحيلولة بينهم وبين توظيف
طاقات الشباب في جهد منتج
ومنجز، يكرس حالة انسداد الأفق
أو العجز، ويدفع شباب الأمة في
الاتجاه الآخر. حرمان الشعوب من
الممارسات الحرة وحرمانها من
ثمرات الديمقراطية. حتى عندما
تسلك سبيلها، يعزز مصداقية
التكفيرين في رفض هذه الآلية.
واعتبار السبيل الوحيد المتاح
أمام أبناء هذه الأمة إذا
أرادوا التغيير هو حمل السلاح
لمقاتلة (الكافر) العالمي
وعملائه المحليين!!
من
موقع المسؤولية الشرعية،
والمسؤولية الوطنية والمسؤولية
السياسية سنظل ننظر إلى هؤلاء
المنخرطين في دائرة التكفير
ببعديه النظري والعملي على أنهم
(ضحايا) ضحايا فكر أو فقه مضلل،
وضحايا واقع أليم بكل تحدياته،
وعلى هذا الأساس ينبغي أن يتاح
لقيادات المجتمعات الإسلامية
الرشيدة والمعتدلة من
الإمكانات ومن الفرص ما يساعدها
على استنقاذ هؤلاء الضحايا
وردهم إلى الجادة، وما يساعدها
أيضاً على تحصين بقية أبناء
المجتمع لئلا ينزلقوا تحت ضغط
الواقع المرير في الطريق نفسها.
إن
تقويم الأخطار التي يتسبب بها
المنهج التكفيري على بنية
الأمة، والإنعكاسات السلبية
التي يحدثها في الحركة العامة،
تقتضي موقفاً واضحاً ودقيقاً.
كما تقتضي منهجاً نظرياً
وعملياً لتطويق هذا الخطر والحد
من آثاره السلبية والحيلولة دون
انتشاره.
المجتمعات الإسلامية
والإغماض عن الخطر التكفيري
سبق
أن أشرنا إلى أن المجتمعات
الإسلامية وقياداتها لا تنفك
كلما وقعت واقعة مؤلمة عن
المبادرة إلى استنكارها
والتنديد بها. بمعنى إعلان موقف
إعلامي يؤدي الواجب أمام الله
والناس.
الحق
يقال أن هذه المجتمعات أو
قياداتها لم تضع حتى الآن خطر
المنهج التكفيري في قوسه
الحقيقي. حالة الاحتقان التي
تصيب العامة تصيب الخاصة أيضاً.
يختلط (العنف) الفوضوي با(المقاومة)
المشروعة، يشعر الإنسان
أحياناً بالراحة
حتى عندما يعبر عن غضبه بتوجيه
الطعنة إلى نفسه.. إلا أن
التخطئة النظرية العابرة أو
التنديد الإعلامي في موقف لا
يكفي...
لا
بد لأحد ما أن يتحرك. والقادرون
على التحرك على مثل هذا المحور
قليليون. وهم محدودون عن الحركة
بفعل عوامل دولية، وعوامل
محلية، وأحياناً عوامل ذاتية.
ومع ذلك فإن مسؤوليتهم الشرعية
تفرض عليهم أن يتحركوا،
ومسؤوليتهم السياسية تفرض
عليهم أن يبادروا..
يجب
أن تنتهي حالة (الإغماض) عن
المنهج التكفيري، والإغماض
مصطلح نستخدمه لنوع من
اللامبالاة المغموسة بالرفض
تارة وبالقبول تارة أخرى..
لا
يجوز أن ينخدع المجتمع بالخطاب
الإسلامي الظاهر. ولنتذكر
الحديث الشريف (يقرؤون القرآن
لا يجاوز حناجرهم)، ولنتذكر (يحقر
أحدكم صلاته إلى صلاته
وصيامه إلى صيامه.. )
الانشداد العاطفي ينبغي أن يلجم
بما يمليه الفقه والعقل
والمصلحة.. وأن يشيع هذا على
مستوى المجتمعات الإسلامية.
نظرة الإعجاب للفاعل القوي حين
يغيب الأقوياء، لا يجوز أن تكون
جواز سفر إلى المنهج التكفيري.
ينبغي
أن ترفض الأمة كل الخيارات
السيئة، وتضع قواعد مشروعها
الخاص الذي يحافظ على وجودها
وعلى هويتها وعلى مصالحها..
كذلك
فإن كون أكثر هؤلاء التكفيرين
قد خرجوا من العباءة الإسلامية
لا ينبغي أن يكون مدعاة للتعاطف
معهم، والإغماض عن جرائرهم..
رفض
المنهج التكفيري يجب أن يقوم
على منهج علمي مقابل، منهج نظري
يخاطب أبناء الأمة ويثقف عليها
شبابها في السياسات الشرعية وفي
مدرسة الفقه الوسطي المعتدل
الذي يقدر المصالح والمفاسد، أو
ليست تلك مدرسة ابن تيمية!!
ومنهج عملي يفرض الوجود المنجز
على الساحة، التي توظف جهود
هؤلاء الشباب الطيبين فيما ينفع
أمتهم وأوطانهم..
سيكون
خطأ أساسياً حسبان هؤلاء الشباب
على واقع اقتصادي مأزوم ، أو
واقع اجتماعي متدهور. إنهم نتاج
رؤية فقهية قاصرة أو مضللة
أولاً وناتج واقع سياسي مسدود،
تخلى فيه العقلاء عن القيام
بدورهم، وارتكب أقوياء العالم
كل حماقاتهم في عالمنا..
المنهج
النظري، والمبادرة السياسية هي
سبيلنا إلى تطويق المنهج
التكفيري الفوضوي المدمر..
لماذا؟ لكي لا يدمرنا.. وكيف؟
بالجهد الدائب، والموقف
الحاسم، والمنهج العلمي
الموضوعي الرشيد..
---------------
*مدير مركز الشرق العربي
للاتصال بمدير المركز
00447792232826
zuhair@asharqalarabi.org.uk
|