أمن
العالم وحريته
بين
سرطان الشمولية وطاعون العولمة
(
الحالة الأكرانية )
عبد
الحميد حاج خضر*
II
مملكة كييف : كانت المنطلق إلى
الإمبراطورية الروسية
، واعتناق الشعوب السلافية
الأرثودكسية المسيحية ، ونقطة
توقف التبشير الكاثوليكي في
أوكرانيا وروسيا . كل هذا بدأ من
مدينة كييف ، عاصمة أوكرانيا
اليوم ، وتوقف عندها . أقامة
مملكة كييف التاريخية علاقات
تجارية نشطة مع الأمبراطورية
البيزنطية ، في مطلع القرن
العاشر ، وعبر هذه العلاقات
التجارية وصل المبشرون من
بيزنطة ، وفي عام 988 م عمد جميع
أمراء كييف ثم أكره سكان
المملكة على اعتناق المسيحية
ليصبحوا أتباع الكنيسة
الأرثودكسية ، ثم أعلن رسمياً
الأرثودكسية كدين رسمي للمملكة
. بعد زواج فلاديمير Wladimirs
من آنا Anna ، أخت القيصر البيزنطي بازيليوس Basileios ، أكتسبت مملكة كييف
شهرة وأهمية في بيزنطة ، فأمها
رجال الكنيسة والفنانون من
بلغاريا واليونان لينشروا
التعاليم الدينية والفنون
والآداب في ربوع المملكة وفق
الأصول البيزنطية ، وهكذا أصبحت
مملكة كيف بعد أن انضم عدد من
الإقطاعيات والمدن ؛ الساحة
التي أنطلقت منها الأمبراطورية
الروسية ، حيث كانت كييف المركز
الوحيد للكنيسة الأرثودكسية
لكل الشعوب السلافية وحتى عام
1299 .
أوكرانيا : الأسم الرسمي لهذا
البلد الأوربي هو ( جمهورية
أوكرانيا ) ، وكان يطلق عليه
وحتى عام 1991 الجمهورية
السوفيتية الاشتراكية
الأكرانية . تبلغ مساحة
أوكرانيا 603,700 كم مربع ، أما عدد
السكان حسب إحصاءات عام 1992 فقد
بلغ ( 52,1 ) مليون نسمة . أما عدد
سكان أوكرانيا اليوم ، إحصائيات
تموز ( يوليو ) عام 2004 ، وذلك بعد
تطبيق سياسة العولمة ، فقد
تناقص إلى ( 3,268 ) مليون نسمة
ليصبح ( 47,732 ) مليون نسمة . يتناقص
عدد سكان أوكرانيا بمعدل 0,66%-
سنوياً . هذه النسبة لا يمكن
تبريرها بالهجرة المستمرة من
هذا البلد البائس اقتصادياً ،
والتي تصل إلى 0,39% سنوياً ، لأن
عدد الوفايات 16,41 كل ألف نسمة
بينما لا يزيد على عدد المواليد
عن 10,21 كل ألف نسمة . إن سياسة
العولمة بعد تفكيك الاتحاد
السوفيتي ، والتي عرفت بعلاج
الصدمة Shock-therapy هي المسؤولة عن تقليص
عدد السكان ، كانعدام الخدمات
الصحية ، وتدني الإنتاج أو
إيقافه في مؤسسات الدولة . لقد
تدنى الانتاج الصناعي إلى
40% مما كان عليه علم 1992 ،
ترتب عليه تدني القوة الشرائية
للمواطن إلى 35% مما كانت عليه
قبل العولمة ، ليصل إلى 50 يورو
في الشهر للمواطن ، وبمقارنة
هذا الدخل مع دخل المواطن
البولندي ، الذي كان أحسن حظاً
في عملية العولمة ، نجد أن متوسط
دخل المواطن البولندي وصل إلى 450
يورو في الشهر ، مع العلم أن
توزيع الدخل في بولونيا أقل "
عدلاً " من أكرانيا . المواطن
الأكراني الذي خدم في مؤسسات
الدولة وبلغ سن التقاعد يتلقى
راتباً قد يكفي لشراء حذاء أو أي
حاجة ضرورية أخرى . ومن " نعم
" العولمة تفشي المخدرات ومرض
الإيتز HIV+ ليصل عدد المصابين
بهذا المرض القاتل إلى 2,3% يموت
منهم سنوياً حوالي 300 ألف نسمة .
البنية السكانية (ديموغرافية )
الأكرانية : يطيب لأصحاب
الخصوصيات من العرب العاربة أو
المستعربة التحدث وبإسهاب ممل ،
عن الموزايك " الجميل " ،
والتنوع العرقي والطائفي ، عند
تناول الشأن العام في أى قطر
عربي أو إسلامي ؛ متناغماً مع
سياسات الهيمنة الأجنبية .
عندما نبسط الحديث عن البنية
السكانية في أوكرانيا أو أي
دولة قومية في العالم سنجد
تنوعا عرقياً وطائفياً لا يختلف
من حيث الكم ، على الأقل ، عن
التنوع الموجود في أي قطر عربي .
بل إن القواسم المشتركة
الحضارية والإنسانية بين
المواطنين ، على مستوى القطر
الواحد ، أو على مستوى الأمة
العربية ؛ أكبر
وأكثر حميمية من أى دولة قومية
في العالم . يشكل الأكرانيون 72,7%
من مجموع السكان ، مع تنوع جهوي
معتبر . بينما ينحدر 21,1%
من أصل روسي أو بلاروسيا (روسيا
البيضاء) ، وهناك عشر أقليات ،
على الأقل ، تتراوح نسبتها إلى
عدد السكان ما بين 0,2% - 1% .
أماالتوزيع الملي والطائفي ،
وبعد أكثر من نصف قرن من حكم
شمولي يشجع الإلحاد ويحارب
الدين ، نجد أن أن 26,5% ينتمون إلى
الكنيسة الأثردوكسية التابعة
لبطريقية موسكو
، بينما ينتمي 20% إلى الكنيسة
الأرثودكسية تتبع بطريقية كييف
. وحوالي 13% ينتمون إلى الكنيسة
الكاثوليكية ، كما أن هناك عدد
غير محدد يزيد على المليون
يعتبرون أنفسهم معمدانين Baptist ، وهم أحد مذاهب البروتستنتية
التي تجعل التعميد بعد بلوغ سن
يفهم فيه المعمد كنه وماهية
التعميد . أما الكنيسة
البروتستنتية فتستقطب الأقليات
البولونية والألمانية . يتجاوز
عدد المسلمين المليون نسمة
وغالبتهم من التتار الذين
يقطنون جنوب البلاد وشبه جزيرة
القرم الدافئة نسبياً . إن
الحديث عن الخصوصيات الدينية
وتاريخ المسيحية والكنائس
وجدلية العلاقة بين الدولة
والكنيسة أو الدين بشكل عام في
بلد مثل أكرانيا لم يبحث بالعمق
والدقة اللازمة للخرج بنتائج
مفسرة للأحداث السياسية على
الساحة الأكرانية ، ويعود ضباب
المعلومات في هذا الشأن إلى
تجذر الاستبداد والشمولية التي
لفت التاريخ السياسي لأكرانيا
والدول المحيطة بها وخاصة روسيا
القيصرية وروسيا السوفيتية .
اللادينية هي ثقافة الأجيال ما
بين 15- 65 سنة
.
الموقع الجغرافي : تقع جمهورية
أوكرانيا شمال خط العرض 49 وشرق
خط الطول 32 ؛ يحدها من الشمال
والشرق بلاروسيا وروسيا حيث
يبلغ طول الحدود مع هاتين
الدولتين حوالي 2467 كم أما من
الغرب فتحدها دولة بولندا ،
سلوفاكيا ( التي كانت جزء من
دولة تشكوسلوفاكيا ) ، المجر ،
مولدافيا ثم رومانيا . أما من
الجنوب فتقع أوكرانيا على ساحل
البحر الأسود ، حيت يبلغ طول هذا
الساحل الشديد التعرج 2782 كم . إن
الموقع الجغرافي لهذا الدولة
جعل تاريخها السياسي جزء من
التاريخ السياسي لروسيا
القيصرية أو السوفيتية ؛ تبلور
نوع من الإستقلالية السياسية في
القرن 17 ، كما يمكن الحديث عن
شعور واعتزاز قومي مستقل في
النصف الثاني من القرن التاسع
عشر ، وفي 22/1/1918 أعلنت دولة
أكرانيا المستقلة . أعترف بهذا
الاستقلال من قبل مؤتمر بريست–
ليتوفسك Brest-Litowsk
في
9/2/1918 ، إلا أن قوات البلاشفة
كانت قد احتلت كيف في 8/2/1918 ، وفي
أبريل من نفس العام قامت قوات
ألمانية ونمساوية ومجرية بطرد
البلاشفة من كييف ، ودعم هيتمان
السياسي المحافظ ، ليشكيل حكومة
" مستقلة " دامت حتى انسحاب
القوات الألمانية التي خسرت
الحرب الأولى ، وفي 14/12/1918 أسقطت
حكومة هيتمان ليحل محل الحكومة
المحافظة ؛ حكومة " ديمقراطية
اشتراكية " يرأسها س. بتييورا S.Petijura وفي 14/1/1919 قام الجيش الأحمر
بإعلان جمهورية أوكرانيا
السوفيتية الاشتراكية . في صيف
عام 1919 نشبت حرب أهلية التي
أخمدت ظاهرياً لتعود من جديد في
21/4/1920 بقيادة س.بيتيورا الذي عقد
حلفاً مع البولنديين ؛ يتنازل
فيه عن غرب أوكرانيا لقاء الدعم
الذي تقدمه بولندا ، ولكن بعد
ضربات عسكري موجعة للقوات
البولندية ؛ تخلت بولندا عن
حليفها لتعقد في ريغا Riga عاصمة ليتونيا مع
البلاشفة معاهدة تتقاسم بها
معهم الأراضي الأكرانية . في عام
1922 أصبحت أكرانيا جزء من
الجمهوريات السوفيتية
الاشتراكية . سياسات القسر
والترحيل الجماعية ، التي
اتبعها ستالين في الجمهوريات
السوفيتية - قادت إلى كارثة
إنسانية مروعة في
أوكرانيا ، حيث مات أكثر من 5
ملايين نسمة جوعاً .
العمران والثروات الطبيعية : كانت
أوكرانيا ، وحتى سقوط الاتحاد
السوفيتي ، تقع بالمرتبة
الثانية من حيث الأهمية
الصناعية والزراعية بعد روسيا
في جمهوريات الاتحاد السوفيتي
الاشتراكية ، حيث تنتج حوالى 40%
من الحديد والصلب ، أما الإنتاج
الزاعي فقد وصل إلى ما قيمته 50%
من مجموع الانتاج الزراعي
السوفيتي . إن امتلاك أوكرانيا
لكميات معتبرة من المواد
الأولية ؛ جلب إليها ، وفق
التخطيط المركزي للسوفيت ،
صناعات ثقيلة مهمة ، وجلبت هذه
الصناعات معها تلوث مخيف للبيئة
، وزاد الطين بلة كارثة تشرنوبل Tschernobyl
الذرية الشهيرة . تملك أكرنيا أكبر
احتياطي من الفحم الحجري في
العالم ، حيث يبلغ الاحتياطي
حوالي 40 مليارد طن . إلا أن
التوزيع الجيولوجي للفحم يجعل
استخراجه مصحوباً بصعوبات
معتبرة ، ولا تملك أوكرانيا
المال لاقتناء التقنيات
الألمانية الحديثة ، بالإضافة
إلى ضعف الطلب العالمي للفحم .
انتاج أوكرانيا من التفط لا
يغطي 10% من استهلاكها السنوي
وكذالك الأمر ينطبق على انتاج
الغاز الطبيعي ، وتعتمد
أكرانيا
على روسيا لتغطية حاجتها من هذه
المواد ، يوجد في أكرانيا خامات
الأرانيوم والمنغان والغرفيت
والملح والجبص . 30% من الطاقة
الكهربائية تقدمها المفاعل
الذرية القديمة الصنع . تمتلك
أوكرانيا صناعات ثقيلة وصناعات
حربية وبناء السفن والطائرات
تشكل 77% من الانتاج الصناعي . أما
الصناعات الخفيفة فتشكل 23% .
تملك أوكرانيا شبكة من الطرقات
الكثيفة يبلغ طولها حوالي 219900 ،
يضاف إليها شبكة من الخطوط
الحديدية العريضة يبلغ طولها
22760 كم بالإضافة لعدد من الموانئ
البحرية والجوية ما يضعها في
مصاف الدول المتقدمة في هذا
المضمار . المعطيات التي
ذكرناها تجعل المرء يتسائل :
ماهو السبب الذي يجعل من
أكرانيا دولة متدنية الدخل
والخدمات إذاً ؟ الشعب الأكراني
كان جزء مهم من الاتحاد
السوفيتي ومنظومة الدول
الاشتراكية الاقتصادية (
الكومكون ) COMECON وهو أختصار Council
for Mutaul Econmic Assistance أى مجلس التعاون الاقتصادي .
وكانت مجموعة الدول المنضوية
تحت هذه المنظمة تعمل تماماً
بنفس آليات العولمة ، أي أن كل
دولة تنتج وتستهلك لمتطلبات
السوق المشتركة لهذه الدول ووفق
أفضل شروط انتاج السلعة
المطلوبة التي تفرضها ضرورات
السوق وشروط الانتاج . أي لا
وجود لاقتصاد قومي تقليدي ، مما
يفرض نوع من الاغتراب وعدم
المشاركة الوجدانية في عملية
الانتاج ، كما أن الجهاز
البروقراطي ، مهما كانت كفاءته
، لا يستطيع أن يستوعب الحاجة
المتجددة ويتلائم مع أذواق
المستهلك وتطلعات التجديد عند
الإنسان . قد تلبي هذه الآلية
متطلبات السلع الضرورية في
حدودها الدنيا ، ولكن يكبح ،
وبشكل قسري ، تطلعات الإنسان
وروح المبادهة
نحو تطوير وتحسين الانتاج ،
وقد أشار الجنرال ليبد إلى هذة
الناحية في مذكراته ، مما يؤدي
إلى تكيف قسري مع الحد الأدنى
للحياة . من الناحية النفسية ؛
يقود سلوك الكبت إلى الاستسلام
إلى الوهم والخرافة أحياناً ،
وقد تجل ذلك في سلوك الناس ، حيث
أن الدعاية الغربية ، وخاصة
الأمريكية ، كانت تلقى أذن
صاغية وتصديق مطلق للأوهام
والأحلام . عندما كانت ولاتزال
معاول الهدم والتخريب المعولمة
تقوض صروح بنية الدول والانتاج
، وتأتي على البنية الحضارية
والعمران في دول المنضومة
الاشتراكية ، لم تجد من يدافع
عنها ، بل إن حب الانتقام من
البرقراطية المتبلدة صب الزيت
على النار ، وأشعل حراق أخرى في
أماكن كان دهاقنة العولمة
يتهيبون المساس بها ، مثل
الخدمات الصحية والتعليمية
والجيش والمؤسسات الأمنية ،
فتحول جنرالات الجيش المترهل
وأباطرة الأمن إلى عصابات
ومافيات تدير الجريمة المنظمة ،
فأصبحوا يخربون بيوتهم بأيدهم
وأيدي الآخرين . الفرق الوحيد
بين آلية الانتاج والاستهلاك في
الاتحاد السوفيتي ومنضومة
الدول الاشتراكية من جهة وسياسة
الأنتاح والاستهلاك المعولمة :
أن سياسة انتاج السلع المعولمة
هي التي تفرض مسيرة الاستهلاك ،
بينما في الدول الاشتراكية ؛
الضرورة هي التي تملي كمية ونوع
الانتاج . والقراءة الجدلية
لطرفي المعادلة في كلا النظامين
تقودنا إلى القول : إن انحسار
الاستهلاك في النظام العولمي
يقود إلى أن تصبح السلع المنتجة
نوعية وكمالية ، ودولة بين
الأغنياء فقط . يتولد عنه انحسار
أفقي للعمران
مع صعود إلى معارج الترف
والبذخ والسفاهة ؛ يصاحبه خوف
وذعر ،عند المترفين والمحرومين
، يدفع ويقود إلى العدوان
والحرب . وها نحن نري بداية
الحرب ، ونعيش روح العدوان .
مع خروج أوكرانيا من المنظومة
الاشتركية ، وإعلانها دولة
مستقلة في 24/8/1991 ، ثم الاسفتاء
على الاستقلال في 1/2/1992 ؛ خرج
الشعب الأوكاني وهو أشبه ما
يكون برجل خرج من السجن بعد سنين
من الأسر المرير ، ولكن كان يقدم
له ما يقيم به أوده ، ليجد نفسه
بلا مأوي ؛ حاملاً معه صحيفة
سوابقه تمنعه من الحصول على
وظيفة أو عمل يكسب به رزقه . كل
شيء يدعو إلى الإحباط . الاقتصاد
: وهي تعريب
دقيق
لكلمة Economia اللاتينية التي تقدح
في ذهن الإنسان معنى التوفير
والاعتدال في الإنفاق ( عربياً
أو أعجمياً ) ، ولهذا اتخذ
الألمان كلمة جرمانية Wirtschaft وتعني فعاليات أصحاب الفعالية
في المال والأعمال كما تعني
الاقتصاد أيضاً ، ومع هذا لم
يهتدي اللغويون في الغرب إلى
كلمة أو مصطلح يوصف الظاهرة
التي يراد توصيفها ، اما العرب
فقد آثروا التقليد على الأصالة
العتيدة ، ونسوا المصطلح الأثيل
الذي تداولته الخاصة وفهمته
العامة وهو ( العمران ) ، والذي
يجمع بين إشادة مرافق الحياة
والتمدن ، أي يجمع بين الكلمتين
اللاتينيتين Civilization+ Urbanization ، وقد درج علماؤنا على استعمال هذا
المصطلح لتوصيف الظاهر ، فهذا
ابن خلدون في مقدمته يوصف ويدقق
ويستنبط ويؤول ما يحيط بهذا
الشأن ، لتصبح للخاصة والعامة
حسية بصائرية ومعقولة . تحت
مصطلح الاقتصاد ؛ ارتكبت كل
الموبقات والمحرمات ، وتجريد
الناس من أسباب العيش الكريم ،
دون أن تدرك الجماهير ماهيته
وكنه ما ارتكب بحقها من آثام ،
حتى أصبحت كلمة اقتصاد نوع من
الطلاسم لايفهمة إلا كهنة هذه
الصنعة . هنري فورد يكتب في
ثلاثنيات القرن المنصر كتاباً
أعتبر من الكتب المعادية
للسامية ؛ يدلل فيه على أن كل
المصطلحات المصرفية انطلاقاً
من كلمة بنك وحتى آخر مصطلح في
عالم المال والأعمال كان من
اختراع اليهود ، ويذهب إلى أن
القصد والغاية من هذه المصطلحات
خلق لغة كهنوتية لا يفهما إلا
أهل هذا الكهنوت أنفسهم . عندما
منحت جائزة نوبل في الاقتصاد
هذا العام ؛ تسائل الكثير من
المتتبعين لهذا الشأن : هل "علم"
الاقتصاد من العلوم المعتبرة
مثلها مثل ، الطب والفيزياء
والأحياء ، خاصة أن ألفرد نوبل
نفسه لم يخصص جائزة لمثل هذه
المعارف ، وأنه كان يكره هذا "العلم"
من سويداء قلبه ، مما دفع البنك
المركزي السويدي في نهاية
الستينات أن يخصص جائزة لمثل
هذه المعارف ، وما كان يعتبر قانون اقتصادياً لا
يرتقي إليه الخطل أو الشك في
الستينات ، حيث كانت نظرة
ومقالة (كينز) هي ناموس وفانوس
السياسات المالية والاقتصادية
؛ ينظر إليه اليوم بعين الريبة
والازدراء ويلعنه اللاعنون من الليبرالين
الجدد ويعتبرون قوانين ونظريات
كينز وأخواتها من سقط المتاع .
هل قوانين الاقتصاد قوانين
حيادية موضوعية سرمدية تصلح لكل
زمان ومكان أم رجم بالغيب
وتبرير للواقع ؟ أنا لا أعني
الجانب الفني الذي يتعهد آليات
الضبط والربط في الحساب
والإحصاء والتدقيق وشروط العقد
، فهي صنعة عرفها أهل الصين
والهند والرمان وفارس وأخذها
العرب في إطار مفهومهم للعقود
والملكية ، ولكن أعني تلكم
النظريات والإيديولوجات التي
وثنها أصحبها ليحكموا سلطانهم ،
ويبرروا عدوانهم ، ويتعالوا على
أقرانهم . "علم" الاقتصاد
في أحسن الأحوال من العلوم
الإنسانية الرخوة ، ضنية
الدلالة ، شحيحة اليقين ،
مضطربة النتائج . متناقضة
المناهج والمسلك ، يتصل ليلها
المظلم بشذرات من المعارف
المضيئة التي لا تغني عن الحق
شيئاً ولا تقود إلى العدل
والنماء ، ولكي يصبح الشان الذي
يعني أهل الاقصاد دقيق الدلالة
حسي المشهد ، للعامة والخاصة ،
لابد من استعمال كلمة ( عمران )
بدلاً من كلمة اقتصاد - خاصة إن
الفقراء لا يوجد لديهم ما
يقتصدون ، ويأملون بكسب منه
ينفقون . بعد هذا الاستطراد
النافع ، إنشاء الله ، لطرد
الملل عن القارئ والزيف عن
السامع ؛ أعود إلى المسألة
الأكرانية . لقد عاش الشعب
الأكراني 70 سنة رهين المحبسين :
الاستبداد والاقتصاد ، فشهد
بناء الصناعة والزراعة
والمرافق العامة ولم يصبه منها
إلا التعب والنصب والعنت وشحة
الرزق ، حتى إذا خرج من محبسيه ؛
أصابه التشريد والفاقة ونهشه
المرض والسطو المعولم . كان
الأكراني يتلقى أجره بالروبل Rubel ؛ يتفق منه على ضرورياته ، ويدخر
منه في المصارف ما لا يستطيع
إنفاقه لشح السلع . بعد انفصال
أوكرانيا عن الاتحاد السوفيتي .
وعدت السلطات ألأكرانية بإصدار
عملة وطنية جديدة الغريفنا Griwna بعد استقرارالأوضاع
الاقتصادية في البلاد وظل
الروبل العملة المتداولة
بالبلاد ، ومنذ 13/11/ 1992 أدخلت
الكابونات إلى جانب
الروبل
وسيلة التداول . لم يمضي سوى عام
واحد حتى انخفظ الدخل القومي
إلى 26% عما كان عليه في عام 1991
والذي يقدر بحوالي 2340 دولار في
السنه . انخفض الانتاج الصناعي
حوالي 18% والانتاج الزراعي
بحوالي 40% . وصل التضخم إلى 2500% ،
أما البطالة فقد وصلت إلى 800 ألف
عاطل عن العمل . دخلت أوكرانيا
بمفاوضات مع روسيا لتقاسم
الديون المترتبة على الاتحاد
السوفيتي للدول الغربية كان
نصيب أكرانيا 16,4% من مجموع
الديون والبلغة 80 مليارد دولار .
لم يمر عام 1992 إلا وجميع
المدخرات للمواطن الأكراني قد
أصبحت في مهب عاصف التضجم
الهوجاء . إن سياسة الخصخصة
وتقلص الخدمات الصحية وما عرف
بعلاج الصدمة ، حيث اعتبر
المواطن الأكراني مدمن على
خدمات الدولة المجانية ولكي
يلتحق بالنظام الجديد يجب
انتزاع الخدمات الاجتماعية
دفعة واحدة ، تماماً كما يفعل
بالمدمنين على المخدرات عنما
يقرر الطبيب علاجه بالصدمة Shock
Therapy فأصبح
المريض بلا دواء ، والجائع بلا
طعام ، والعاجز بلا معين ،
والمشرد بلا مأوى . لم تمضي إلا
سنة واحدة حتى وصل الدخل
للمواطن 30% فقط مما كان عليه عام
1991 أي حوالي 820 دولار في السنة .
مع ازدهار الدعارة وتجارة
المخدرات وانتشار الأوبئة
القاتلة كالايدز والسل .
يتبع
*
باحث في الفقه السياسي الإسلامي
المعاصر / ألمانيا
|