تابع
ـ مشروع
الإصلاح
(الأمريكي
ـ الأوروبي)
والمقابل
الإسلامي
مشروع
عام للإصلاح
رؤية
إسلامية
زهير
سالم
الإصلاح
مطلب عالمي:
نعتقد، مع إقرارنا بعمق
الوهدة التي نتحدث منها، أن
مشروع التغيير أو الإصلاح ينبغي
أن يكون إنسانياً وعالمياً.
وإذا كان شركاؤنا على هذه الأرض
قلقين من أوضاعنا العامة، مما
فيها من أمية وفقر وبطالة،
يظنونها مهددة لأمنهم، فإن من
حقنا أن نعرب أيضاً عن تخوفنا
مما في عالمهم من فوضى وقلق،
ومما في سلوكهم من عنف وقسوة،
ومما في علاقاتهم الداخلية من
ظلم واضطراب.
تقلقنا
مسيرة الاقتصاد العالمي الذي
يسير في طريق الاستحواذ، والذي
يسعى إلى وضع ثروات الأرض في يد
قلة قليلة من الشركات المتعددة
الجنسيات. كما يقلقنا أن يتحول
رؤساء العالم وحكوماته إلى
موظفين مباشرين تابعين لمجالس
إدارة تلك الشركات. يثير الفزع
في نفوسنا مع الملايين من أبناء
الأرض، نظام العولمة بأبعاده
السلبية، وكذا الشراكات
القسرية غير المتكافئة بين
الأقوياء والضعفاء.
وترهبنا
ترسانات الأسلحة، أسلحة الدمار
الشامل، وآلة القتل الجماعي
التي تستنزف ثروات الأرض،
لإرهاب الإنسان وإحكام السيطرة
عليه، فما معنى الحرية تحت
أسنة الحراب؟!
نتوقف
طويلاً عند مدخلات الحضارة
الأوروبية العقائدية والسياسية
والاجتماعية التي تفرز عالم
الانتحار والإيدز والمخدرات
التي تحطم شخصية ملايين الناس
وتذهب بالبهاء الإنساني؟! لقد
ذهب الخواء بمعنى الحياة. إن
الفقر أحد أسباب الألم
الإنساني، ولا يجوز أن يعتبر كل
الأسباب!!
وإذا
كان وضع المرأة في بلادنا يحتاج
إلى كثير من المراجعة لإلحاق
واقع المرأة بالأفق الحضاري
الإسلامي، فإننا ننظر بعين
الريبة إلى سياسات (تسليع
المرأة) وامتهانها، والمتاجرة
بجسدها، والخروج بها عن حدود
مهمتها الطبيعية (الأمومة). وإلى
السعي لتحطيم بنية الأسرة،
والاعتراف بالعلاقات الشاذة
تحت مسمى (الحرية) المريب، وفرض
أنموذج (الجندر) في محاولة
للخروج على القانون الطبيعي في
حماية (النوع الإنساني)،
انطلاقاً من النظرية
الرأسمالية التي تقرر: (مواليد
أقل شركاء في الثروة أقل).
إن محدودية قدراتنا عن طرح
مشروع الإصلاح بأبعاده
الإنسانية والعالمية، لا يعني
أبداً فقداننا الرؤية لإطار
إنساني عالمي يسوده: التآخي
والحب والشراكة الحقة. في عالم
الأفكار لا تنبع قوة الفكرة
وسدادها من ترسانات الأسلحة
التي يملكها صاحبها، وإنما تنبع
من قانون الفطرة وحقائق الواقع
والعلم.
إن أمن الإنسان وسكينته
واستقراره ورفاهه وحماية
حياته، وصون عقله، وكفالة حقه
في التفكير، بعيداً عن حملات
التشويش والتضليل المنظمة أو
الفوضوية. وكذا حماية حقه في حفظ
النوع البشري عن طريق الامتداد
الفطري في التاريخ الطبيعي.
وصيانة حقه في التملك الرشيد
الذي يغطي في حياته دوائر
الضروريات والحاجيات
والكماليات.. كل أولئك المقاصد
ينبغي أن تكون مناط حركة إصلاح
وتغيير إنساني وعالمي. وهي
نابعة من جوهر القيم المشتركة
بين الإسلام والمسيحية.
إن الشقاء الإنساني بأبعاده
ومواطنه المختلفة، والذي يتبدى
بتجسدات متباينة في هذا العالم،
إنما نشأ أصلاً عن الانسلاخ عن
منظومة القيم السماوية المؤكدة
لكرامة الإنسان.
منهجنا في التغيير والإصلاح:
حسب رؤيتنا الإسلامية، يأتي
التغيير من الداخل، من عالم
النفس. يبدأ التغيير بالتطوير
الإيجابي لموقف الفرد وموقف
المجتمع من (الله والإنسان
والكون والحياة).
ونمط السلوك الفردي والجماعي
إنما هو انعكاس للتصور السليم
عن حقائق الوجود الكبرى تلك.
تصور قويم وسليم، هو الذي ندعوه
(الإيمان)، يصدر عنه تلقائياً
سلوك قويم وسليم. سلوك ينظم
العلاقات مع تلك الحقائق كل في
ميدانه.
القانون
الإسلامي يؤكد أن التغيير في
واقع الحياة إنما يرتبط
بالتغيير في واقع النفس، سلبياً
كان هذا التغيير أو إيجابياً: (إن
الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا
ما بأنفسهم) الرعد: 11 (ذلك أن
الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها
على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)
الأنفال: 53.
هذا القانون الإسلامي في
التأسيس لعملية التغيير يردنا
إلى حقيقة أن التغيير ليس
هيكلية إدارية، أو منهجية
سياسية، أو مناخاً اقتصادياً،
يستورد أو يفرض من فوق، بالقوة
المادية أو بالسلطة المعنوية.
إنما ينبع التغيير الحقيقي
الإيجابي من البناء القويم
المتوازن للنفس الإنسانية،
وصقلها بالقيم الخيّرة
الإيجابية، وتزويدها بالأدوات
المعرفية والمادية المساعدة،
وتوظيف الطاقات بطرائق منتجة.
معضلة التغيير في عالمنا
الإسلامي:
ثمة سؤال مشروع لا بد من
الإجابة عليه: لماذا لم يحدث
التغيير الإيجابي الذي نتحدث
عنه حتى الآن في عالمنا العربي
والإسلامي؟! إن عمر ما يسمى
بالمشروع النهضوي العربي قد
تجاوز القرن. ومع ذلك فإن واقعنا
مازال يثير قلقنا وقلق الآخرين
بحق، ولعل هذا القلق هو الجامع
الأساسي بين الموقفين..
لقد كان المشروع (النهضوي
العربي) في منطلقاته وآفاقه،
كما المبادرات المعروضة هذه
الأيام، مشروعاً مفروضاً من
أعلى، انتقل بطريقة آلية من
الأعلى (الخارجي)، إلى الأعلى (السلطوي)،
والأعلى (النخبوي). لقد بني
المشروع النهضوي في القرن
السابق، على أساس تغيير (القبعة)
لا تغيير ما تحت (القبعة)، فباء
بالإخفاق الذريع الذي نعيش !!
لقد كانت معضلة التغيير
الإيجابي في العالم الإسلامي،
أن القوى القادرة عليه لم تحظ
بالاعتراف الاستراتيجي أو
السياسي أو الثقافي. بل اعتبرت
دائماً قوى إعاقة لمشروع إصلاح
مستورد، وطرحت عليها بالتالي
سياسات التهميش والإقصاء، وحين
حاولت مقاومة واقع الاستبداد
والفساد عوملت بمناهج
استئصالية عنيفة وحادة، ويبدو
أن الموقف من هذه القوى غير مرشح
للتغيير!!
لا نزعم أن هذه القوى كانت
تمتلك قوة خارقة لإحداث
التغيير، أو أنها كانت تحوز
مناهجه وأدواته، ولكنها كانت
على الأقل تمثيلاً واقعياً
للقوى المؤهلة لقيادة ركبه.
نعترف أنه ليس من المعقول أن
ننسب واقعنا المتخلف إلى بعد
أحادي كذاك الذي أشرنا إليه.
للواقع المتخلف جديلة من
الأسباب، كان المطلوب من إدارة
سياسية واجتماعية وثقافية
تفكيك مكونات هذه الجديلة
ومعالجتها.
لقد
كرس تخلفَنا، الذي نشأ عن همدة
تاريخية حضارية، تحالف ثلاثي
بين (الآخر) بمشروعاته وأدواته
المادية والمعنوية، وصاحب
السلطة المحلي الذي دار دائماً
حول ذاته بطريقة عدمية سلبية،
ثم بعض النخب التي انغمست في
مشروع الآخر عن حسن ظن وقناعة،
أو على طريقة لا تبعد كثيراً عن
طريقة صاحب السلطة الأول.
نعتقد
أن الإشارة إلى (الدين) الذي هو
الإسلام، على أنه عامل من عوامل
التخلف (والتي صدرت عن العديد من
السياسيين والدارسين) تنطلق من
جهل مطبق بطبيعة الإسلام، ومن
خلط بين الإسلام وواقع المسلمين
ثانياً، ومن تجاهل المعطى
التاريخي الذي يثبت أن الإسلام
لم يؤسس لأعظم حضارة في القرون
الوسطى فقط، بل شارك بجدارة
سياسياً وثقافياً للتأسيس لعصر
النهضة الأوروبي نفسه..
من
جوهر الإسلام فرضه التجديد،
وارتباط أحكامه بأحكام الزمان
والمكان، واعتبار هذا قاعدة من
قواعد تشريعه الأساسية. حالات
الإقصاء والاستئصال حرمت
الفقيه المسلم، والإصلاحي
المسلم من مناخ التفكير الحر
الهادئ، ومن فرصة معايشة الواقع
لاقتراح الحلول العملية له، ومن
جسر اللقاء مع الجماهير
الإسلامية للتواصل معها،
وتوجيهها الوجهة المناسبة. إن
التقدمات التي يتقدم بها
المستفيدون من عزل الإسلام
وقواه الحية عن الواقع تحت شعار
محاربة (الأصولية) أو (التطرف)،
ما هي إلا طريقة للحفاظ على
المكاسب، ولإبقاء عوامل الأزمة
قائمة.
من
جهة أخرى يعزو آخرون من منطلق
شوفيني عنصري، أسباب التخلف
الراهن في العالم العربي
والإسلامي إلى (الإنسان)،
وينتزع بعضهم نصوصاً شاردة من
كتب التاريخ لدعم نظرية عنصرية،
تؤكد أن الإنسان العربي غير
مؤهل حضارياً.. لا يحتمل المقام
سجالاً ثقافياً أو فكرياً في
هذا المجال. إن الموقف العنصري
الذي يحاول أن يقفز عن الدور
الحضاري لأمتنا في تطوير
الحضارة الإنسانية إلى الأصول
اليونانية لهذه الحضارة، يغفل
أن الحضارة اليونانية نفسها
كانت عربية في مصادرها الأولى
يشهد لنا على ذاك (ألفا ـ بيتاـ..)
اليونانية، كما تشهد به أقوال
المنصفين من دارسي الحضارة
الإنسانية، وتكفينا في هذا
المقام شهادة الفرنسي (بير روسي)
الذي يقرر في كتابه (تاريخ العرب):
(لقائل أن يقول إنه لولا العرب
لما عرفنا أرسطو وأفلاطون، ولكن
الحقيقة أنه لولا العرب لما كان
أرسطو وأفلاطون..).
ثم
نستشهد بما أوردته دائرة
المعارف البريطانية عن جنس
العرب الذي يدعي عليه المدعون (..
العرب هم أحد أقوى الأجناس
وأشرفها في العالم، وذلك من
الناحية العقلية. ويتفوقون على
معظم الأجناس. وهم متأخرون ـ أي
هذه الأيام ـ في مسيرة التقدم
بسبب النقص الملحوظ في التنظيم
والعمل المشترك..)
مطلوب التغيير:
المفارقة الأساسية
والخطيرة في مطلوب التغيير بين
ما نريده وما يراد لنا. لقد
تركزت إرادتنا الجمعية في
الرغبة بالعودة إلى مكانتنا
الحضارية كقسيم إنساني له
عقيدته وهويته ومكوناته
وإرادته ورؤيته ومشاركته في
الحضارة الإنسانية، بينما أريد
لنا أن نكون عربة خلفية في قطار
الحضارة الإنسانية.
عربة تخدم مصالح الآخر، أو
خزان وقود احتياطي يغطي
احتياجاته.
هذه
المفارقة الأساسية هي التي جعلت
الآخر ينفي قوى التغيير
القادرة، ويصطنع الأدوات
السلطوية والنخبوية التي
انشغلت دائماً بمصالحها. مع
التباين الواضح في صيرورة مطلب
التغيير، فإن التأمل العملي في
مفرداته على مستوياتها
المختلفة، يضعنا مع الآخر أمام
ثلاث دوائر من المطلوبات.
الدائرة الأولى هي دائرة
المشتركات..
وهي
دائرة تنطلق من مشترك (إنساني)
أولي، يرتكز على القانون
الطبيعي، في تحديد ماهيات (الحق)
و(الخير) و(الجمال). مع
شعورنا أن الجليات من حقائق هذا
القانون آخذة في الاهتزاز لدى
الآخر، إلا أنها بمجملها تبقى
محطة صالحة للقاء والانطلاق.
وهي تنطلق ثانياً من مشترك (ديني
سماوي)،
يتجسد في الديانات السماوية
التي صدرت من (مشكاة واحدة)،
حسب تعبير النجاشي يوم عرض عليه
الإسلام. لا يسمح المقال بعرض
جملة المشتركات (الإسلامية ـ
المسيحية)؛ ولكنها في ميدان
القيم والوصايا تكاد تكون
متطابقة إلى حد كبير. فكل
الرسالات السماوية حرمت الظلم
وحضت على العدل، حرمت القسوة
ونادت بالرحمة، صانت من الإنسان
دمه وكرامته وعرضه وماله. مجدت
الأمومة وأدانت الخطيئة. بنت
المجتمع على الأسرة ووضعت
قوانين حمايتها. نادت بالمساواة
والتسامح والمحبة وتوفير
الحرية والكرامة للإنسان. أمرت
بالسعي والكسب، وضبطت سلوك
الأغنياء، وفتحت لهم ملكوت
السموات إذا استقاموا على
الطريقة، ورحموا إخوانهم
الفقراء..
من
هذين المعينين: (القانون
الطبيعي) و(القيم السماوية)
المشتركة، ترتسم دائرة المشترك
المستقبلي، التي يرتكز عليها
نداء التعارف، الذي جعله
الإسلام غاية الاختلاف بين
الأمم والشعوب: (يا أيها الناس
إنا خلقناكم من ذكر وأنثى
وجعلناكم شعوباً وقبائل
لتعارفوا إن أكرمكم عند الله
أتقاكم) الحجرات: 13، وينشأ
عنها: الاعتراف المتبادل بالآخر.
والاحترام المتبادل بين
مجاميعه وأفراده. وتستقر في
إطارها العلاقات وتتوضح الحقوق.
في
إطار دائرة المشترك هذا، تتجسد
دائرة المشترك (الإنساني) الذي
تسوده المشاعر الإنسانية، التي
تنطلق من الحق والعدل، وتشترك
في الرحمة والشفقة والألم.
ودائرة
المشترك الحضاري التي تقوم على
التواصل والمشاركة، والانغماس
في تاريخ موحد للحضارة
الإنسانية من أمسها إلى يومها،
بعيداً عن الاستئثار والادعاء
والكبر، وبعيداً أيضاً عن مشاعر
اليأس والإحباط والنكران.
وتقوم
دائرة المشترك (الاستراتيجي)
بأبعاده السياسية والاقتصادية
والثقافية، التي تلم شمل
الأهداف المتقاربة في إطار
تبادل المنافع والمصالح (بسط
الندى وكف الأذى).
الدائرة الثانية هي دائرة
المختلطات..
دائرة المختلط أو الملتبس،
وهي الدائرة التي تعتبر ميدان
عمل حقيقي لجهود الحوار المثمر.
لأن ما في هذه الدائرة ينبغي أن
يخضع للفهم والتفاهم. وهي تحتاج
إلى جهد مشترك مكثف لتعريف
المصطلحات، وشرح المفاهيم،
وتوضيح الحقائق. الحوار الحقيقي
هو القادر على توضيح الكثير من
الملتبسات، وتعزيز دائرة
المشتركات، والتخفيف من حمى
المختلفات، التي تخلق انطباعات
سلبية تقود إلى حالة من
الكراهية تهدم العلاقات بين بني
الإنسان.
الدائرة الثالثة دائرة
الخصوصيات..
وهي الدائرة التي تميز
إنساناً عن إنسان، في إطار
الخصوصية الفردية. ودولة عن
دولة في إطار الخصوصية السياسية.
وأمة عن أمة في إطار الخصوصية
الحضارية. وهي خصوصيات أوجب
منطق التعايش المدني بين بني
البشر احترامها وتوقي المساس
بها. إذ يعتبر المساس بها
بالنسبة لأي أمة بمثابة إعلان
حرب عليها تستنفر الطاقات وتثير
الغضب وتفجر ينابيع الكراهية.
التغيير تحت الوصاية..
والرعب من الإسلام:
تتوافق دوائر ثلاث على
ضرورة إحداث التغيير، أو القيام
بتنفيذ (مبادرات الإصلاح)
المقترحة، تحت الوصاية،
لإقصاء الإسلام عن موطن التأثير
في الحياة العامة، والحيلولة
دون وصول (الإسلاميين) الذين
يسيطرون على قطاع كبير من
الشارع العربي والإسلامي إلى
موقع القرار.
الدائرة
الأولى (الآخر) بكل موروثه
التاريخي، وتصوراته الخاطئة،
ورغباته المحمومة في جني
المكاسب، بعيداً عن أعين
أصحابها الحقيقيين. ولهذا فقد
اندفع، ومايزال، في تقديم الدعم
لكل برامج الاستئصال والإقصاء.
ويسعى جاهداً لتقديم مبادرات
الإصلاح (تحت السيطرة)، لتفويت
الفرصة على قوى التغيير
الحقيقية، ليكون مشروع الإصلاح
هو الآخر تحت السيطرة. مشروع (السلام
ـ والاستقرار ـ والازدهار) وليس
مشروع القوة والوحدة والمنعة.
الدائرة الثانية (الحكام
المستبدون):
الحكام
الذين يشعرون أن مبادرات
التغيير تهدد وجودهم بشكل مباشر.
الحاكم الذي يدور حول مشروعه
الشخصي فقط، وهو بالتالي يجيد
تقديم التحذير تلو التحذير
للآخر: بأن مبادرات الإصلاح ما
هي إلا لعبة خطرة، ستذهب
بالوصي والموصى عليه معاً.
وأن البعبع الإسلامي إنما ينتظر
الفرصة العابرة، ليصادر كل
أحلام (الآخر) وتطلعاته، وينقض
مخططاته، ويعطل مصالحه.
الدائرة الثالثة (النخب
المستفيدة):
لقد عجزت النخب المستفيدة
طوال قرن عن تحقيق أي إنجاز
إصلاحي. ومع أنها تلقت دعماً غير
محدود خلال القرن الماضي، كما
الحاكم، إلا أنها بتحالفها مع
المستبد كرست التخلف، وشاركت في
نشر الفساد وحمايته، بل إن مما
يقلق الآخر أنها بدأت تخسر
مواقعها، على صعيد الخطاب
الثقافي، كما على صعيد السلوك
الاجتماعي. هذه النخب التي
استمتعت طويلاً في ظل المستبد
وهي تسيطر على منابر الحياة
العامة: الفكر والثقافة
والإعلام، تخاف هي الأخرى على
مواقعها، وتسعى إلى إقناع الآخر
بضرورة أن تتم قيادة مشروع
الإصلاح (تحت السيطرة).
(وثيقة
الإسكندرية) التي وقعها مائة
وسبعون ممن سموا (مثقفاً
ومفكراً) عربياً تطالب بما يلي:
(ضرورة تحقيق التطوير
للمجتمعات العربية، وتفادي
الضغوط الخارجية التي تدفع في
اتجاه إصلاح قد يتسبب في
انهيارات أو قفز لقوى أصولية
على السلطة.. !) الحياة 14/3/2004.
هذه
النخب غدت كالعجوز الهرمة، التي
تدس إلى العطار سلعة بيتها،
بغية تجديد عقدها، للاستمرار في
الاستمتاع بمواقعها، على حساب
تخلف الأمة ومصالحها
الاستراتيجية، وبرامجها
التنموية..
الإصلاح.. والأفق المسدود (بين
الأنظمة والشعوب)
إن الظلمات الثلاث التي
تكتنف مشروع الإصلاح في المنطقة
العربية والإسلامية: (الآخر)، و(الحاكم)،
و(النخب) جديرة بإجهاض أي مشروع
إصلاح حقيقي.
ما
الفرق بين الديموقراطية ـ تحت
السيطرة ـ التي يتقدم بها
الآخر، وبين الديموقراطية
الشكلية التي تمنحها أنظمة
الاستبداد لشعوبها، فتخرج إلى
البرلمانات العربية أصحاب (نعم..
وللأبد)، وتجعل من ممثلي
الشعوب، حراساً على الفساد
والمدافعين عن الاستبداد؟!
قد يطيب (للآخر) أن يبقى
العالم العربي على حاله، مزرعةً
خراباً ينتقصها من أطرافها
تارة، ومن ثرواتها تارة أخرى
كلما عنّ له ذلك. ولكن هذا
الواقع قد فرخ واقعاً إنسانياً
وسياسياً أليماً
"؟
أليماً. بدأ الآخرون
يتشكون من ثمراته المرة سراً
وعلانية.
إصلاح حقيقي في المنطقة
يتطلب اعترافاً أولياً بها:
حضارة وإنساناً. إن محاولة
العبور إلى المنطقة أو معها عن
غير هذا الطريق ستضع أي مشروع
للتغيير في أفق مسدود، وسيكون
الجميع فيه من الخاسرين.
إن ما حققته قوى التغيير
القادرة عليه خلال قرن مضى كان
كبيراً، ولكنه لم يكن كافياً.
لأن سياسات الاستئصال والإقصاء
قد استغرقت الكثير من جهودها،
وهي ماتزال مستعدة للعمل على
محورين؛ محور إزاحة قوى الإعاقة
عن طريق برامج الإصلاح ببعديها
المجتمعي الداخلي الموروث،
وبعدها الخارجي المفروض، الذي
يسعى لتوظيف كل معطيات الإصلاح
في خدمة المشروعات الشخصية.
إن الاستمرار في المراهنة
على (الأنظمة) و(النخب) لتجاوز
الشعوب، والقفز من فوق مطلوبها
من التغيير، ما هي إلا محاولة
ضالة أخرى، وزج للعلاقات
الإنسانية والحضارية في صدام
دائم، ودوامة من الخروقات وردود
الأفعال المتبادلة.
إن الشراكة الحقيقية
والمجدية ينبغي أن تقوم على أسس
متينة وقويمة. إن أول أسس هذه
الشراكة أن يكون طرفا العقد
معبرين تعبيراً أصيلاً وحراً عن
إرادة من يمثلون. يجب أن يلتزم (الآخرون)
بما يروجون ويطرحون. وأن يقبلوا
رفضنا المسبق والمبدأي لأي عقد
توقعه حكومة غير منتخبة
انتخاباً حراً ونزيهاً. لا
ننتظر من الآخر أن يتدخل في
شأننا الداخلي لإنجاز عملية (دمقرطة)
المجتمعات والحكومات. ولكن
ننتظر منهم أن يتوقفوا عن دعم
أنظمة الاستبداد ونخبه، كما
ننتظر منهم أن يتوقفوا عن
التعامل معها.
إن
الديموقراطية كآلية ومنهجية
تحمل في بنيتها الموقف المحايد
من الأفكار والأشخاص والقوى. إن
الذي يفزع قوى التغيير في
المنطقة الطروحات التي تقدم
ابتداء لفرض الوصاية على الآلية
المحايدة وتوجيهها. إن إغلاق
نافذة التعبير الديموقراطي في
وجه أي قوة، كبرت أو صغرت، بسبب
هويتها هو بشكل أو بآخر سعي إلى
تفجير الواقع. كما أن
الانقلابات على الديموقراطية
في حالة لم ترقنا نتائجها ـ كما
حدث في الجزائر ـ سيكون مدرجة
لتكريس اليأس والقنوط من الطريق
الديموقراطي نفسه كوسيلة
لتنفيذ المشروع الإصلاحي أو
لتداول السلطة.
إن القوى الإسلامية بشكل
عام في المنطقة، والقيادات
الحركية الإسلامية قد أكدت
تكراراً قبولها بالمنهج
الديموقراطي وبصندوق الاقتراع،
إن التذرع بأن الإسلاميين يمكن
أن ينقلبوا على الديموقراطية هي
الذرائع المباشرة لتكريس
الاستبداد السلطوي والاستبداد
النخبوي. وأولى بالنخب التي
تختبئ وراء هذه الذريعة أن تعلن
إفلاسها أو أن تعود إلى الساحة
لإقناع الجماهير بمناهجها
وطروحاتها.
يتبــــع
|