ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الأحد 24/12/2006


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

كتب

 

إصدارات

 

 

    ـ مجتمع الشريعة

 

 

   ـ أبحاث    ـ كتب

 

 

    ـ رجال الشرق

 

 

المستشرقون الجدد

 

 

جســور

 

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة

كتاب أزمة الإسلام

برنارد لويس  

ترجمة الباحثة : ميسرة زهير سالم

هوامش وتعليق : الأستاذ زهير سالم

الفصل الثالث

من صليبيين  إلى امبرياليين

يظهر الصليبيون بشكل بارز جداً في الوعي والخطاب الشرق أوسطي، لدى كل من القوميين العرب والأصوليين الإسلاميين، كأسامة بن لادن الشهير. إلا أنهم (الصليبيون) لم يكونوا دائماً كذلك.

إن استيلاء الصليبيين على القدس في عام 1099م كان نصراً للعالم المسيحي وكارثة على المسلمين وكذلك على اليهود في المدينة. ووفقاً لحكم المؤرخين العرب لتلك الفترة فإن الأمر كان قد أثار اهتماماً قليلاً جداً في المنطقة، ولم يُستجب لمناشدات المسلمين المحليين الموجهة لدمشق وبغداد. وسرعان ما دخلت الإمارة الصليبية التي أنشئت حديثاً والممتدة من انطاكية إلى القدس في لعبة السياسة في الشرق. مع تحالفات دينية متقاطعة في شكل من التنافس بين المسلمين والأمراء المسيحيين.

إن مقاومة الصليبية والتي أدت في النهاية إلى هزيمة وطرد الصليبيين لم تبدأ إلا بعد قرابة قرن. وكان سببها المباشر أعمال القرصنة التي كان يقوم بها قائد الصليبيين، رينالد من شاتيلون، والذي سيطر على قلعة الكرك، الموجودة حالياً جنوب الأردن، فيما بين 1176 و1187م، واستخدمها لإطلاق سلسلة من الغارات على قوافل المسلمين وتجارتهم في المناطق المجاورة، بما في ذلك منطقة الحجاز. إن مؤرخي الحروب الصليبية كانوا على حق في الأرجح في قولهم أن حافز رينالد كان اقتصادياً بشكل رئيسي، بكلمات أخرى، الرغبة في الغنائم. إلا أن المسلمين رأوا حملاته استفزازاً وتحدياً موجهاً ضد الأماكن المقدسة في الإسلام. في عام 1182، وأثناء انتهاك الاتفاقية بين ملك الصليبيين في القدس والقائد المسلم صلاح الدين، فقد هاجم وسلب قوافل المسلمين، بما في ذلك قافلة حجاج متوجهة إلى مكة. ما كان أكثر إثارة للغضب من وجهة نظر المسلمين، تهديده للجزيرة العربية، وخصوصاًً، مجموعة أعمال قرصنة في البحر الأحمر، تضمنت هجمات على سفن المسلمين وعلى موانئ الحجاز التي كانت تخدم مكة والمدينة. لقد كانت هذه هي الأحداث التي أدت مباشرة إلى إعلان صلاح الدين للجهاد ضد الصليبيين[1] ـ وهذا تفسير حي للأهمية المركزية للسعودية العربية في الوعي الإسلامي[2]. إن انتصارات صلاح الدين واستيلاءه على القدس من الصليبيين في عام 1187 كان لوقت طويل ومايزال مصدر إلهام للقادة العرب. لقد أشار صدام حسين مراراً إلى حاكمين سابقين للعراق والذين يدعي أنهم كانوا سلفاً له في رسالته: 

صلاح الدين، الذي أنهى الخطر الغربي في أيامه بهزيمة وطرد الصليبيين، ونبوخذ نصر، الذي تصرف بشكل سريع وحاسم مع المشكلة الصهيونية. في 8 تشرين أول 2002، تحدث رئيس وزراء فرنسا، جين بيير رافيران، في خطاب ألقاه في (الجمعية الوطنية الفرنسية)، عن قدرة صلاح الدين على (دحر الصليبيين في بحيرة طبريا وتحرير القدس). إن هذا الاستخدام المثير للاهتمام لكلمة (حرر) من قبل رئيس وزراء فرنسي لوصف استيلاء صلاح الدين على القدس من أيدي الصليبيين قد يكون انعكاساً لواقعية الوقت الحاضر، أو بدلاً عن ذلك، استقامة سياسية متطرفة[3]. في بعض البلدان الأخرى فإن هذه الصيغة قد تعزى إلى جهل بالتاريخ، ولكن بالتأكيد ليس في فرنسا. حتى في أوروبا المسيحية، فإن صلاح الدين كان يمجد بإنصاف وقدر لشهامته ومعاملته الكريمة مع أعدائه المهزومين. هذه المعاملة، لم تمتد لتشمل رينالد شاتيلون. ويفسر المؤرخ العربي العظيم ابن الأثير الأمور. (لقد أقسمت مرتين أن أقتله إذا طالته يداي؛ الأولى عندما حاول أن يسير إلى مكة والمدينة، والثانية عندما استولى على القوافل المتجهة إلى الحجاز غدراً). بعد انتصار صلاح الدين العظيم، وعندما أخذ الكثير من الأمراء والقواد الصليبيين أسرى وتم إطلاق سراحهم لاحقاً، عزل صلاح الدين رينالد شاتيلون عن الآخرين، وقتله وقطع رأسه بيديه هو.

بعد نجاح الجهاد وإعادة السيطرة على القدس، بدا أن صلاح الدين وخلفاءه قد فقدوا اهتمامهم بالمدينة، وفي عام 1229م تنازل أحدهم حتى عن القدس للامبراطور فريدريك الثاني كجزء من اتفاقية تسوية عامة بين حاكم المسلمين والصليبيين[4]. وقد تمت استعادتهما في عام 1244، بعد أن حاول الصليبيون أن يجعلوها مدينة مسيحية خالصة. بعد فترة طويلة من الاختفاء، استيقظ الاهتمام ثانية بالمدينة في القرن التاسع عشر، أولاً بسبب تنازع القوى الأوروبية على الوصاية على الأماكن المسيحية المقدسة، وبعد ذلك بسب الهجرة اليهودية الجديدة. لقد شهدت الفترة نفسها استيقاظاً بالاهتمام بالصليبيين لدى المسلمين، والذين أثاروا القليل من الاهتمام في الوقت الذي ظهروا فيه[5]. إن التأريخ الجغرافي العربي الضخم والغني في تلك الفترة يسجل وصول الصليبيين ومعاركهم والدول التي أسسوها ولكنها تظهر القليل أو لا تظهر اطلاعاً على طبيعة وأهداف مشروعهم. إن كلمتي صليبية وصليبيين لم تظهر حتى في التاريخ الجغرافي العربي في ذلك الوقت، حيث يشار إلى الصليبيين على أنهم الكفار، المسيحيون، أو في الغالب الفرنجة. وهو تعبير شائع عن المسيحيين الكاثوليكيين، والبروتستانت لاحقاً، لتمييزهم عن نظرائهم في الدين من الأورثوذكس والشرقيين. إن إدراك الصليبيين كظاهرة تاريخية مميزة يعود إلى القرن التاسع عشر. وإلى ترجمة الكتب الأوروبية في التاريخ. منذ ذلك الوقت، أصبح هناك مفهوم جديد للصليبيين باعتبارهم نموذجاً أولياً مبكراً للتوسع. إن وصفاً أكثر دقة سيقدمهم على أنهم متأخرون كثيراً، ومحدودون تماماً، وأخيراًً على أنهم رد غير مجد على الجهاد. لقد انتهى أمر الصليبيين بالفشل والهزيمة، وتم نسيانهم بسرعة في أراضي الإسلام، ولكن جهود الأوروبيين اللاحقة لمقاومة ومضادة التقدم الإسلامي إلى العالم المسيحي كان أكثر نجاحاً، واستهل ما أصبح فيما بعد سلسلة من الهزائم المؤلمة على حدود العالم الإسلامي[6].

تحت حكم الخلافة العربية في القرون الوسطى، ومرة أخرى تحت سيطرة السلالات الحاكمة الفارسية والتركية، فإن امبراطورية الإسلام كانت المنطقة الأغنى والأكثر قوة، والأكثر ابداعاً، والأكثر تنويراً في العالم، ولمعظم القرون الوسطى، كان العالم المسيحي في الموقع الدفاعي. في القرن الخامس عشر، توسعت هجمة المسيحيين المضادة. فقد طرد التتر من روسيا، والمور[7] من اسبانيا. ولكن في الشرق الجنوبي لأوروبا كان السلطان العثماني يواجه البيزنطيين أولاً ومن ثم الامبراطورية الرومانية المقدسة ثانياً، حيث هيمنت قوة المسلمين. أما التراجعات الأخرى ـ على الجبهة الإسلامية ـ فنظر إليها على أنها صغيرة وسطحية. وحتى القرن السابع عشر كان الباشاوات الأتراك مايزالون في بودابست وبلغراد، وكانت الجيوش التركية تحاصر فيينا، وكان القراصنة البربر يغيرون على كل من السفن والشواطئ الممتدة حتى انكلترا وايرلندا، وفي بعض الحالات مدريد وحتى ايسلندا. لقد تمت مساعدة القراصنة من الأوروبيين الذين لسبب أو لآخر استقروا في شمال أفريقيا وعلموهم كيف يبنون، ويوجهون ويديرون المراكب المصنوعة لرحلات المحيط في بحر الشمال وحتى في المحيط الأطلسي. إلا أن هذه المرحلة لم تستمر طويلاً.

ثم حدث التغيير العظيم. فقد انتهى الحصار التركي الثاني لفيينا في عام 1683 بفشل تام تبعه تقهقر سريع، وهي تجربة جديدة تماماً بالنسبة للجيوش العثمانية. هذه الهزيمة، التي تلقتها القوة العسكرية المعروفة على أنها الكبرى في العالم الإسلامي في ذلك الوقت، أدت إلى ظهور جدل جديد، والذي مايزال مستمراً منذ ذلك الوقت بمعنى ما. لقد بدأ جدل في صفوف الجيش العثماني، ثم لدى النخبة السياسية المفكرة، حول قضيتين: لماذا هزمت الجيوش العثمانية التي كانت منتصرة دائماً من قبل العدو المسيحي المهين؟ وكيف بإمكانهم أن يستعيدوا هيمنتهم؟ ومع الوقت انتشر النقاش من النخبة وانتقل إلى الدوائر الأوسع، من تركيا إلى بلدان أخرى كثيرة، وتعامل مع نطاق من القضايا أكثر اتساعاً.

لقد كان هناك دواع قوية للقلق. فقد تلت الهزيمة الهزيمة، وأخذت القوات الأوروبية المسيحية، والتي كانت قد حررت أراضيها الخاصة، تطارد مجتاحيها السابقين إلى أراضيهم هم في آسيا وأفريقيا. حتى قوات أوروبية صغيرة مثل هولندا والبرتغال كانت قادرة على بناء امبراطوريات ضخمة في الشرق، وإنشاء دور مهيمن لها في التجارة. في عام 1593، سجل مسؤول عثماني عمل كذلك كمؤرخ للأحداث الجارية، سيلانيكي مصطفى أفندي، سجل وصول سفير انكليزي إلى استانبول. ولم يبد أنه كان مهتماً كثيراً بالسفير، ولكنه تفاجأ كثيراً بالسفينة الانكليزية التي سافر فيها السفير (لم تدخل سفينة بهذه الغرابة إلى ميناء استانبول من قبل)، كتب قائلاً (فقد عبرت مسافة 3700 ميل في البحر وحملت ثلاثاً وثمانين بندقية، إضافة إلى أسلحة أخرى. لقد كانت أعجوبة العصر، ولم ير أو يسجل مثيل لها). (إن حاكم جزيرة انكلترا امرأة تحكم مملكتها الموروثة بكامل القوة).

تفاصيل أخرى، لم تذكر من قبل المؤرخ العثماني، كانت أيضاً على بعض الأهمية. فالسفير الانجليزي في هذا الحدث لم يكن في الحقيقة معيناً رسمياً من قبل الملكة اليزابيث ولكنه كان قد تم اختياره واستبقاؤه ليس من قبل الحكومة الانجليزية ولكن من قبل مجلس تجاري. وهو ترتيب مفيد في وقت كان فيه الاهتمام الرئيسي في العالم الغربي بالشرق الأوسط هو التجارة. في الحقيقة، فقد كان التوسع السريع والتحديثي التكنولوجي والاقتصادي للغرب ـ المصنع، سفن الشحن العابرة للمحيطات، وشركة الرأسمال المشترك ـ هو الذي أعلن بداية عصر جديد. لقد استطاعت السفن الغربية الأوروبية التي بنيت للمحيط الأطلسي، أن تتفوق بسهولة على السفن التي بنيت للبحر المتوسط، والبحر الأحمر، والمحيط الهندي، في كل من الحرب والتجارة، وهذه التجارة ازدادت قوتها بمادتين غربيتين اثنتين؛ التعاون والتجارة. بحلول القرن الثامن عشر كانت منتجات الشرق الأوسط التقليدية مثل القهوة والسكر قد ازدهرت في المستعمرات الغربية الجديدة في كل من آسيا وأمريكا وتصديرها إلى الشرق الأوسط من قبل تجار وشركات غربية. حتى الحجيج المسلمون الذين كانوا يسافرون من الجنوب والشرق الجنوبي لآسيا إلى المدن المقدسة في الجزيرة العربية حجزوا في بعض الأحيان على سفن أوروبية، لأنها كانت أسرع، وأرخص، وآمن، وأكثر راحة.

بالنسبة لمعظم المؤرخين الشرق أوسطيين والغربيين على حد سواء، فإن البداية التقليدية للتاريخ الحديث في الشرق الأوسط[8] تعود إلى عام 1798، عندما رست الثورة الفرنسية في شخص جنرال صغير يدعى بونابرت، في مصر. خلال وقت قصير بشكل ملحوظ، استطاع الجنرال بونابرت وقوته العسكرية أن ينتصروا وأن يحتلوا ويحكموا البلاد. لقد كان هناك قبل هذا، هجمات وتقهقرات وخسارات في الأراضي في الحدود النائية، حيث واجه الأتراك والفرس النمسا وروسيا. ولكن قيام قوة غربية صغيرة باجتياح أحد البلدان الواقعة في قلب العالم الإسلامي كانت صدمة عميقة. وكان رحيل الفرنسيين بمعنى من المعاني صدمة أكبر. فقد أجبروا على ترك مصر ليس من قبل المصريين، ولا من قبل الدولة التي كانوا ينضوون تحتها، الأتراك، ولكن من قبل وحدة صغيرة في البحرية الملكية البريطانية، يقودها أدميرال صغير يدعى هوراتيو نيلسون. لقد كان هذا الدرس القاسي الثاني الذي كان على المسلمين أن يتعلموه. فليس بإمكان قوة غربية أن تصل وتجتاح وتحكم بالقوة وحسب، ولكن فقط قوة غربية أخرى تستطيع أن تخرجها.

إن الامبريالية هي فكرة هامة بشكل خاص في الحالة الشرق أوسطية وخصوصاً في الحالة الإسلامية ضد الغرب. فبالنسبة لهم، فإن كلمة (امبريالزم) لها معنى خاص. فهذه الكلمة على سبيل المثال لم تستخدم أبداً من قبل المسلمين في الامبراطوريات الإسلامية العظيمة ـ والتي أنشأ العرب أولاها، والترك أخراها، والذين فتحوا أراضي وشعوباً ضخمة ودمجوها في دار الإسلام.

لقد كان أمراً مشروعاً بامتياز للمسلمين أن ينتصروا ويحكموا أوروبا والأوروبيين وبالتالي يمكنونهم من ـ ولا يجبرونهم على ـ اعتناق الإيمان الصحيح. وقد كانت جريمة وخطيئة أن يقوم الأوروبيون بالانتصار على وحكم المسلمين، وما هو أسوأ، محاولة اضلالهم. في المفهوم الإسلامي، فإن التحول إلى الإسلام فيه منفعة للمتحول وفضل لأولئك الذين حولوه. في القانون الإسلامي، فإن التحول عن الإسلام ارتداد ـ وهي جريمة كبيرة بالنسبة لمن ضل ولمن أضله. في هذه القضية، فإن القانون واضح لا لبس فيه، فإذا ما أنكر مسلم الإسلام، حتى وإن عاد مسلم جديد عن إسلامه إلى اعتقاده السابق، فإن العقوبة هي الموت. في الأوقات الحديثة فإن فكرة ممارسة التكفير، ومعرفة وانتقاد المرتدين، قد اتسع نطاقها كثيراً. إنه ليس من غير المعتاد في الدوائر المتطرفة والأصولية إصدار مرسوم بأن سياسة، أو عملاً، أو حتى لفظة يتفوه بها مسلم متخصص أنها تعادل الارتداد، وإصدار حكم الموت على المتهمين. لقد كان هذا هو المبدأ المعتمد عليه في إصدار فتوى ضد سلمان رشدي، وقتل الرئيس السادات وآخرين كثير.

لقد مر العمل الأوروبي في الأراضي الإسلامية عبر عدة مراحل. كان الأول توسعاً تجارياًً، وكما يراه المسلمون، استغلالاً لهم ولأراضيهم، كأسواق وكمصدر للمادة الخام. ثم جاء الاجتياح والانتصار المسلح، والذي أسست القوى الأوروبية عن طريقة هيمنة فعالة على مناطق هامة في العالم الإسلامي ـ الروس في القوقاز ومنطقة ما بين جبال القوقاز وبعد ذلك في آسيا الوسطى؛ البريطانيون في الهند، والبريطانيون والفرنسيون في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. لقد حكم الأمبرياليون في هذه الأماكن لفترات متغايرة في بعضها، كما في جنوب شرق آسيا والهند، لقرون، وفي بعضها كما في الأراضي العربية في الشرق الأوسط، لفترات قصيرة نسبياً.

في كلا الحالتين تركوا بصمتهم. لقد بدأت فترة الحكم الأنجلو ـ فرنسي في العالم العربي بالحكم الفرنسي في الجزائر (1830) والبريطاني في عدن (1839). وتتابع بالاحتلال البريطاني لمصر (1882)، وامتداد السيطرة الفرنسية إلى تونس (1881) والمغرب (1911)، وبالتأثير البريطاني على الخليج الفارسي، وحققت ذروتها بتقسيم الأقاليم العربية العثمانية المعروفة الهلال الخصيب بين الامبراطوريتين الأوروبيتين العظميين. هذه المرة فإن الأراضي المكتسبة حديثاً لم يتم ضمها ببساطة، بالأسلوب التقليدي، كمستعمرات أو دول تابعة. فقد تم تخصيصها لكل من بريطانيا وفرنسا حتى تقوما على إدارتهما كقوى منتدبة، تحت سلطة عصبة الأمم، مع مهمة مخصصة لتهيأتهم للاستقلال. لقد كانت هذه فترة قصيرة جداً، بدأت بعد الحرب العالمية الأولى، وانتهت بعد الحرب العالمية الثانية، وذلك عندما طرد المنتدبون وأصبحت الأراضي المنتدبة مستقلة. لقد بقي الجزء الأعظم من الجزيرة العربية خارج السيطرة الامبريالية.

مع ذلك فإن تأثير الامبريالية كان يرى على أنه تأثير ضخم، وفي أعين معظم الناس في المنطقة، ضاراً بشكل كامل. لقد كان التأثير والخراب كبيرين بغير شك، ولكنهما على الأرجح كانا أقل كثافة وأقل من كونهما ذوي جانب واحد كما يراهما الميثولوجيون القوميون. فقد كان هناك بعد كل شيء بعض الفوائد في البنية التحتية، والخدمات العامة، والنظم التعليمية، وكذلك في التغييرات الاجتماعية. ويجدر بالذكر منها إبطال الرق وتقليل كبير في تعدد الزوجات وإن لم يكن إزالة نهائية له. بالإمكان رؤية الفروق بوضوح كبير بمقارنة الدول التي عانت من النير الامبريالي، مثل مصر والجزائر، مع تلك التي لم تفقد استقلالها قط مثل السعودية العربية وأفغانستان. لقد تأخرت الجامعات العربية في السعودية العربية وكانت قليلة. في الوقت الحا  ضر، فإن هناك ثمان جامعات لعدد من السكان يقدر بـ21 مليون نسمة. أكثر بجامعة واحدة من معاهذ التعليم العالي التي أسسها الفلسطينيون منذ الاحتلال الإسرائيلي للأراضي المحتلة في عام 1967. ولم يلغ الرق بالقانون في السعودية العربية حتى عام 1962، وبقي اخضاع النساء سارياً بشكل كامل.

ولكن هناك بالتأكيد نتائج سلبية للامبريالية وبشكل أوسع للتأثير الغربي أو الأوروبي، حتى في تلك الدول التي استطاعات أن تبقى محافظة على استقلالها السياسي، مثل تركيا وإيران. ما هو جدير بالذكر من بين تأثيرات الحداثة زيادة قوة سلطة الدولة بتعزيز جهاز المراقبة، والقمع، وعدم الالتزام بالمبدأ القانوني، وفي نفس الوقت إضعاف أو إزالة تلك القوى المتوسطة والتي حدت من فعالية قوة الحكام المستبدين (الأوتوقراطيين) بنظام تقليدي. إن التغيير الاجتماعي، وانهيار العلاقات والالتزامات الاجتماعية القديمة أدت إلى ضرر كبير بالمجتمع وأنشأت تناقضاً جديداً متباعداً، والذي جعلت منه الاتصالات الحديثة أمراً مرئياً بصورة أوضح. منذ عام 1832 لاحظ مراقب بريطاني ذكي، والذي كان ضابطاً صغيراً في البحرية يدعى أدولفس سليد، أن الاختلافات بين ما دعاه طبقة النبلاء القديمة وبين طبقة النبلاء الجديدة فطبقة النبلاء القديمة، كما قال، عاشت على ممتلكاتها هي، أما طبقة النبلاء الجديدة، فقد كانت الدولة هي ممتلكاتها. ويبقى هذا صحيحاً بالنسبة للكثيرين في المنطقة اليوم.

مع حلول أوائل القرن العشرين، ورغم أن تركيا وإيران وبعض الدول النائية كأفغانستان، والتي لم يعتقد أنها تستحق عناء الاجتياح، قد احتفظت باستقلال مهزوز، فإن العالم الإسلامي بأكمله تقريباً قد اندمج في الامبراطوريات الأوروبية الأربع والتي هي بريطانيا، وفرنسا، وروسيا، وهولندا. وقد دفعت الحكومات والمنظمات الشرق أوسطية إلى تعلم الكيفية التي سيديرون بها هذا التنافس الكبير لإحداها ضد الأخرى. لبعض الوقت، لعبوا اللعبة بنجاح إلى حد ما. منذ أن هيمن الحلفاء الغربيون بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة بفاعلية على المنطقة، فإن المقاومين الشرق أوسطيين تطلعوا بشكل طبيعي إلى أعداء هؤلاء الحلفاء من أجل الدعم. في الحرب العالمية الثانية، تطلعوا إلى ألمانيا، وفي الحرب الباردة، إلى الاتحاد السوفييتي. في وقت مبكر يرجع إلى عام 1914، حاولت ألمانيا، التي كانت في ذلك الوقت متحالفة مع الامبراطورية العثمانية، أن تحرك المشاعر الدينية بين الرعايا المسلمين لامبراطوريات بريطانيا وفرنسا وروسيا، ضد الأسياد الامبرياليين وبالتالي لصالح ألمانيا. وقد كانت نتائج هذا المسعى ضئيلة وسخر بها المستشرق الهولندي الكبير سنوك هيرجرونج في مقال شهير بعنوان (حرب مقدسة: صنع في ألمانيا). وحيث فشل القيصر، كان هتلر ناجحاً بشكل ملحوظ. في أواخر آذار من عام 1933، وخلال أسابيع من وصول هتلر إلى السلطة، زار الحاج أمين الحسيني، مفتي القدس، القنصل الألماني العام في القدس د. هيزيتش وولف، وعرض خدماته. وبعد أن كتب القنصل بهذا إلى برلين، وأوصى بأن يرفض الطلب أو على الأقل أن يتم تجاهله. فطالما كان هناك أي أمل بكسب الامبراطورية البريطانية كحليف لألمانيا، لم يكن هناك أي اعتبار لاستفزاز العداوة مع البريطانيين بتشكيل روابط مع ما كان وقتها حركة معادية لبريطانيا بشكل رئيسي. ولم يكن حتى ما بعد اتفاقية المانش عام 1938، بعدما يئس هتلر أخيراً من تجنيد البريطانيين في حلف آري مع ألمانيا، تم القبول بعروض القيادة الفلسطينية. منذ ذلك الوقت وخلال سنوات الحرب كانت صلاتهم حميمة جداً، وقد لعب المفتي من مكتبه في أطراف برلين دوراً هاماً في السياسة العربية الداخلية. في عام 1941، وبمساعدة ألمانية عبر سورية التي كان يسيطر عليها فيتشي، نجح راشد علي لفترة في إنشاء نظام موال لدول المحور في العراق. وقد هزم من قبل قوات التحالف وذهب لينضم إلى المفتي في ألمانيا. حتى أنور السادات باعترافه الخاص، عمل جاسوساً ألمانيا في مصر المحتلة ألمانياً.

إن هزيمة ألمانيا وانهيار الرايخ الثالث ووكالاته المختلفة خلّف فراغاً مؤلماً. فكما يراه الكثيرون، فقد تمكن اليهود في الفترة الفاصلة الناتجة في عام 1948 من تأسيس دولتهم وانزال هزيمة مخزية بالجيوش العربية التي تم ارسالها لمنع ذلك. لقد كان هناك حاجة ملحة إلى ظهير وحام جديد، كبديل للرايخ الثالث، وقد وجد ذلك في الاتحاد السوفييتي.

ثم جاء انهيار الاتحاد السوفييتي، الذي جعل من الولايات المتحدة قوة عظمى وحيدة في العالم. إن عهد تاريخ الشرق الأوسط الذي دشنه بونابرت ونيلسون أنهاه ميخائيل غورباتشوف وجورج بوش. في البداية بدا أن عهد التنافس الامبريالي قد انتهى بانسحاب كلا المتنافسين الاتحاد السوفييتي لأنه لم يعد بإمكانه، والولايات المتحدة لأنها لم تلعب دوراً امبريالياً. ولكن وقبل كثير من الأحداث، وخصوصاً بسبب الثورة الإيرانية وحروب الدكتاتور العراقي صدام حسين، فقد أجبرت الولايات المتحدة على الانهماك بشكل مباشر في شؤون المنطقة. لقد رأى الشرق أوسطيون أن هذه كانت مرحلة جديدة في اللعبة الامبريالية القديمة. لكن الأمريكيين لم يروا ذلك، وأظهروا أنه لم تكن لديهم لا الرغبة ولا القدرة على دور امبريالي.

لقد استجاب القادة المسلمون للوضع الجديد، في كل من الحكومة والمعارضة بطرق مختلفة. فبالنسبة للبعض، كانت ردة الفعل الطبيعة البحث عن نصير جديد خلفاً للرايخ الثالث وللاتحاد السوفييتي، نصير قد يلجؤون إليه للتشجيع، والدعم، والمساعدة في الحرب على الغرب. في نفس الوقت فإن الغرب ككتلة قوية قد تحرك أكثر باتجاه وأصبح يتألف الآن بشكل أساسي من الولايات المتحدة، تاركاً مجالاً هاماً جديداً لقارة أوروبا للقيام بدور معارض. بعض الأوروبيين في الحقيقة، الذين يشاركون الشرق أوسطيين في مشاعر الحقد والعداء للولايات المتحدة لأسباب خاصة بهم. قد أظهروا استعداداً للعب هذا الدور. ولكن رغم أن لديهم الإرادة فإنهم يفتقرون إلى الوسائل.

إن انهيار الاتحاد السوفييتي، الذي تلاه هزيمة صدام حسين في عام 1991، كان عاصفة مدمرة للحركات العلمانية القومية، وخصوصاً الفلسطينيين منهم، والذين وجدوا أنفسهم مرة أخرى كما في عام 1945 وقد حرموا من نصير قوي كبير ومن معين في قضيتهم. لقد انتهى حاميهم السوفييتي. حتى مساندوهم العرب الممولون في الكويت والعربية السعودية، والذين أغضبهم الدعم الفلسطيني المتحمس لصدام حسين، أوقفوا مساعداتهم لفترة، تاركين الفلسطينيين معزولين، وفقراء، وواهني القوى. لقد كان هذا الوضع هو الذي دفعهم (الفلسطينيون) للتفكير في ما كان لا يمكن التفكير فيه وللدخول إلى عملية سلام مع إسرائيل. لقد أُنقذت منظمة التحرير الفلسطينية بشكل مهين في أعين الأصوليين، من قبل الأمريكيين والإسرائيليين، وحملت على الدخول في حوار مذل مع إسرائيل.

كل هذا أعطى معقولية أكبر لرؤية الأصوليين للعالم، وجاذبية أكبر لقضيتهم. لقد فسروا وخصوصاً أسامة بن لادن، انهيار الاتحاد السوفييتي بطريقة مختلفة. فمن وجهة نظرهم، فقد كانوا هم وليس أمريكا، الذين انتصروا في الحرب الباردة. في رؤيتهم، لم يكن الاتحاد السوفييتي ذلك المعين المحسن في الصراع المشترك ضد اليهود وضد الامبرياليين الغربيين، بل كان بالأحرى، مصدراً للإلحاد والكفر، وقمع العديد من ملايين الرعايا المسلمين، وغزا أفغانستان كما يرونه وهو غير قابل للتصديق، فقد كان كفاحهم هم في أفغانستان الذي هزم الجيش الأحمر العظيم وأدى بالسوفييتيين للانهزام والانهيار. ولكونهم قد رتبوا أمر القوة الأكثر ضراوة والأكثر خطورة من كلا القوتين العظييين الكافرتين، فإن مهمتهم التالية كانت التعامل مع القوة الأخرى، الولايات المتحدة، وفي هذه الحرب أصبح الوسطاء أدوات وعملاء للعدو الكافر. لعدة أسباب، اعتقد الأصوليون الإسلاميون أن قتال أمريكا سيكون مهمة أكثر بساطة وسهولة. ففي نظرهم، فقد أصبحت الولايات المتحدة فاسدة أخلاقياً، ومنحلة، وبالتالي ضعيفة سياسياً وعسكرياً. ولهذا الفهم تاريخ ممتع.


[1] ـ طريقة ماكرة من المؤلف لتقليل أهمية القدس وفلسطين بالنسبة إلى المسلمين فهو يحاول أن يقرر أن المسلمين لم يغضبوا كثيراًً لاحتلال القدس ولقيام الممالك الصليبية في بلادههم ولم يستجيبوا لنداءات الاستغاثة وإنما حدث الغضب على الحقيقة حسب منطوق المؤلف عندما بدأ رينالد بتهديد قوافل المسلمين ومركز مقدساتهم في الحجاز التي يريد أن يقول إنها الأكثر أهمية بالنسبة للمسلمين!! الحقيقة أن المسلمين الذين فوجئوا بالحملات الصليبية في لحظة تاريخية صعبة لم يستطيعوا أن يستجمعوا قواهم رغم تحرقهم الشديد إلى ذلك إلى بعد مضي ما يقرب من مائة عام كانت عمليات المقاومة مستمرة وكان الحكام المسلمون الذي  يتورطون في التعامل مع الأمراء الصليبيين ينظر إ ليهم كخونة في عالم الإسلام. ثم إن هذا يتناقض مع ما سبق للمؤلف أن قرره بأن الإسلام يمنع المسلمين من التنازل عن أي شبر من أرض الإسلام.  (المراجع)

[2] ـ تأتي القدس في المركز الثاني للأهمية الدينية ـ بعد مكة والمدينة ـ  فهي أولى القبلتين وفيها ثالث الحرمين الشريفين.   (المراجع)

[3] ـ اعتراض ضمني من المؤلف على استعمال رئيس الوزراء الفرنسي لكلمة تحرير القدس من الصليبيين فتأمل.   (المراجع)

[4] ـ يحاول المؤلف أن يثير الانطباع مرة أخرى بأن القدس لا أهمية دينية لها عند المسلمين وأنه قد سهل على حاكم مسلم أن يتنازل عنها، مغفلاً أن ظروف المنطقة والحروب التي كانت تشن بين الإمارات التي كنت قائمة هي التي فرضت على الحاكم المسلم الخيار الصعب. إذا كان كل شبر من أرض الإسلام مقدساً كما سبق للمؤلف أن قرر فمن باب أولى أن تكون مدينة القدس التي فيها المسجد الأقصى أحد المساجد الثلاثة في العالم التي ندب المسلمون إلى زيارتها.   المراجع

[5] ـ يمعن المؤلف في محاولته تقليل أهمية القدس عند المسلمين وينسى حقيقة تاريخة أن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد سار من المدينة حتى القدس ليتسلم مفاتحها استجابة لطلب اسقفها حرصاً على حرمة الدماء في المدينة المقدسة. إن تعاطي الأمراء المسلمين في فترة الحروب الصليبية مع الواقع السياسي والعسكري لا ينطلق فقط من الشعور الديني وإنما ينطلق أيضاً من ظروف تعبوية تفرضها طبيعة المرحلة. لقد كان يوم تحرير القدس ومايزال عيداً في التاريخ الإسلامي اكتسب صلاح الدين وغيره من الأمراء المجاهدين شهرتهم التاريخية على أساسه. اللعبة اليهودية تقول بأن المسلمين لم يكونوا قط يهتمون بالقدس ولم يجعلوها قط عاصمة لهم بل كانت دائماً مدينة مهملة بعيدة عن الأنظار وبالتالي يحاولون أن يقرروا حق اليهود في القدس كعاصمة دينية وأبدية وحيدة لهم!!   (المراجع)

[6] ـ ينسى المؤلف أن المستعمرين الأوروبيين أنفسهم اعتبروا استعمارهم للبلدان العربية استئنافاً أو استكمالاً للحروب الصليبية ينسى مقولة اللورد إلنبي يوم دخل فلسطين (الآن انتهت الحروب الصليبية) كما يتناسى مقولة الجنرال غورو الفرنسي بعد اجتياح دمشق يومها وقف على قبر صلاح الدين ليقول له ( ها نحن قد عدنا يا صلاح الدين) الشيء نفسه يتكرر اليوم على لسان بوش والكثير من القادة الأوروبيين العسكريين والمدنيين ولو أردنا أن نحصي هذه الأقوال لطال بنا المقام. باختصار شديد الأوروبيون غير متدينين وليسوا مسيحيين ولكنهم صليبيون شديدو التعصب.  (المراجع)

[7] ـ المور تجمعات مسلمة ذات أصول بربرية ومغربية مختلطة وهي تعيش الآن بشكل رئيسي في شمال أفريقيا.          

[8] ـ لا غرو أن يكثر المؤلف استخدام مصطلح (الشرق الأوسط) في محاولة لنزع الهوية العربية والإسلامية عن بلاد العرب والمسلمين. فهو مؤلف (كتاب الغرب والشرق والأوسط) منذ نصف قرن تقريباً.    (المراجع)

 

السابقأعلى الصفحة

 

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ