ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الخميس 28/12/2006


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

كتب

 

إصدارات

 

 

    ـ مجتمع الشريعة

 

 

   ـ أبحاث    ـ كتب

 

 

    ـ رجال الشرق

 

 

المستشرقون الجدد

 

 

جســور

 

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة

كتاب أزمة الإسلام

برنارد لويس  

ترجمة الباحثة : ميسرة زهير سالم

هوامش وتعليق : الأستاذ زهير سالم

الفصل الخامس

الشيطان والسوفييت

دور أمريكا الجديد، والطريقة التي ينظر بها الشرق الأوسط إليها وضحته بشكل مثير حادثة جرت في باكستان في عام 1979. ففي العشرين من تشرين الثاني، قامت مجموعة تتألف من ألف مسلم من المتطرفين المتدينين بالاستيلاء على المسجد الحرام بمكة وصمدت لبعض الوقت في مواجهة قوات الأمن السعودية. وقد كان هدفهم المعلن (تنقية الإسلام) وتحرير الأرض المقدسة في الجزيرة العربية من (الزمرة الملكية الكافرة) ومن الزعماء الدينيين الفاسدين الذين يدعمونهم. وقد انتقد قائدهم في خطب بثت عبر مكبرات الصوت، الغربيين معتبراً إياهم مخربين للقيم الإسلامية الأصولية، وكما انتقد الحكومة السعودية باعتبارها شريكة لهم. وقد دعا إلى العودة إلى التقاليد الإسلامية العريقة (تقاليد العدل والمساواة). وبعد قتال عنيف نوعاً ما، تم قمع المتمردين، وقد أعدم قائدهم في 9 كانون الثاني 1980، إضافة إلى (62) من أتباعه، الذين كان منهم مصريون وكويتيون ويمنيون ومواطنون من دول عربية أخرى. في نفس الوقت، خرجت مظاهرة مؤيدة للمتمردين في إسلام أباد عاصمة باكستان وقد انتشرت شائعة، قام بدعمها آية الله خميني، والذي كان حينها يقوم بتثبيت نفسه كقائد للثورة في إيران، بأن الجنود الأمريكيين قد اشتركوا في الاصطدامات في مكة. وقد قام حشد من المسلمين المتظاهرين بمهاجمة السفارة الأمريكية، حيث قتل اثنين من الموظفين الأمريكيين واثنين من الباكستانيين. لماذا دعم الخميني تقريراً لم يكن خاطئاً فحسب بل بعيد الاحتمال إلى درجة كبيرة ؟

لقد جرت هذه الأحداث في سياق الثورة الإيرانية في عام 1979. ففي تشرين الثاني تم الاستيلاء على السفارة الأمريكية في طهران، وأخذ (62) من الأمريكيين كرهائن. وقد أطلق سراح عشرة منهم كانوا إما نساء أو أمريكيين أفارقة، دون تعويق، في حين بقي الرهائن الآخرون محتجزين لمدة 444 يوماً حتى تم إطلاق سراحهم في 20 كانون أول 1980. لقد كانت بواعث هذا التصرف محيرة للكثيرين في ذلك الوقت، إلا أنها توضحت فيما بعد، ويعود الشكر إلى التصريحات اللاحقة وما كشفه محتجزو الرهائن وآخرون. إن من الواضح الآن أن أزمة الرهائن لم تحدث لأن العلاقات بين الولايات المتحدة وإيران كانت في حالة تدهور، بل لأنها كانت تتطور. في خريف عام 1979، قام رئيس الوزراء المعتدل نسبياً مهدي بازركان بالترتيب للاجتماع بمستشار الأمن القومي الأمريكي، زبيغنيو بريجنسكي، تحت رعاية الحكومة الجزائرية. وقد التقى الرجلان في 1 تشرين الثاني وقالت التقارير الإخبارية أنه جرى التقاط صور لهما وهما يتصافحان. عندها بدا أن هناك إمكانية حقيقية، وفي أعين المتطرفين، خطراً حقيقياً لوجود بعض التعاون بين البلدين. قام المتظاهرون بالاستيلاء على السفارة واحتجزوا الرهائن الأمريكيين بغية تدمير أي أمل في حوار مستقبلي. وقد كانوا في هذا الوقت المتزامن مع الأحداث على الأقل، ناجحين تماماً.

بالنسبة للخميني، فقد كانت الولايات المتحدة العدو الرئيسي، الذي كان عليه شن حربه المقدسة من أجل الإسلام ضده. ثم وكما في الماضي، فإن هذا العالم من غير المؤمنين كان يرى على أنه القوة الحقيقية الوحيدة التي تزاحم وتمنع انتشار وانتصار الإسلام الذي جاء به الأمر الإلهي. في كتابات الخميني الأولى، وخصوصاً في كتابه الصادر عام 1970 (الحكومة الإسلامية)، لم تذكر الولايات المتحدة كثيراً، ثم ذكرت بشكل أساسي في سياق الإمبريالية أولاً كمعين ثم كوارثة للامبراطورية البريطانية المعروفة. في وقت الثورة، وأثناء المواجهة المباشرة التي أثارتها، أصبحت الولايات المتحدة بالنسبة إليه، خصمه الرئيسي، والهدف الجوهري الذي يصب عليه المسلمون غضبهم وازدراءهم. يبدو أن عداء الخميني الخاص للولايات المتحدة يعود إلى تشرين أول، حينما قام بإلقاء خطاب أمام سكان مدينة قم، حيث شجب بغضب القانون الذي يلزم المجلس الإيراني بمنح وضع استثنائي للبعثة الأمريكية العسكرية، ولعائلاتهم، وطواقمهم، ومستشاريهم وخدمهم، ويمنحهم الحصانة من القضاء الإيراني. على ما يبدو، لم يكن الخميني مطلعاً على أن هناك حصانات مشابهة قدم بها طلب وتم نسخها كأمر طبيعي للقوات الأمريكية المتمركزة في بريطانيا أثناء الحرب العالمية الثانية. لكن المسألة التي أطلق عليها (الإذعان) والتي هي عبارة عن حصانات استثنائية منحت في الماضي للتجار الغربيين ولرحالة آخرين في العالم الإسلامي، كانت قضية حساسة وقد لعب عليها الخميني بمهارة (لقد جعلوا قيمة الشعب الإيراني أقل من قيمة كلب أمريكي) فإذا ما اعتدى شخص على كلب يعود لأمريكي، فإنه سيحاكم. حتى ولو قام الشاه نفسه بالتعدي على كلب تعود ملكيته لأمريكي فإنه سيحاكم. ولكن إذا ما قام طاه أمريكي بالتعدي على الشاه، رئيس الدولة، فليس لأحد الحق بالتعرض له[1]. وقد نفي الخميني، الذي كان يعاني من مشاكل مع السلطات بسبب هذا الخطاب، من إيران في 4 تشرين الثاني. وقد عاد إلى هذه الفكرة في عدد من خطبه التالية وكتاباته، متهكماً على الأمريكيين بشكل خاص وعلى التزامهم المزعوم بحقوق الإنسان وبتجاهلهم لهذه الحقوق في إيران وأماكن أخرى، بما فيها أمريكا اللاتينية، في نصف الكرة الأرضية الذي ينتمون إليه. وقد تضمنت اتهامات أخرى نهب الثروة الإيرانية ودعم نظام الحكم الملكي في إيران.

في أحاديث بعد عودته إلى إيران، أصبحت لائحة المظالم ولائحة الأعداء أطول إلا أن أمريكا كانت تتصدر اللائحة، وليس فقط في إيران.

في خطاب ألقي في أيلول 1979 في قم، اشتكى الخميني من كون العالم الإسلامي بأسره في قبضة أمريكا ودعى المسلمين في العالم للاتحاد ضد عدوهم. في ذلك الوقت، بدأ بالتحدث عن أمريكا باعتبارها (الشيطان الأكبر). في هذا الوقت تقريباً قام بشجب كل من أنور السادات في مصر وصدام حسين في العراق ووصفهم بخدم وعملاء أمريكا. لقد خدم السادات أمريكا بصنعه السلام مع إسرائيل، بينما قام صدام حسين بالعمل مع أمريكا بشنه الحرب على إيران. لقد أكدت المواجهة مع أمريكا في أزمة الرهائن، وفي الاجتياح العراقي، وفي الكثير من المعارك الديبلوماسية والاقتصادية، أكدت على حكم الخميني على موقع أمريكا المركزي في الصراع بين الإسلام والغرب. من الآن فصاعداً فإن أمريكا ستصبح (الشيطان الأكبر)، أما إسرائيل التي تعتبر عميلة أمريكا فهي (الشيطان الأصغر) وشعار (الموت لأمريكا) هو الشعار اليومي الذي يسير عليه العمل. لقد كان هذا هو الشعار الذي نودي به في المظاهرات المعادية لأمريكا في عام 1979. فيما بعد أعطي الشعار صفة رسمية وأصبح ذا سمة إجبارية، وفرغ من معناه الحقيقي.

وقد حاول المراقبون الأمريكيون الذين استيقظوا على خطاب الثورة الإيرانية وعلى وضعهم الجديد باعتبارهم الشيطان الأكبر، حاولوا إيجاد أسباب للمشاعر المعادية لأمريكا والتي تزايدت في العالم الإسلامي لبعض الوقت. أحد التفسيرات، والذي كان مقبولاً على نطاق واسع لفترة، خصوصاً في دوائر السياسة الخارجية الأمريكية، أن صورة أمريكا كانت قد تشوهت أثناء حربها وتحالفها المستمر مع القوى الاستعمارية الأوروبية السابقة. وهم يدافعون عن بلادهم، أشار بعض المعلقين الأمريكيين، أنه وخلافاً للإمبرياليين الأوروبيين الغربيين، فإن أمريكا نفسها كانت ضحية للاستعمار، فالولايات المتحدة كانت أول دولة تتحرر من الحكم البريطاني. ولكن الأمل بأن الرعايا الشرق أوسطيين للامبراطوريتين البريطانية والفرنسية سيستقبلون الثورة الأمريكية كنموذج لكفاحهم العادي للإمبريالية كان مبنياً على تفكير خاطئ بأن الكتاب العرب سيسرعون في الإشارة إليها. إن الثورة الأمريكية، كما يشيرون مراراً، لم يخضها الأمريكيون القوميون الأصليون، وإنما المستوطنون البريطانيون وهي بعيدة عن كونها تمثل انتصاراً على الاستعمار، بل إنها تمثل انتصاراً نهائياً للاستعمار. فقد نجح الإنجليز في شمال أمريكا باستعمار الأرض بشكل شامل لم يعودوا يحتاجون معه إلى دعم بلدهم الأم ضد السكان الأصليين.

إن رؤية رعايا الاستعمار السابقين في الشرق الأوسط لأمريكا على أنها مصابة بنفس النوع من الامبريالية الذي كانت أوروبا الغربية مصابة به هو أمر لا يكاد يثير أي دهشة. إلا أن استياء الشرق أوسطيين من القوى الإمبريالية لم يكن ثابتاً بشكل دائم. فالاتحاد السوفييتي الذي احتفظ بمكتسبات قياصرة روسيا الإمبريالية وعمل على توسعتها، حكم بيد قوية على عشرات الملايين من الرعايا المسلمين في آسيا الوسطى والقوقاز. ورغم ذلك تعرض الاتحاد السوفييتي لردود فعل مختلفة من الغضب والكراهية من قبل المجتمع العربي.

إن اهتمام روسيا بالشرق الأوسط لم يكن جديداً. فقد كان القياصرة يتوسعون تجاه الجنوب والشرق لقرون، وقاموا بدمج أراض إسلامية ضخمة بإمبراطوريتهم على حساب كل من تركيا وفارس وحكومة وسط آسيا المستقلة سابقاً. إن هزيمة المحور في عام 1945 تسببت في تهديد سوفييتي جديد. فقد أصبح السوفييت الآن متغلغلين بعمق في البلقان وأصبحوا يشكلون تهديداً لتركيا على كل من حدودها الشرقية والغربية. لقد أصبحوا فعلياً داخل إيران، باحتلالهم لمقاطعة أذربيجان الفارسية. وقد كان تهديدهم لإيران طويل الأمد. ففي الحروب الروسية الإيرانية في (1804 ـ 1813) و(1826 ـ 1828)، سيطر الروس على الجزء الشمالي من أذربيجان، والتي أصبحت مقاطعة في الإمبراطورية القيصرية وبعد ذلك جمهورية في الاتحاد السوفييتي. في الحرب العالمية الثانية، وبالتعاون مع البريطانيين قام السوفييت باحتلال إيران، لتأمين خطوط اتصالاتهم من أجل الاستعمال المتبادل بينهم. عندما انتهت الحرب انسحب البريطانيون وبقي السوفييت، على ما يبدو بنية إضافة ما بقي من أذربيجان إلى الاتحاد السوفييتي.

إلا أنهم قد منعوا من ذلك هذه المرة. ويعود الفضل بدرجة كبيرة إلى الدعم الأمريكي الذي مكن الأتراك من رفض طلب السوفييت للحصول على قواعد لهم في الـ (ستريت)، في حين قام الإيرانيون بتفكيك الحكومة الشيوعية التابعة، والتي أنشأها المحتلون السوفييت في أذربيجان الفارسية، وأعادوا تأكيد سيادة الحكومة الإيرانية على جميع أراضيها.

لبرهة من الوقت، كانت هناك مقاومة لمحاولة السوفييت لتحقيق حلم القياصرة القديم، ودخلت كل من تركيا وإيران في تحالفات غربية. إلا أن اتفاقية الأسلحة الروسية ـ المصرية في عام 1955 أعادت روسيا مرة أخرى إلى التنافس في الشرق الأوسط، وبدور رئيسي هذه المرة. وقد كان لدى كل من الأتراك والإيرانيين خبرة طويلة بالإمبريالية الروسية وكانوا بناء على ذلك حذرين. في حين كانت خبرة الحكومات العربية بالإمبريالية مقصورة على الإمبريالية الغربية، ولذلك فقد كانوا يميلون إلى النظر باستحسان أكبر إلى السوفييت[2].

بالقفز على الحدود الجنوبية والتعامل مباشرة مع الحكومات العربية المستقلة حديثاً، فقد كان الروس قادرين خلال وقت قصير على بناء موقف قوي جداً.

في البداية تقدموا بطريقة تشبه إلى حد بعيد الطريقة التي تقدم بها أسلافهم الأوروبيون؛ قواعد عسكرية ـ ذخيرة وسلاح ـ إرشاد عسكري ـ اختراق اقتصادي وثقافي. ولكن بالنسبة للأسلوب السوفييتي في إنشاء العلاقات فقد كانت هذه مجرد بداية، وكان من الواضح أن نواياهم جعل الأمور تصل إلى ما هو أبعد بكثير. لا يكاد يوجد شك في أنه لولا المعارضة الأمريكية، والحرب الباردة، والانهيار الختامي للاتحاد السوفييتي، فإن العالم العربي كان سيتشارك في أحسن الأحوال مع كل من بولندا وهنغاريا في مصيرهما، أو ربما مصير أوزبكستان على الأغلب. وليس هذا هو كل شيء. ففي الوقت الذي كانوا يسعون فيه إلى تأسيس دولة وصاية على حلفائهم في الشرق الأوسط، أظهر السوفييت أنفسهم على أنهم حماة غير ذي فعالية. ففي الحرب العربية الإسرائيلية في عام 1967، ومرة أخرى في عام 1973، لم يكونوا مستعدين أو لم يكونوا قادرين على حماية أوليائهم من الهزيمة والإذلال. وكان أقصى ما استطاعوا القيام به هو الانضمام إلى الأمم المتحدة في مطالبتها بوقف التقدم الإسرائيلي.

وفي أوائل عقد السبعينات، أصبح الوجود السوفييتي ليس غير فعال وحسب، بل ومزعجاً كذلك. فعلى غرار أسلافهم من الإمبرياليين الغربيين أنشأ السوفييت قواعد عسكرية على الأرض المصرية والتي لم يكن أي مصري يستطيع الدخول إليها، وكانوا يتقدمون باتجاه الحصول على الخطوة التقليدية التالية المتمثلة في معاهدات غير متكافئة.

لقد كان هناك بعض القادة الشرق أوسطيين الذين تعلموا الدرس، واتجهوا بتردد يزيد وينقص، تجاه الغرب. ومن البارزين بينهم كان الرئيس أنور السادات رئيس مصر، والذي ورث العلاقة السوفييتية عن سلفه الرئيس ناصر. في أيار من عام 1971 اقتنع بأن توقيع (معاهدة صداقة وتعاون) لم تكن عادلة أبداً، مع الاتحاد السوفييتي[3]. وفي تموز من عام 1972 أمر مستشاريه العسكريين السوفييت بمغادرة البلاد وقام بأول خطواته للتقارب مع الولايات المتحدة وتجاه السلام مع إسرائيل. إلا أن الرئيس السادات بدا وحيداً في تقويمه للأمور، وفي سياساته وعموماً بدا أن هذه الأحداث لم تنقص حسن النية تجاه السوفييت، ولم تزد من تلك النوايا الحسنة تجاه الولايات المتحدة كذلك. لم يعان السوفييت من أي خسارات أو حتى لوم بسبب قمعهم للإسلام في جمهوريات آسيا الوسطى والقوقاز، حيث سمح فقط بـ(200) مسجد فقط لتؤدي خدمات لـ (50) مليون مسلم. ولم يتم انتقاد الصينيين كذلك من أجل معاركهم ضد المسلمين في سينكيانغ. ولم يحصل الأمريكيون كذلك على أي عرفان بالجميل في مقابل جهودهم لإنقاذ المسلمين في البوسنة، وكوسوفو، وألبانيا. من الواضح أن هناك اعتبارات أخرى عليها العمل[4].

قد يكون أكثر التفسيرات لهذا التباين درامية يكمن في مسألة الاجتياح السوفييتي لأفغانستان في أواخر كانون أول 1979، وانشاءهم هناك لحكومة تابعة لهم. سيكون من الصعب العثور على مثال أوضح للاعتداء الإمبريالي والإخضاع والهيمنة. ومع ذلك، فإن ردة فعل العرب والعالم الإسلامي الأعم كانت بشكل ملحوظ صامتة. بحلول 14 كانون أول 1980، وبعد تعويقات طويلة، تمكنت الجمعية العامة في الأمم المتحدة أخيراً من اتخاذ قرار بخصوص هذا الحدث، ليس كما كان مقترحاً، بأن يشجب السوفييت إلا أنه (يستنكر بقوة التدخل المسلح الأخير في أفغانستان).

لم يتم استخدام كلمة (اعتداء)، ولم تذكر الجهة المتدخلة. وقد كانت نتيجة التصويت موافقة (104) دول مقابل (18). من الدول العربية امتنعت سورية والجزائر عن التصويت؛ وصوت اليمن الجنوبي ضد القرار، وتغيبت ليبيا. وقد ألقى مراقب منظمة التحرير الفلسطينية الذي ليس له حق بالتصويت خطاباً يدافع فيه بقوة عن التحرك السوفييتي. ولم تقم منظمة المؤتمر الإسلامي بدور أفضل. ففي 27 كانون أول، وبعد الكثير من المناورة والتفاوض، تمكنت منظمة المؤتمر الإسلامي من عقد قمة في إسلام آباد لمناقشة القضية السوفييتية الأفغانية. وقد قاطعت دولتان من الأعضاء القمة، هما اليمن الجنوبي وسورية، وقد شن الوفد الليبي هجوماً عنيفاً على الولايات المتحدة، بينما غاب ممثل منظمة التحرير الفلسطينية، وهو عضو كامل العضوية في منظمة المؤتمر الإسلامي، عن التصويت عن القرار المعادي للسوفييت وعبر عن تحفظه كتابياً[5].

لقد كانت هناك ردة فعل إلى حد ما في العالم الإسلامي على الاجتياح السوفييتي ـ بعض المال السعودي وبعض الأسلحة المصرية والكثير من المتطوعين العرب. ولكن ترك للولايات المتحدة أمر تنظيم، وقد حدث ذلك بنجاح ـ هجمة إسلامية معاكسة على الإمبريالية السوفييتية في أفغانستان[6]. وقد قامت منظمة المؤتمر الإسلامي بالقليل فقط لمساعدة الأفغان، مفضلين تركيز جهودهم على أمور أخرى ـ بعض الأقليات الإسلامية في مناطق لم تستقل بعد، وبالطبع قضية الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني[7].

لقد كانت إسرائيل واحدة من نقاط كثيرة، نيجيريا، والسودان، والبوسنة، وكوسوفو، ومقدونيا، والشيشان، وسينكيانغ، وكشمير، والتيمور، ومنداناد، إلخ. إنها نقاط يلتقي فيها الإسلامي بغير الإسلامي. كل من هذه القضايا يشكل القضية المركزية لأولئك المنخطرين فيها، واستطراداً مزعجاً للآخرين. يميل الغربيون بالمقابل إلى إعطاء الأهمية العظمى لتلك المظالم التي يأملون أن تتم تسويتها على حساب طرف آخر. بالتأكيد اجتذب الصراع الإسرائيلي الفلسطيني اهتماماً أكبر بكثير من أي من القضايا الأخرى، لعدة أسباب:

أولاً، بما أن إسرائيل هي عبارة عن مجتمع ديمقراطي ومنفتح، فمن الأسهل كثيراً تقديم تقارير ـ قد تكون كاذبة أيضاً ـ لما يجري هناك. ثانياً، فإن اليهود مضمنون في الموضوع، ما يضمن عادة وجود جمهور كبير بين أولئك الذي هم لسبب أو لآخر يقفون معهم أو ضدهم. وتشكل الحرب العراقية الإيرانية مثالاً جيداً لهذا الاختلاف، وهي حرب استمرت ثماني سنوات من عام 1980 ـ 1988 وتسببت بقتل وسفك دماء ذريعين يفوقان ما تسببت به كل الحروب العربية الإسرائيلية سوية وحازت اهتماماً أقل بكثير. وذلك ناتج أولاً عن أن كلاً من العراق وإيران لا يشكلان مجتمعات ديمقراطية، وبالتالي فإن تقديم التقارير عنهما هو أكثر صعوبة وخطراً. ثانياً، فإن اليهود ليسوا متضمنين لا كضحايا ولا كمرتكبين للحدث، وبالتالي فإن الموضوع أصبح أقل إثارة للاهتمام. والسبب الثالث والأخير وهو الأهم بكثير، إن الصدارة هي للقضية الفلسطينية، أي لنقل إن الشكوى المرخصة ـ الشكوى الوحيدة التي يمكن التعبير عنها بحرية وأمان في هذه البلدان الإسلامية حيث الإعلام إما مملوك بالكامل للحكومة، أو يتم الإشراف عليه ضمن قيود مشددة من قبلها. في الواقع لقد عملت إسرائيل كبديل مفيد للشكاوى من الحرمان الاقتصادي والقمع السياسي الذي عاش كثير من المسلمين تحت سيطرته، وكوسيلة لتفريغ الغضب الناشئ. وقد ساعد المشهد الإسرائيلي الداخلي على تقوية هذه الطريقة بشكل كبير، حيث يكشف فيه أي خطأ ترتكبه الحكومة، والجيش، والمستوطنون، أو أي شخص آخر، وحيث تكشف الانتقادات الإسرائيلية الحقائق بشكل فوري، لدى كل من اليهود والعرب، في الإعلام الإسرائيلي والبرلمان. ولا يعاني معظم خصوم إسرائيل من عرقلات مشابهة في ديبلوماسيتهم العامة[8].

بينما كانت الإمبراطوريات الأوروبية الغربية آخذة في الضعف، فإن معظم معاداة الأمركة الشرق أوسطية، تمت عزوها إلى أسباب أخرى أكثر تحديداً: الاستغلال الاقتصادي، والذي غالباً ما يوصف على أنه نهب لموارد الأرض الإسلامية، ودعم الطغاة المحليين الفاسدين الذين يخدمون غايات أمريكا بقمع وسرقة شعوبهم، وأسباب أخرى وأخرى. سبب آخر: الدعم الأمريكي لإسرائيل، أولاً في صراعها مع الدول العربية المجاورة والعالم الإسلامي الأكبر. إن هناك دعماً أكيداً لهذه النظرية في التصريحات العربية والفارسية، إلا أن القول بأن كل شيء سيكون على مايرام بالنسبة لسياسات أمريكا في الشرق الأوسط إذا مازال سبب أو آخر من هذه الأسباب. يبدو غير محتمل. لقد تسببت القضية الفلسطينية بالتأكيد في غضب متنام ومتزايد، يجددها ويفاقمها سياسات الحكومات أو الأحزاب الإسرائيلية. ولكن هل يمكن أن تكون ، كما البعض مقتنع، السبب الرئيسي للشعور المعادي للغرب؟[9]

لقد ظهر نقص معين في الانسجام والتوافق وتكرر في سجل التاريخ. ففي عقد الثلاثينات، كانت سياسات النازيين الألمان هي السبب الرئيس في هجرة اليهود إلى فلسطين، والتي كانت في ذلك الوقت تحت الانتداب البريطاني، وسبب تعزيز المجتمع اليهودي هناك بعد ذلك. لم يسمح النازيون بهذه الهجرة وحسب، بل قاموا بالتسهيل لها حتى اندلاع الحرب[10]، في حين أن البريطانيين على أمل الفوز بود العرب، قاموا بفرض وتعزيز القيود. ومع ذلك، فإن القيادة الفلسطينية في ذلك الوقت، والكثير من القادة العرب، أيدوا الألمان[11] الذين أرسلوا اليهود إلى فلسطين، بدلاً من البريطانيين الذين حاولوا إبعاد اليهود في الخارج.

يمكن رؤية نفس النوع من التباين في الأحداث التي أدت إلى إنشاء دولة إسرائيل في عام 1948 والأحداث التي تبعتها. لقد لعب الاتحاد السوفييتي دوراً هاماً في تكوين أغلبية صوتت الجمعية العامة في الأمم المتحدة بسببها على تأسيس دولة يهودية في فلسطين. ومن ثم منحت إسرائيل اعترافاً شرعياً. لقد كانت الولايات المتحدة أكثر تردداً ووافقت على اعتراف بالأمر الواقع وحسب. ما هو أكثر أهمية، أن الحكومة الأمريكية استبقت حظراً جزئياً للأسلحة على إسرائيل، في حين قامت تشيكوسلوفاكيا، وبإذن من موسكو، بإرسال كمية من الأسلحة مكنت الدولة الجديدة من الاستمرار والبقاء، وقد كان السبب وراء هذه السياسة السوفييتية في ذلك الوقت ليس مودة اليهود ولا كراهية العرب، لقد كانت مبنية على اعتقاد خاطئ ـ وإن كان في ذلك الوقت منتشراً بشكل واسع ـ بأن بريطانيا ماتزال القوة الرئيسية في الغرب، وبالتالي فقد كانت ندّ موسكو الأول. بناء على هذا الأساس، فإن أي جهة تتسبب بالمشاكل للبريطانيين ـ كما فعل اليهود في السنوات الأخيرة من الانتداب على فلسطين ـ كان يستحق الدعم السوفييتي. بعد ذلك، أدرك ستالين خطأه وكرس اهتمامه لأمريكا بدلاً من بريطانيا.

في العقد الذي تلا تأسيس إسرائيل، بقيت التعاملات الأمريكية مع الدولة اليهودية محدودة وحذرة. بعد حرب السويس في عام 1956، تدخلت الولايات المتحدة بقوة وبشكل حاسم لتأمين انسحاب القوات الإسرائيلية، والبريطانية، والفرنسية. وقد أدرك القائد السوفييتي خروشييف، والذي بقي صامتاً بحذر في المراحل الأولى من الحرب، أن تصريحاً مؤيداً للعرب لن يتسبب بأي خطر تصادم مع الولايات المتحدة وعند ذلك فقط خرج بقوة ووقف إلى جانب العرب. وفي وقت متأخر في حرب الـ 1967، اعتمدت إسرائيل في أسلحتها على المصادر الأوروبية، وبشكل رئيسي الفرنسية، وليس على الولايات المتحدة.

ومع ذلك فإن عودة الإمبريالية الروسية، التي أصبحت الآن في شكل الاتحاد السوفييتي، إلى دور أكثر فعالية في شؤون الشرق الأوسط، تسبب في ردة فعل حماسي في العالم العربي. وبعد بعض الزيارات الديبلوماسية والنشاطات الأخرى، خرجت العلاقة الجديدة إلى العلن بإعلان رسمي، في نهاية 1955، في صورة صفقة أسلحة وقعت بين الاتحاد السوفييتي ومصر، والتي أصبحت خلال السنوات التالية تابعاً سوفييتياً أكثر وأكثر. ما هو أكثر إثارة حتى من صفقة الأسلحة نفسها الترحيب الذي لاقته في العالم العربي، متجاوزة الاختلافات المحلية والآلام. وقد اجتمعت هيئات من النواب من سورية، ولبنان، والأردن بسرعة فورية وصوتوا على قرار بتقديم التهنئة لناصر رئيس الوزراء حينها، حتى نوري السعيد، حاكم العراق ذي الولاء الغربي والمنافس لعبد الناصر إلى الزعامة العربية، شعر بأن عليه تهنئة زميله المصري. وقد عبرت كل الصحف العربية تقريباً عن تأييدها بحماس.

لماذا ردة الفعل هذه؟ إن العرب بالتأكيد لا يكنون حباً خاصاً لروسيا، ولا يرغب المسلمون لا في العالم العربي ولا في أماكن أخرى في فرض أي من الإيديولوجية الشيوعية أو السلطة السوفييتية في أراضيهم. وليس هذا التصرف  مكافأة على سياسة موسكو تجاه إسرائيل، والتي كانت أقرب إلى أن تكون ودودة. ما جعل العرب يشعرون بالسرور أنهم كانووا يرون اتفاقية الأسلحة ـ وهو صحيح بدون شك ـ كضربة في وجه الغرب. إن هذه الضربة، وانزعاج الغرب الواضح وخصوصاً ردة الفعل الأمريكية، قد عززت حالة الكراهية والضغينة تجاه الغرب وشجعت مناصريها[12].

إن انتشار التأثير السوفييتي في الشرق الأوسط وردة الفعل المتحمسة عليها قد شجع الولايات المتحدة على النظر بمحاباة أكبر إلى إسرائيل، والتي أصحبت الآن تعتبر على أنها حليف موثوق قد يقدم مساعدة محتملة للولايات المتحدة في منطقة معادية على نحو كبير. واليوم كثيراً ما ينسى أن العلاقة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة وإسرائيل كانت نتيجة وليس سبباً للاختراق السوفييتي.

إن الهم الأكبر لأي حكومة أمريكية، هو بالطبع تحديد مصالح الولايات المتحدة وانتهاج سياسات لحمايتها وتنميتها. في الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية، هيمنت الحاجة إلى منع تغلغل الاتحاد السوفييتي على السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط وفي أماكن أخرى كذلك.

لقد تخلت الولايات المتحدة عن حيائها بشكل مؤسف وأصبحت منخرطة على مراحل: أولاً دعم الموقف البريطاني المتداعي، ثم وعندما أصبح من المتعذر الدفاع عن هذا الموقف، قامت بالتدخل بشكل مباشر وفي النهاية حلت مكان بريطانيا كمدافع عن الشرق الأوسط ضد الهجمات، خصوصاً من الاتحاد السوفييتي.

لقد كانت الضرورة الفورية بعد الحرب هي مقاومة الضغط السوفييتي على الجانب الاشتراكي لضمان الانسحاب السوفييتي من أذربيجان الإيرانية والاستجابة لمطالبات تركيا. لقد كانت هذه السياسة واضحة ومفهومة، وإجمالاً ناجحة في حماية تركيا وإيران. ولكن محاولة توسعتها لتشمل العالم العربي عن طريق اتفاقية (حلف بغداد) أعطت نتائج عكسية بشكل فاجع وتسبب في توليد العداوة أو إضعاف أولئك الذين كان ينبغي لها أن تجتذبهم. فقد توجه الرئيس المصري جمال عبدالناصر، والذي نظر إلى الحلف كتهديد له، إلى السوفييت، وتمت الإطاحة بالنظام ذي التوجه الغربي في العراق، وتعرضت الأنظمة الصديقة في كل من لبنان والأردن للخطر، إلى درجة أنهما احتاجا كليهما إلى مساعدة غربية عسكرية لحماية وجودهما. منذ عام 1955 عندما قفز السوفييت عبر خطهم الجنوبي إلى العالم العربي، تغير التهديد الذي كانوا يشكلونه والوسائل المضادة له بشكل كبير. ففي حين وقف الخط الشمالي بثبات، إلا أن الأراضي العربية أصبحت عدائية، أو على أفضل تقدير، محايدة بشكل مضطرب[13].

في هذا الوضع دخلت العلاقة الأمريكية مع إسرائيل مرحلة جديدة. لقد تشكلت هذه العلاقة عبر وقت طويل وفقاً لاعتبارين اثنين مختلفين عن بعضهما كلية: الأول منهما هو اعتبار مما يمكن للمرء أن يطلق عليه وصف اعتبار ايديولوجي أو عاطفي، والثاني استراتيجي. فالأمريكيون الذين درسوا الإنجيل ودرسوا تاريخهم الخاص، بإمكانهم بسهولة، أن ينظروا إلى ميلاد إسرائيل الحديثة على أنه (خروج  جديد)، وعودة إلى الأرض الموعودة، ويجدون من السهل كذلك أن يتعاطفوا مع الشعب الذي يبدو أنه يكرر تجربة الآباء المهاجرين الرواد وأتباعهم. والعرب طبعاً لا يرون الأمور بهذه الطريقة، وكثير من الأوروبيين يشاركونهم في وجهة نظرهم.

الرابط الآخر بين الولايات المتحدة وإسرائيل هو العلاقة الاستراتيجية، والتي بدأت في عقد الستينات وازدهرت في عقدي السبعينات والثمانينات، وأصبحت متقلبة في عقد التسعينات، واكتسبت أهمية جديدة عندما واجهت الولايات المتحدة تهديدات طموحات صدام حسين للسيطرة، وإرهاب القاعدة الأصولي، والسخط المتزايد والمتجذر بعمق لدى حلفاء أمريكا من العرب. لقد كانت قيمة إسرائيل لدى الولايات المتحدة كخبرة استراتيجية موضع جدل كبير. فهناك البعض في الولايات المتحدة الذين يرون إسرائيل كحليف استراتيجي رئيسي في المنطقة والحضن الوحيد المضمون ضد كل من الأعداء الخارجيين والإقليميين. ويجادل آخرون بأن إسرائيل مع كونها بعيدة عن أن تكون ذخيرة استراتيجية فإنها شكلت عائقاً استراتيجياً، بتعكير صفو العلاقات الأمريكية مع العالم العربي، والتسبب في فشل السياسات الأمريكية في المنطقة. ولكن إذا ما قارن المرء سجل السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط مع سجلها في مناطق أخرى، فإن المرء لا يندهش من فشلها، بل من نجاحها. فبعد كل شيء، ليس هناك فيتنام في الشرق الأوسط، ولا كوبا أو نيكاراغوا، أو السلفادور، ولا حتى أنغولا. بل على العكس من ذلك ، فإنه وعبر الأزمات المتتالية التي هزت المنطقة، فقد كان هناك دائماً وجود أمريكي سياسي واقتصادي وثقافي مفروض في عدة دول عادة وهذا حتى حرب الخليج في عام 1991، دون الحاجة إلى أي تدخل عسكري هام. وحتى في ذلك الوقت، فإن وجودهم كان ضرورياً لإنقاذ الضحايا من اعتداء عربي داخلي، لا يمت بصلة لا إلى الإسرائيليين ولا إلى الفلسطينيين[14].

أولئك الذين ينظرون باستمرار إلى الشرق الأوسط هم مدركون دائماً لمصاعب وإخفاقات السياسة في هذه المنطقة، ولكن إذا ما نظر المرء إلى الصورة من منظور أوسع، فإن المرء لا يستطيع إلا أن يشعر بالدهشة تجاه فعالية السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط. بالمقارنة مع جنوب شرق آسيا مثلاً، وأمريكا الوسطى أو جنوب أفريقيا. منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، تم انتهاج سياسة أمريكية جديدة في الشرق الأوسط معنية بأهداف محتلفة. لقد كان هدفها الرئيسي منع ظهور هيمنة إقليمية لإحدى القوى الإقليمية، التي تستطيع السيطرة على المنطقة، وبالتالي التأسيس لتحكم احتكاري لنفط الشرق الأوسط. لقد كان هذا هو الاهتمام الأساسي الذي يؤكد السياسات الأمريكية المتتابعة تجاه إيران، والعراق أو أي تهديد مستقبلي ملحوظ في المنطقة.

إن السياسة التي تم تبنيها حتى الآن لمنع وجود أي هيمنة من هذا القبيل، هي عن طريق تشجيع وتسليح، وعند الضرورة دعم، اتفاقية أمنية إقليمية مما يضمن اتفاقية أمنية عربية كذلك. تستثير هذه السياسة حتماً الذكرى المؤلمة لمحاولات سابقة كان ضررها أكبر من نفعها. هذه المرة قد يكون للاتفاقية المقترحة فرصة أفضل بعض الشيء. فالعدو المفترض لم يعد هو الاتحاد السوفييتي المروع، والحكام الإقليميون أصبحوا يرون صورة أكثر وضوحاً للعالم ولمكانهم فيه. إلا أن اتفاقاً كهذا مرتكزاً على أنظمة غير مستقرة تحكم مجتمعات متقلبة سيكون اتفاقاً ذا أساس مهزوز، ولن تتجاوز السلسلة قوة أضعف حلقة فيها. يوضح العراق الحديث الطرق المختلفة التي يمكن أن تكون هذه السياسة مخطئة فيها. فبالتحالف مع الحكومة الملكية تسببنا في الإطاحة بها؛ وبرعايتنا لصدام حسين أنشأنا وحشاً. سيكون من السهولة المهلكة تكرار أي من هذين الخطأين، مع مخاطرة معتبرة بالمصالح الغربية في المنطقة وعواقب وخيمة على الناس هناك.

في هذا السياق، يصبح استعداد بعض الحكومات العربية للتفاوض من أجل السلام مع إسرائيل والاهتمام الأمريكي لدفع عملية السلام قدماً أمراً مفهوماً. فقد بدأ الكثير من العرب يدركون أنه على أفضل تقدير لقوة إسرائيل وأسوأ تقدير لنوايا إسرائيل فإن إسرائيل ليست هي مشكلتهم الأخطر، وليس هي التي تشكل التهديد الأعظم الذي يواجهونه. إن (إسرائيل) في حرب مع جيرانها ستشكل خطراً دائماً، وهو أمر من الممكن دائماً استغلاله من قبل صدام حسين جديد. أو حتى صدام نفسه. ولكن (إسرائيل) في حالة سلام مع جيرانها قد تقدم على الأقل، عنصراً من الاستقرار الديمقراطي في المنطقة. إن هناك في العموم، نوعان مختلفان تماماً من التحالفات. الأول، استراتيجي وقد يكون تكيفاً مؤقتاً وفقاً للتهديدات التي يرى الطرفان وجودها. إن تكيفاً كهذا يمكن أن يتوصل أي حاكم إلى القيام به، وكذلك فإن نوعية الحكومة التي يديرها، ونوعية المجتمع الذي يحكمه ليس لهما تأثير على ذلك. الطرف الآخر لتحالف كهذا، قد يغير رأيه في أي وقت، أو قد يغيره آخرون عنه إذا ما تمت الإطاحة به أو استبداله. قد ينتهي التحالف بالتالي بتغير النظام، أو الزعيم، أو حتى في التوجه العام. ما يمكن حدوثه توضحه جيداً أحداث في ليبيا، والعراق، وإيران، والسودان حيث أدت التغييرات السياسية إلى انعكاس كلي في السياسة، أو بمعنى آخر، توضحه الأحداث في مصر، والتي كان بإمكانها، دون تغير الحكام حتى، أن تغير موقفها بين الغرب والسوفييت ثم العودة مرة أخرى إلى الصف الغربي. إن المرونة نفسها موجودة كذلك على الجانب الأمريكي. فمثلما أن الحلفاء بإمكانهم في أي لحظة أن يتخلوا عن الولايات المتحدة، فإن الولايات المتحدة تشعر كذلك بوضوح أنها حرة في التخلي عن حلفاء مشابهين، فيما إذا أصبح التحالف مثيراً للقلاقل أو أنه أصبح تحالفاً مكلفاً، كما حصل على سبيل المثال، في جنوب فيتنام، وكردستان، ولبنان. ولدى التخلي عن حليف لم يكن التحالف يعني عن أكثر من تكيف استراتيجي يستطيع المرء أن يتابعه دون شعور بالذنب ودون المخاطرة بالتعرض لانتقادات كبيرة في الوطن.

النوع الآخر من التحالفات، هو تحالف مرتكز على تشابه حقيقي في المؤسسات، والطموحات وظروف الحياة، وهو أقل عرضة للتغيير. لقد كان السوفييت وهم في أوج ازدهارهم مدركين تماماً لهذا الأمر، وحاولوا إنشاء ديكتاتوريات شيوعية حيثما ذهبوا. ولكن إنشاء الديمقراطيات أمر أكثر صعوبة، إلا أن تدميرها أكثر صعوبة كذلك.


[1] ـ هذه المقالات وغيرها يمكن العثور عليها في: (الإسلام والثورة: كتابات وتصريحات الإمام الخميني، ترجمها وعلق عليها حامد الغار (بيركلي،1981). وقد كان كتابه (الحكومة الإسلامية) مجموعة من المحاضرات تم إلقاؤها في المركز الشيعي في النجف، في العراق، والذي كان منفى الخميني، ونشر سريعاً بكل من اللغة العربية والفارسية. بالنسبة لأولئك الذين قرأوه فلم تكن الأمور التي حدثت بعد ذلك من مجريات الثورة لتدهشه. المؤلف

[2] ـ ينسى المؤلف أن كلاً من تركيا وإيران أقرب جغرافياً إلى الاتحاد السوفييتي وهذا سجعلهما أكثر تخوفاً وحذراً بينما كل من مصر وسورية لا تشعران بنفس التخوف من جار قريب. (المراجع)

[3] ـ حول هذه المعاهدة انظر: برنارد لويس، (ملاحظات مستشرق على المعاهدة بين السوفييت وبين الجمهورية العربية المتحدة في 27 أيار 1971، أبحاث برنستون في دراسات الشرق رقم 20 (1993)، ص 57ـ65. (المؤلف)

[4] ـ وهذا يؤكد ما كررناه مراراً على أن كراهية الولايات المتحدة أو حكوماتها على الأقل إنما ترتبط أساساً بسياسات هذه الحكومات أكثر من ارتباطها بموقف ديني مسبق.  (المراجع)

[5] ـ لا ينبغي للمؤلف أن ينسى في رؤيته هذه أن الدول اتي امتنعت عن إدانة الاحتلال السوفييتي لأفغانستان كانت مرتبطة (ايديولوجياً) أو (سياسياً) أو (عسكرية) بالاتحاد السوفييتي عبر معاهدات واتفاقات. المراجع

[6] ـ هذه دعوى عريضة تصادر الفعل الشعبي الأفغاني والشعبي الإسلامي في مقاومة الاحتلال الروسي وتسند الفضل إلى الأمريكان، والذين يظن أنهم لم يقوموا بأكثر من إعطاء الضوء الأخضر للأنظمة العربية الحاكمة لإطلاق طاقات أبناء الأمة.   المراجع

[7] ـ بل هو الصراع العربي الإسرائيلي.  المراجع

[8] ـ مرة أخرى تبدو الروح العلمية المنهجية متحكمة في المؤلف!! فالعداء لإسرائيل ناتج أصلاً عن سبب كونها دولة ديموقراطية!! لا عن طبيعة الظلم الصارخ الذي قامت عليه هذه الدولة حيث تم طرد الشعب الفلسطيني من أرضه ليقيم عليها غرباء مستجلبون من دول مختلفة من العالم!! كل هذا لا يرى فيه المؤلف المنهجي أي سبب لتكون قضية فلسطين موضع إجماع رسمي وشعبي. (المراجع)

[9] ـ ما يزال المؤلف يدور حول محاولة التقليل من دور دعم  إسرائيل كعامل أساسي من عوامل الكراهية للغرب في المنطقة. (المراجع)

[10] ـ هذا اعتراف صريح من المؤلف بأن تنسيقاً ما كان يدور بين قادة المؤتمر الصهيوني وقادة النازيين للقيام بأعمال تدفع ألوف اليهود إلى الهجرة خوفاً من المجزرة أو المحرقة النازية كما يسمونها. (المراجع)

[11] -هذا خلط وخبط سياسي لا يتصور ان يصدر عن مثل برنالد لويس !! (المراجع)

[12] يجاهد المؤلف لكي يبعد شبح دور الدعم الامريكي لاسرائيل في إثارة كراهية الشعوب العربية للإدارة الامريكية وهو كما نرى يخبط ويلبط ويتجاوز الحقائق في غير ما طائل . (المراجع )

[13] ـ يتجاوز المؤلف في تحليل تطور العلاقة بين الدول العربية (الثورية) والسوفييت أموراً عامة لا ينبغي أن تغيب عن مثل هذا السياق وأهمها الموجة الاشتراكية التي اجتاحت العالم في تلك الفترة بحيث هددت الأحزاب الاشتراكية والشيوعية البرلمانات في أكثر من دولة في أوروبا الغربية. كما يتناقض المؤلف عندما يصور الموقف العربي من الاتحاد السوفييتي لا مبالياً من المواقف الأولية من دولة إسرائيل فالموقف العربي تطور تدريجياً من الموقف الروسي على ضوء تطور هذا الموقف نفسه. صحيح في البداية كان الروس السباقين لمحاولة احتواء وتبني دولة إسرائيل ولكنهم عندما خسروا السباق عادوا لبناء علاقات إيجابية مع العالم العربي وعلى ضوء هذه العلاقات طور العرب مواقفهم دون أن يعني ذلك اعتناقاً للايديولوجية الشيوعية بشكل مطلق.  المراجع

[14] ـ محاول جديدة لتخدير الأمريكيين بأن سياساتهم في العالم العربي ناجحة ومزدهرة!!      المراجع

 

السابقأعلى الصفحة

 

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ