ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الخميس 03/02/2005


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

كتب

 

إصدارات

 

 

    ـ أبحاث

 

 

    ـ كتب

 

 

    ـ رجال الشرق

 

 

المستشرقون الجدد

 

 

جســور

 

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


اعترافات سفاح اقتصادي

نصطاد  الدول الفقيرة بالديون فتقع تحت أنياب الولايات المتحدة

السفاح الاقتصادي التائب: تأليف جون بركنز، صادر عن دار بيريت كوهلر 2004

ترجمة وعرض: عمر عدس

في هذا الكتاب المكتوب بأسلوب روائي شائق، يحكي جون بيركنز قصة مسيرته من خادم متحمس للامبراطورية، الى نصير مخلص لحقوق المقهورين والمقموعين. كانت قد جندته سراً وكالة الأمن القومي الامريكية، وعمل معها تحت غطاء عمله في شركة استشارية دولية، وأتاح له عمله في هذه الشركة ان يجوب العالم، فزار اندونيسيا وبنما والاكوادور وكولومبيا والعربية السعودية وايران وغيرها من الدول المهمة على الصعيد الاستراتيجي.وكانت مهمته تطبيق السياسات التي تخدم مصالح تحالف امريكي يضم الحكومة والمصارف والشركات الكبرى، وفي الوقت ذاته تعمل على تسكين الفقر باجراءات ظاهرية، اي السياسات التي اثارت عداء العديد من الأمم وادت في نهاية المطاف الى أحداث 11 سبتمبر/ايلول وتنامي الكراهية للولايات المتحدة.

وكتاب بيركنز يلقي الضوء على المدى الذي كان هو وزملاؤه - ممن يسمون انفسهم السفاحين الاقتصاديين - مستعدين لبلوغه. وهو يشرح على سبيل المثال، كيف ساعد في تطبيق خطة سرية تجعل مليارات الدولارات التي تجنيها بعض الدول النفطية، تعود لتصب في الخزينة الامريكية.

ويكشف بيركنز الآلية الخفية للسيطرة الامبريالية، التي تقوم وراء بعض أشد الاحداث مأساوية في التاريخ الحديث، مثل سقوط شاه ايران، وموت الرئيس البنمي (عمر توريجوس)، وغزو بنما والعراق.

ان كتاب “اعترافات سفاح اقتصادي” الصادر عن دار بيريت - كوهلر للنشر، يكشف آلية العمل الداخلية لنظام يدعم العولمة ويؤدي الى افقار ملايين الناس في كوكبنا.

 

المخابرات الأمريكية اغتالت عمر توريجوس في بنما ونظمت انقلاباً ضد اربينز في جواتيمالا

كان جون بيركنز، مؤلف الكتاب، قد عمل من سنة 1971 الى 1981 لدى شركة استشارات دولية هي شركة “تشارلس. تي. مين”، حيث احتل منصب كبير الاقتصاديين ومدير الاقتصاد والتخطيط الاقليمي، ولكنه كان في الواقع سفاحاً اقتصاديا. وقد استمر في مهمته السرية تلك تحت غطاء عمله في الشركة المذكورة، حتى وقوع أحداث 11 سبتمبر/أيلول ،2001 حيث أقنعته هذه الأحداث بضرورة الكشف عن هذا الجانب الخفي من حياته.

وهو يكتب الآن ويدرّس عن كيفية تحقيق السلام والازدهار، عن طريق إغناء المعرفة الشخصية واجراء تحوّل في دور المؤسسات. وقد أنشأ شركة للطاقة البديلة تركت أثراً واضحاً في هذه الصناعة في الولايات المتحدة.

في مستهل تقديمه لكتابه، يعرّف جون بيركنز السفاحين الاقتصاديين، بأنهم “خبراء محترفون يتقاضون رواتب عالية جداً، ويمارسون خديعة الدول في أنحاء العالم وابتزاز تريليونات الدولارات منها. وهم يغدقون الاموال من البنك الدولي ووكالة التنمية الدولية الامريكية وغيرهما من منظمات “العون” الخارجي، على خزائن الشركات الضخمة، وجيوب حفنة من العائلات الثرية التي تسيطر على الموارد الطبيعية في كوكب الارض. وتشتمل ادواتهم على التقارير المالية المضللة، والانتخابات المزورة، وتقديم الاموال، والابتزاز، والجنس، والقتل. وهم يمارسون لعبة قديمة قدم الامبراطورية، ولكنها اكتسبت أبعاداً جديدة مخيفة خلال هذه الفترة من العولمة”.

وعن آلية اختبار هؤلاء السفاحين الاقتصاديين وعملية تجنيدهم، وتأهيلهم للمهمات التي سيقومون بها في العالم، يقول بيركنز في سرده لتجربته الشخصية: كان ذلك في أواخر ستينات القرن الماضي، وفي سنة 1968 بالتحديد. كنت طالباً في كلية الاعمال، وقد تم تجنيدي من قبل وكالة الامن القومي. وقد أدخلوني سلسلة من الاختبارات، اختبارات للشخصية واختبارات لكشف الكذب، ووابل غزير من الاختبارات الحساسة الاخرى. وخلال تلك العملية اكتشفوا انني مرشح ممتاز لأن أكون سفاحاً اقتصادياً لامعاً. كما اكتشفوا عدداً من نقاط الضعف في شخصيتي. واعتقد ان لدي بعض نقاط الضعف النمطية في ثقافتنا الامريكية العامة، فالأوبئة الثلاثة الكبرى في ثقافتنا هي: المال، والسلطة، والجنس. وقد اكتشفوا ان نقاط الضعف هذه متوفرة لدي.. ثم شجعوني على الانضمام لفيلق السلام. وعشت في الاكوادور ثلاث سنوات بصفة متطوّع لفيلق السلام، مع المواطنين المحليين هناك، الذين يخوضون الآن حرباً مع شركات النفط. كنا يومئذ في بداية تلك العملية ولذلك نلت قسطاً جيداً من التدريب اثناء العمل.

وبينما كنت ما أزال في الاكوادور في فيلق السلام، جاء نائب رئيس شركة الاستشارات الخاصة هذه في بوسطن، التي كانت تعمل بتنسيق وثيق مع وكالة الأمن القومي وغيرها من اجهزة الاستخبارات، جاء الى الاكوادور وواصل عملية تجنيدي. وعندما خرجت من فيلق السلام جندني. ذهبت للعمل لدى شركته “تشارلس تي. مين” في بوسطن، ودخلت برنامج تدريب مكثفاً مع امرأة بارزة، كان اسمها كلودين. وكانت في غاية الذكاء والدقة، والقدرة على الإغواء. وقد أوقعتني في حبائلها. وكانت تعرف تماماً كيف توقعني. وقد أفادت من جميع الاختبارات التي أجريت علي، وعرفت نقاط ضعفي. نجحت في مهمتها، واجتذبتني قبل كل شيء لأن اصبح سفاحاً اقتصادياً، وفي الوقت ذاته نبهتني الى ان هذا العمل قذر جداً، وانه يجب عليّ ان التزم به تماماً، والا فلن أحظى بأول تعيين لي في اندونيسيا.

عبء الديون

ويشرح جون بيركنز طبيعة المهمة المخيفة التي ينفذها هؤلاء السفاحون الاقتصاديون في العالم، فيقول: لقد أنشأنا نحن السفاحين الاقتصاديين، على مدى 30-40 سنة مضت اضخم امبراطورية كونية في تاريخ العالم. وهنالك عدة طرق لفعل ذلك. ولكن الطريقة المثلى تتلخص في اننا نحدد احدى دول العالم الثالث، التي تتمتع بامتلاك مصادر طبيعية نشتهيها. وفي هذا الايام غالباً ما تكون هذه المصادر هي النفط، أو ربما تكون القناة في حالة بنما. على كل حال، نذهب الى تلك الدولة من دول العالم الثالث، ونرتب لها قرضاً ضخماً من اوساط الإقراض الدولي، وفي العادة يتولى البنك الدولي قيادة هذه العملية. وهكذا، دعنا نقلْ اننا نمنح هذه الدولة قرضاً بقيمة مليار دولار. وأحد شروط اعطاء ذلك القرض، ان غالبيته، اي ما يقارب 90% منه يعود إلى الولايات المتحدة، إلى إحدى شركاتنا الكبرى، التي سمعنا بها جميعاً مؤخراً، مثل بكتل وهاليبرتون. وتبني تلك الشركات في تلك الدولة من دول العالم الثالث محطات طاقة ضخمة، وطرقاً عريضة سريعة، وموانيء، ومجمعات صناعية - ومشروعات بنية تحتية ضخمة تخدم في الاساس الأثرياء جداً في تلك الدول. ويعاني الفقراء ولا يستفيدون من تلك القروض، ولا يستفيدون من تلك المشاريع. وفي حقيقة الامر، غالباً ما يجري تقليص الخدمات الاجتماعية بشدة في عملية تسديد القرض، وما يحدث كذلك ان هذه الدولة من دول العالم الثالث تصبح رازحة تحت عبء  دين ضخم لا يُحتمل ان تقدر على تسديده. ومن الامثلة على ذلك، الاكوادور في الوقت الحاضر، فالدين الخارجي في الاكوادور، نتيجة لممارسة السفاحين الاقتصاديين، يعادل نحو 50% من دخلها القومي. ولا يُتوقع ان تقدر على تسديد ذلك الدين، شأنها شأن العديد من دول العالم الثالث. ولذلك نعود الى تلك الدول عندئذ ونقول للمسؤولين فيها: انظروا، لقد اقترضتم كل هذه الاموال منا، وانتم مدينون لنا بها، ولا تستطيعون تسديد ديونكم، ولذلك أعطوا نفطكم لشركات نفطنا بسعر رخيص جداً. وفي حالة العديد من هذه الدول، والاكوادور خير مثال على ذلك، يعني ذلك تدمير غابات المطر هناك، وتدمير ثقافاتهم المحلية. هذا ما نفعله الآن في أنحاء العالم، وهذا ما ظللنا نفعله طوال الوقت. وقد بدأ بعد نهاية الحرب العالمية الثانية بقليل. وظل يتراكم مع الزمن حتى اليوم حيث بلغ أبعاداً خيالية في ضخامتها، وحيث نسيطر على معظم الموارد الطبيعية في العالم.

تجربة بنما

ويتحدث المؤلف بشيء من التفصيل عن تجربته في بنما. يذكّر القارىء بأن  بنما كانت جزءاً من كولومبيا، عندما قرر المهندس الفرنسي فرديناند دي لاسيبس الذي وضع خطة حفر قناة السويس، حفر قناة عبر برزخ امريكا الوسطى لوصل المحيط الاطلسي والمحيط الهادئ، معاً. بدأ الفرنسيون هذا المشروع سنة 1881 ولكنه ظل يواجه الكارثة تلو الاخرى الى ان انتهى بكارثة مالية، ولكنه اثار احلام تيودور روزفيلت. وفي السنوات الاولى من القرن العشرين طالبت الولايات المتحدة كولومبيا بتوقيع معاهدة يجري بموجبها تسليم البرزخ الى اتحاد مالي امريكي شمالي. ولكن كولومبيا رفضت ذلك.

وفي سنة ،1903 أرسل الرئيس الامريكي روزفيلت السفينة الحربية الامريكية “ناشفيل”، التي أنزلت الجنود، فقبضوا على قائد المليشيا المحلية الذي كان يحظى بشعبية كبيرة، وقتلوه، وأعلنوا بنما دولة مستقلة، وتم تنصيب حكومة خانعة، وقعت معاهدة القناة الاولى، التي أنشئ بموجبها منطقة امريكية على جانبي ما سيصبح ممراً مائياً في المستقبل، وأضفت الشرعية على التدخل العسكري الامريكي، ومنحت واشنطن سيطرة فعلية على هذه الدولة “المستقلة” حديثاً.

ومن الطريف ان المعاهدة وقعها وزير الخارجية الامريكي هاي، ومهندس فرنسي هو فيليب بوناو فاريلا الذي كان جزءا من الفريق الاصلي، ولم يوقع على المعاهدة اي بنمي. وفي اثر ذلك أجبرت بنما على الانفصال عن كولومبيا لكي تخدم المصالح الامريكية.

وعلى مدى نصف قرن ونيف، ظلت بنما تخضع لحكم أقلية من العائلات الثرية، التي تربطها بواشنطن علاقات وثيقة. وكانت دكتاتوريات يمينية تتخذ اي اجراء تعتبره ضرورياً لضمان مساندة بلادها للمصالح الامريكية. وعلى طريقة معظم الحكام الطغاة في امريكا اللاتينية المتحالفين مع واشنطن، كان حكام بنما يفسرون المصالح الامريكية بأنها تحطيم اي حركة شعبية يُشْتمّ منها رائحة الاشتراكية. كما كانوا يساندون وكالة الاستخبارات المركزية الامريكية، ووكالة الامن القومي في نشاطاتهما ضد الشيوعية في نصف الكرة الارضية ذاك، ويساعدون الشركات الامريكية الكبرى مثل “شركة روكفلر ستاندارد أويْل”، و”شركة الفواكه المتحدة” (التي كان قد اشتراها جورج. ه .و. بوش). ولم تكن هذه الحكومات في ما يبدو، تشعر بأن المصالح الامريكية تتعزز بتحسين حياة الناس الذين كانوا يعيشون في فقر مدقع، أو يعملون عبيداً في واقع الامر في المزارع والمؤسسات الكبرى.

وكانت العائلات الحاكمة في بنما تكافأ بالدعم الامريكي لها، اذ تدخلت القوات العسكرية الامريكية اثنتي عشرة مرة لمساندتها، بين اعلان استقلال بنما وبين سنة 1968.

عمر توريجوس

يقول المؤلف: انه بينما كان ما يزال يخدم في فيلق السلام في الاكوادور سنة ،1968 تغيّر مجرى تاريخ بنما على حين غرّة، حيث أطاح انقلاب عسكري بالرئيس ارنولفو أرياس آخر دكتاتور في تلك السلسلة، وحل محله الرئيس عمر توريجوس رغم انه لم يشارك في الانقلاب بفاعلية.

ويتحدث المؤلف عن الرئيس عمر توريجوس، فيقول انه كان يحظى بالاحترام والشعبية في اوساط الطبقات الوسطى والدنيا. وكان هو نفسه قد نشأ في ريف مدينة سانتياجو حيث كان والداه يدرّسان فيها.

وارتقى بسرعة اثناء خدمته في الحرس الوطني وهو وحدة الجيش الأولية في بنما، والمؤسسة التي كانت تحظى بتأييد الفقراء. وكان مشهوراً عن توريجوس انه يستمع لمطالب المعدمين، وكان يتجول في شوارع مدن الصفيح التي تؤويهم، ويعقد اجتماعاته في أحياء الفقراء التي لم يكن الساسة يجرؤون على دخولها، ويساعد العاطلين في الحصول على عمل، وكثيراً ما كان يجود بموارده المالية المحدودة للعائلات التي اصابها المرض أو حلت بها مآسٍ.

ويتابع المؤلف حديثه عن تجربته في بنما، قائلاً ان رئيسها عمر توريجوس جاء بعد سلسلة من الحكام الطغاة الذين كانوا دُمى تحركها الحكومة الامريكية، التي عينتهم قبل خمسين سنة حين استولت على البلاد. وكان عمر توريجوس اول من يشذ عن القاعدة، فقد كان رئيساً يتمتع بشعبية فائقة. وكان محبوباً جداً في معظم انحاء العالم. وكان كثير من الناس يعتقدون انه كان ينبغي ان يفوز بجائزة نوبل للسلام، وكان لا بد ان يحدث ذلك لولا انه مات أو قُتل. فقد كان يحمي المستضعفين في كل مكان، وكانت الولايات المتحدة في ذلك الوقت، بزعامة الرئيس جيمي كارتر تفاوض توريجوس على معاهدة جديدة للقناة. وقد أنجرت معاهدة القناة في آخر المطاف، ولكنها أثارت قدراً هائلاً من الاضطراب في بلادنا. فقد أجازها الكونجرس بأغلبية صوت واحد فقط فاز بالتصديق على معاهدة القناة. وهكذا كنا نحن السفاحين الاقتصاديين نتطلع الى ما وراء تلك العملية، أو كيف نستطيع ان نفوز ببنما بصرف النظر عما حدث

لاتفاقية القناة.

لقد كنت هناك قبل توقيع المعاهدة سنة ،1972 وكنت أحاول تطويع توريجوس. كنت احاول اصطياده. كنت أحاول الإيقاع به مثلما فعلنا مع غيره في كل مكان. وقد رتّب لقائي به في منزل خاص مكون من طابق واحد، ودار بيننا حديث مطوّل. ولكن أهم ما قاله لي هو: انظر، إنني اعرف اللعبة التي تلعبونها.. واعرف ماذا تحاولون ان تفعلوا هنا. انكم تحاولون تحميلنا ديونا باهظة.. انكم تحاولون جعلنا معتمدين عليكم تماما، وانتم تحاولون افسادي. اني اعرف هذه اللعبة ولن العبها. لست بحاجة الى المال، ولا اتطلع الى تكوين ثروة شخصية من ذلك. اني أريد مساعدة شعبي الفقير. وأريد منكم ان تبنوا المشاريع التي يفترض ان تقيموها، والتي تقيمونها في الدول الاخرى، ولكني اريدكم ان تقيموها من أجل الفقراء من شعبنا، لا من أجل الاثرياء منه. وقال: اذا فعلتم ذلك فسأنظر في منحكم ومنح شركتكم المزيد من العمل في هذه البلاد، العمل الذي يخدم شعبنا.

كنت في موقف متناقض ازاء ما قاله. فقد كان يفترض بي كسفاح اقتصادي ان اوقعه تحت سيطرتنا. كان يفترض بي ان اوقعه في الشرك. ولكني كشريك في هذه الشركة وكرئيس اقتصادي لها، كنت أريد ايضا العمل للشركة، وفي هذه الحالة، كان واضحا ان السفاحين الاقتصاديين لن ينالوا توريجوس، ولذلك جاريته وسرت معه. ولكني في ذلك الوقت كنت اشعر بقلق عميق، لأني كنت اعلم ان هذا النظام قائم على افتراض ان الزعماء مثل توريجوس قابلون للافساد وانهم كذلك في معظمهم في كل مكان في العالم. وعندما يصمد احدهم في وجه النظام ويتحداه كما كان يفعل توريجوس، لم يكن ذلك يعني تهديدا لنا في بلاده بنما فقط، بأننا لن نشق طريقنا هناك، بل قد ينظر الى الأمر كمثال سيىء تحتذيه بقية دول العالم، ولم يكن هو الوحيد الذي يتحدى في ذلك الوقت، بل كان هنالك زعيم آخر، هو رئيس الاكوادور جيمي رولدوس. كانا كلاهما يقفان في وجه الحكومة الامريكية. وكانا يقفان في وجه شركاء النفط والسفاحين الاقتصاديين، وكان ذلك يثير بالغ القلق لدي. كنت اعلم في اعماق قلبي انه اذا استمر ذلك، فسوف يحدث شيء ما. وقد حدث بالطبع. فقد تم اغتيال هذين الرجلين على ايدي من نسميهم “ابناء آوى”، وهم السفاحون المرخصون من قبل وكالة الاستخبارات المركزية الامريكية.

الى جواتيمالا

ويتحدث المؤلف عما فعلته الولايات المتحدة في جواتيمالا، في سياق حديثه عما حدث في بنما. يقول: ان شركة الفواكه المتحدة في جواتيمالا هي المعادل السياسي للقناة في بنما. وقد تأسست في أواخر العقد الأول من القرن التاسع عشر. وسرعان ما أصبحت احدى اكبر القوى المؤثرة في امريكا الوسطى. وفي أوائل خمسينات القرن الماضي، انتخب مرشح الاصلاح جاكوب اربينز رئيساً لجواتيمالا ضمن انتخابات لقيت ترحيبا حارا في نصف الكرة الارضية ذاك، باعتبارها نموذجا للعملية الديمقراطية وفي ذلك الوقت كان اقل من 3% من سكان جواتيمالا يملكون 70% من الارض. وقد وعد اربينز الفقراء باخراجهم من حالة الفقر والجوع، وبعد فوزه في الانتخابات طبق برنامجا شاملا لاصلاح الاراضي.

وينقل المؤلف عن عمر توريجوس قوله في الحديث عن  اربينز: “كان الفقراء وافراد الطبقات الوسطى في جميع انحاء امريكا اللاتينية يثنون على اربينز. وأنا شخصيا كنت اعتبره احد الابطال الذين اقتدي بهم.. ولكننا في الوقت ذاته كنا نحبس انفاسنا توجسا. فقد كنا نعرف ان شركة الفواكه المتحدة تعارض هذه الاجراءات، لأنها كانت احدى اكبر الجهات المالكة للأرض في جواتيمالا واشدها قمعا واستبدادا. كما كانت تملك مزارع شاسعة في كولومبيا، وكوستاريكا وكوبا، وجامايكا، ونيكاراجوا، وسانتو دومينغو، وهنا في بنما. ولم تكن تطيق ترك أربينز ينشر مثله وقيمه في بقية دول المنطقة”.

ويتابع المؤلف بنفسه رواية ما حدث بعد ذلك. يقول ان شركة الفواكه المتحدة شنت حملة علاقات عامة في الولايات المتحدة، بهدف اقناع الجمهور الامريكي والكونجرس بأن اربينز كان جزءا من مؤامرة روسية، وان جواتيمالا كانت دولة تابعة تدور في الفلك السوفييتي. وفي سنة ،1954 قادت وكالة الاستخبارات المركزية الامريكية انقلابا عسكريا هناك. وقصف الطيارون الامريكيون مدينة جواتيمالا بالقنابل، وأطيح بالرئيس اربينز المنتخب ديمقراطيا، واستبدل بالكولونيل كارلوس كاستيلو أرماس، وهو دكتاتور يميني لا يعرف الرحمة.

وكانت الحكومة الجديدة تدين بكل شيء لشركة الفواكه المتحدة. ومن أجل رد الجميل لها، الغت عملية اصلاح الاراضي، والغت الضرائب على الفوائد والحصص التي تدفع للمستثمرين الاجانب، وانهت الاقتراع السري، وزجت منتقديها في السجون. وكان الاعدام مصير كل من يجرؤ على فتح فمه بكلمة ضد كاستيلو. ويرجع المؤرخون العنف والارهاب اللذين عصفا بجواتيمالا على مدى الفترة التالية من القرن الى التحالف الذي لم يكن سرا، بين شركة الفواكه المتحدة ووكالة الاستخبارات المركزية من جهة، وبين الجيش الجواتيمالي بقيادة الكولونيل الدكتاتور، من جهة اخرى.

ويواصل المؤلف سرد بعض ما دار بينه وبين عمر توريجوس في ذلك اللقاء، فيقول ان توريجوس سأله: “هل تعرف من يملك شركة الفواكه المتحدة؟”. رد المؤلف: “زاباتا أويل، شركة جورج بوش، سفيرنا لدى الأمم المتحدة”.

قال توريجوس: “رجل طموح..”. وتابع قائلا: “والآن، ها أنا اقف في وجه اصدقائه الحميمين في شركة بيكتل”.

يقول المؤلف: جعلني كلامه اجفل، فقد كانت شركة بيكتل اقوى شركات الهندسة في العالم، وكثيرا ما كانت تتعاون في مشاريعها مع شركة (مين). وفي حالة خطة بنما الرئيسية، كنت قد افترضت انها احد منافسينا الرئيسيين.

ويوضح توريجوس قوله، ويضيف: “اننا ندرس إنشاء قناة جديدة، بمستوى سطح البحر، دون عوائق لحركة الملاحة. وتستطيع تمرير سفن اضخم. وقد يكون اليابانيون مهتمين بتمويل انشائها”.

 “انهم اكبر الجهات استخداما للقناة”.

 “تماما. وبطبيعة الحال، اذا وفروا لنا المال، فسوف يتولون انشاءها”.

يقول المؤلف: صعقني ما قاله توريجوس، وعلقت قائلا: “وستخرج شركة بيكتل خالية الوفاض”.

قال توريجوس: “انه اضخم عمل انشاءات في التاريخ الحديث”. واستطرد قائلا: “ان رئيس شركة بيكتل هو جورج شولتز، وزير الخزانة في حكومة نيكسون. وتستطيع ان تتخيل حجم النفوذ الذي يملكه، ومزاجه الشهير، ان بيكتل غاصة بالاصدقاء الحميمين لكل من نيكسون، وفورد، وبوش. وقد قيل لي ان شركة بيكتل تحرك خيوط الحزب الجمهوري”.

يقول المؤلف معقبا على ذلك: اشعرتني هذه المحادثة بعدم ارتياح شديد. فقد كنت احد الاشخاص الذين يدعمون النظام الذي يكن له الاحتقار الشديد، وكنت على ثقة من انه يعرف ذلك. ويبدو ان مهمتي في اقناعه بقبول القروض الدولية مقابل استئجار شركات هندسة وانشاءات امريكية قد اصطدمت بجدار صلب.

بعد ذلك، يقول المؤلف، عندئذ سألت الجنرال عن سبب دعوتي لمقابلته. فقال: “ان بنما تريد مساعدة منكم. أنا بحاجة الى مساعدتك”.

شعرت بالذهول، وسألت “مساعدتي؟ ماذا استطيع ان افعل لكم؟”.

قال الجنرال: “سوف نستعيد القناة. ولكن ذلك ليس كافيا، ويجب ان نبين أننا نعتني بفقرائنا. ويجب ان نبرهن بما لا يدع مجالا للشك على ان تصميمنا على احراز استقلالنا ليس مفروضا علينا من قبل روسيا أو الصين أو كوبا. يجب ان نبرهن للعالم ان بنما بلد منطقي، واننا لا نقف ضد الولايات المتحدة بل مع حقوق الفقراء”. واستطرد قائلا: “ولكي نفعل ذلك يجب ان نبني قاعدة اقتصادية لا تشبه أي قاعدة في هذا النصف من الكرة الارضية. نريد كهرباء، نعم، ولكن الكهرباء تصل الى افقر فقرائنا وبسعر مدعوم. ونريد الشيء ذاته بالنسبة الى النقل والاتصالات، والى الزراعة بوجه خاص. وفعل ذلك يكلف اموالا  اموالكم، البنك الدولي وبنك تنمية دول امريكا”. ثم تابع يقول: “اني ادرك ان شركتكم تريد مزيدا من العمل وهي تحصل عليه في العادة بتضخيم حجم المشاريع  طرق سريعة اعرض، محطات توليد طاقة اكبر، موانئ اعمق. ولكن، هذه المرة، الأمر مختلف اعطني ما هو افضل لشعبي، وسوف اعطيك كل العمل الذي تريدونه”.

يقول المؤلف تعقيبا على ذلك، كان ما اقترحه توريجوس غير متوقع بالمرة، وقد اذهلني وأثارني في الوقت ذاته. وهو بكل تأكيد يتحدى كل ما تعلمته في شركة “مين”. لقد كان يعرف بالتأكيد ان لعبة المساعدات الاجنبية خدعة  كان لا بد له ان يعرف ذلك. وقد وجدت لكي تجعله ثريا وتكبل بلاده بالديون. وكانت موجودة لكي تظل بنما مطوقة الى الابد بالتبعية للولايات المتحدة ولحكم الشركات. كانت هنالك لكي تُبقي امريكا اللاتينية على درب (المصير البديهي) (المبدأ الذي يعتقد الامريكيون بموجبه ان الله قد وهبهم حق السيطرة على كل امريكا الشمالية - م)، وتكون خاضعة لواشنطن ووول ستريت. كنت على ثقة انه كان يعلم ان النظام قائم على افتراض ان جميع الرجال في السلطة قابلون للإفساد، وان قراره بعدم استغلال الامر من اجل منفعته الشخصية سوف يُعتبر خطراً وتهديداً، وصيغة من لعبة الدومينو التي ستتوالى بموجبها ردود الفعل، وتقلب ذلك النظام برمته في نهاية المطاف.

وهكذا، كما يبين المؤلف، حين لم يذعن عمر توريجوس للمطالب الامريكية، وحين استعصى على إفساد وكالة الاستخبارات المركزية، ورفض رهن بلاده لامريكا وشركاتها مقابل حفنة دولارات، قرروا قتلة، ودبروا له “حادث تحطم طائرة” سنة 1981. ولكن قصة بنما لم تنته عند هذا الحد.

مكنمارا وشولتز كانا يمثلان تحالف  الشركات والمصارف والحكومة.. والآن تشيني ورايس

 

حكم بنما بعد عمر توريجوس، الرئيس مانويل نورييجا، الذي حاول في اول حكمه السير على خطى معلمه توريجوس، ولكنه حاد عنها في ما بعد.

ينقل المؤلف عن مذكرات نورييجا قوله:

كان وزير الخارجية الامريكية جورج شولتز مديراً سابقاً لشركة الانشاءات المتعددة الجنسيات بيكتل، وكان وزير الدفاع الامريكي كاسبر واينبرجر نائباً لرئيس بيكتل، ولم يكن شيء أحبّ على بيكتل من كسب مليارات الدولارات التي سيدرّها انشاء القناة.. وقد خشي ريجان وبوش احتمال هيمنة اليابان على تنفيذ مشروع انشاء القناة في النهاية، ولم يكن الامر يتعلق فقط بخوف ليس في محله على الأمن، بل كانت هنالك مسألة التنافس التجاري. فقد كانت شركات الانشاءات الامريكية ترفض خسارة مليارات الدولارات”.

رفض نورييجا التجديد لما يسمى “مدرسة الامريكيتين” لمدة خمس عشرة سنة اخرى، وكانت هذه المدرسة الامريكية، كما وصفها نورييجا، مركزاً لتدريب فرق الموت والميليشيات اليمينية القمعية. وعلى أثر ذلك، وفي 20 ديسمبر/كانون الاول ،1989 هاجمت الولايات المتحدة بنما ضمن أضخم وأعنف هجوم محمول جواً على مدينة من المدن منذ الحرب العالمية الثانية. وكان هجوماً ليس له ما يبرره على السكان المدنيين. ولم تكن بنما، كما يقول المؤلف، ولا شعبها، يشكلان اي خطر أو تهديد للولايات المتحدة أو غيرها من الدول. وقد ادان الساسة والحكومات ووسائل الاعلام في العالم كله العمل الامريكي المنفرد، واعتبروه انتهاكاً للقانون الدولي.

كان ذنب بنما الوحيد انها تجرأت على تحدي رغبات نفر قليل من الساسة المقتدرين والمسؤولين في بعض الشركات الكبرى. وأصرت على ضرورة احترام معاهدة القناة، واجرت مناقشات مع المصلحين الاجتماعيين، ودرست امكانات بناء قناة جديدة بتمويل ياباني.

يقول نورييجا بهذا الخصوص:

اريد ان اوضح ان حملة زعزعة الاستقرار التي شنتها الولايات المتحدة سنة ،1986 وانتهت بغزو بنما سنة ،1989 كانت نتيجة لرفض الولايات المتحدة اي سيناريو قد يتضمن ان تكون السيطرة على قناة بنما في المستقبل في ايدي دولة بنمية مستقلة ذات سيادة، تساندها اليابان.

قتلوا رئيس الاكوادور

هذا ما حدث في بنما، كما رواه مؤلف الكتاب. والشيء ذاته تقريباً حدث في الاكوادور. يقول المؤلف: قبل شهرين فقط من مقتل توريجوس. فعلوا الشيء ذاته مع جيمي رولدوس اول رئيس منتخب ديمقراطياً في الاكوادور منذ عقود، لأنه وقف في وجه شركات النفط الامريكية. لم نستطع نحن السفاحين الاقتصاديين الإيقاع به، ولذلك كان لا بد ان يموت في حادث تحطم طائرة عمودية.

... لأنه خاض اول انتخابات ديمقراطية في الاكوادور على مدى عقود عديدة. وكان يعتزم تحقيق السيادة والاستقلال لبلاده. وكان يقول عندئذ انه لو وجد النفط في الاكوادور فإنه ينبغي ان يستفيد منه أهل البلاد. وعندما اصبح رئيساً راح يطبق شعاراته تلك، وسنّ قانون الهيدروكربونات، كما دعاه، الذي كان في اساسه قانوناً للنفط، يضمن في حال استخراج النفط في الاكوادور، ان تذهب غالبية عائداته لشعب هذا البلد. وكان بذلك يرسي سابقة لم تستطع شركات النفط تحمّلها، لانها في كل أنحاء العالم كانت تستغل كل هذه الدول كما تفعل اليوم. وقال رولدوس انه لن يدع ذلك يحدث لبلاده.

يقول المؤلف في تعقيب على كتابه المكون من ثلاثين فصلاً قصيراً، موزعة على مائتين وخمسين صفحة، ان ما لدينا هنا، هو  امبراطورية عالمية يسيطر عليها نفر قليل من الرجال الذين اطلق عليهم اسم “كوربوراتوكراسي”، وهؤلاء هم رؤساء الشركات الكبرى، والمصارف الكبرى، والحكومة، وكثيراً ما يجمع الواحد منهم بين الصفات الثلاث. وهم يقفزون من فئة الى اخرى من هذه الفئات، وروبرت مكنمارا خير مثال على ذلك. فقد كان رئيساً لشركة فورد، ثم اصبح وزير الدفاع في الولايات المتحدة في ظل حكم كنيدي وجونسون، ثم اصبح رئيساً للبنك الدولي. وفي كل هذه الادوار كانت مهمته تتمثل في تعزيز اوساط الاعمال الامريكية، ودعم حكم التحالف الثلاثي الذي ذكرته آنفاً، من اجل جلب الغنائم الى الولايات المتحدة واستغلال العالم. وقد عمل في ظل نظامين ديمقراطيين اثناء حكم كنيدي وجونسون. واليوم لدينا ديك تشيني الذي يحمل الصفات نفسها. وكان لدينا جورج شولتز اثناء حكم الرئيس جورج بوش الاب. وهكذا فالرئيسان بوش الاب وبوش الابن لديهما هذا الصنف من الموظفين. وكوندوليزا رايس من الأمثلة الاخرى على ذلك.

والحكومة مملوءة بأمثال هؤلاء الناس وليست القضية مقتصرة على الحزب الجمهوري بل تشمل الحزبين معاً. وهي تتجاوز كل الحدود، ومكنمارا مثال جيد على ذلك، فقد كان أحد أهم المنظرين في صياغة أطر الديمقراطيات الجديدة، وما كان يسميه الادارة العدوانية، وقد كانت عدوانية في خروجها الى الخارج وجلب العالم الى داخل الولايات المتحدة، بحيث ان لدينا اليوم من بين مائة من اكبر الديمقراطيات في العالم، هنالك 52 منها عبارة عن شركات، و47 منها شركات امريكية وليست دولاً. ونحن عبارة عن 5% من سكان العالم نمتد في العالم مثل أخطبوط هائل ونمتص الى داخل بلادنا 25% أو اكثر من موارد العالم. والنسبة الفعلية ليست 5% من سكان العالم، لأن 1% من سكان الولايات المتحدة يملكون من الثروة المادية اكثر مما يملكه 90% من السكان لدينا. وعلى ذلك فإن 1% من سكان الولايات المتحدة هم التحالف الثلاثي الحاكم (تحالف الشركات والمصارف والحكومة)، وهم الذين يمتصون كل ذلك، أما بقيتنا فتساند ذلك من خلال ضرائبنا، ومن خلال مشترياتنا، ومن خلال صمتنا، ومن خلال مجاراتنا لهذا النظام. مثلي أنا، باعتباري سفاحاً اقتصادياً، فأنا لم أساير النظام وحسب، بل كنت أدعمه وأرسّخ أسسه.

ولكني كنت أفعل ذلك بصورة قانونية في معظم الاحيان، وكنت أفعله وأنا ألاقي التشجيع من كل الذين جرى تدريبي للتطلع اليهم في الاعلى.

وتحدث المؤلف عن اساليب اقامة هذه الامبراطورية العالمية، ومن هذه الاساليب تدبير قروض ضخمة لبعض الدول الفقيرة، تكون اكبر من قدرتها على السداد، وحين تعجز عن سداد هذه القروض، يجري استعبادها والاستيلاء على ثرواتها ومواردها الى أجل غير مسمى، بحيث تظل تدور في فلك الامبراطورية الامريكية.

واذا تمردت هذه الدولة، ورفضت الانصياع للشروط الامريكية، يمكن قتل رئيسها المتمرد والإتيان بدكتاتور مكانه، يحكمها بالحديد والنار، ويسلم قيادها لتلك الامبراطورية، مقابل توفير الحماية له وضمان بقائه على سدة الحكم.

واذا لم ينفع كل ذلك، ولم تنجح خطة الاغتيال أو تعذّر افتعال حادث مدبّر، فيمكن اللجوء الى الغزو المباشر، بعد غسيل دماغ جماهيري سريع تجريه وسائل الاعلام المتنفذة التي تتغذى بأموال ثالوث الشركات والمصارف والحكومة، الذي يتحدث عنه المؤلف. والأمثلة على كل من هذه الحالات كثيرة، يأتي المؤلف على ذكر حشد كبير منها، وبخاصة مما كان له خبرة مباشرة في تخطيطه وتنفيذه، كما ان اي متصفح للتاريخ الحديث يجد العديد من الامثلة والتطبيقات على ذلك.

باتجاه الدول الغنية

ولكن هذه، ليست كل الوسائل والاساليب الموجودة في جعبة أرباب هذه الامبراطورية، بل هنالك اسلوب يستخدم بوجه خاص مع الفئة الغنية من دول العالم الثالث، ألا وهو اسلوب تطوير وتحديث البنى التحتية في هذه الدول، بحيث تدفع معظم أموالها ثمناً لمواد وادوات واجهزة تشتريها من هذه الامبراطورية بأسعار مفروضة، أو ثمنا لخبرات وخدمات تقدّمها شركات هذه الامبراطورية ومهندسوها.

يقول المؤلف، ان مهمته مع مثل تلك الدول، كانت تنحصر في ايجاد صيغة ترضي حكومات تلك الدول، وترضي وزارة المالية الامريكية، وترضي رؤساءه في شركة “مين”، وبموجب هذه الصيغة، سوف تستخدم الاموال في خلق قطاع صناعي  يتركز على تحويل النفط الخام الى منتجات جاهزة للتصدير. وبناء على ذلك سوف تقام مجمعات هائلة لصناعة البتروكيماويات، ومن حولها مجمعات صناعية هائلة اخرى. ومن الطبيعي ان تتطلب مثل هذه الخطة أيضاً إنشاء محطات توليد كهربائي ذات قدرة عظيمة، وخطوط نقل وتوزيع، وبناء طرق عريضة سريعة، وخطوط انابيب، وشبكات اتصال، وأنظمة نقل، بما فيها بناء المطارات الجديدة، وتحسين وتطوير الموانئ، واقامة سلسلة واسعة من الصناعات، والبنية التحتية اللازمة للحفاظ على حسن سير كل ذلك.

ويتابع المؤلف قائلاً: كانت لدينا توقعات عالية بأن تتطور هذه الخطة لتصبح نموذجاً يحتذى في بقية انحاء العالم. وسوف تتغنى الدولة التي تنفذ فيها هذه الخطة بمآثرنا، وتدعو الزعماء من دول كثيرة ليأتوا اليها ويشهدوا المعجزات التي حققناها، وعندئذ سوف يناشدنا هؤلاء الزعماء لمساعدتهم على وضع خطط مماثلة تنفذ في بلادهم. واذا لم تكن بلادهم من الدول الغنية، فسوف تجري الترتيبات للاقتراض من البنك الدولي أو غير ذلك من الاساليب التي تجعلها رازحة تحت عبء الديون لتمويل هذه المشاريع، وهذا هو ما تتمناه الامبراطورية الكونية.

وقد لاحظ المؤلف ان بعض الدول التي تم تنفيذ هذه الخطط فيها لا تملك النية في جعل أبنائها ينغمسون في المهن الدنيا، سواء كعمال في تلك المرافق أو في عملية الانشاء الفعلية في أي من تلك المشاريع. وفي بعض الحالات كان عدد ابنائها قليلاً أصلاً. كما ان مناهج التربية في بعض تلك البلدان لم تكن تؤهل ابناء البلد للعمل في تلك المهن اليدوية. وكان ابناء البلد يحبون ادارة اعمال الآخرين، ولكنهم لا يملكون الرغبة أو الدافع لكي يصبحوا عمالاً في المصانع أو في اعمال البناء. ومن هنا كان لا بد من استيراد قوة عمل من الدول الاخرى - التي تتميز برخص الأيدي العاملة، والتي يحتاج أبناؤها الى مزاولة العمل.

ويتابع المؤلف قائلاً ان ذلك خلق مزيداً من فرص التنمية. فسوف تكون هنالك حاجة الى بناء مجمعات سكنية ضخمة تؤوي هؤلاء العمال، وإقامة مجمعات تجارية كبيرة لهم، ومستشفيات ومرافق اطفاء وشرطة، ومحطات لتزويدهم بالماء، ومعامل لمعالجة مياه الصرف الصحي، ومحطات كهربائية، وشبكات اتصالات ونقل - وفي الحقيقة، ستكون المحصلة النهائية تشييد مدن حديثة في مناطق كانت صحراء قاحلة. وكان ذلك ايضا فرصة لاستكشاف آفاق ظهور تقنيات حديثة لأمور كثيرة، منها مثلاً، معامل لتحلية المياه، وأنظمة ميكروويف، ومجمعات للرعاية الصحية، وتقنيات الحاسوب.

وكانت بعض الدول ميداناً لتحقيق أحلام المخططين، وفنتازيا تتحول الى حقيقة بالنسبة الى من تربطه علاقة بأعمال الهندسة والانشاءات. وكانت توفر فرصة اقتصادية، لا مثيل لها في التاريخ: دولة متخلفة تتمتع بموارد مالية لا محدودة ورغبة في دخول العصر الحديث على نحو ضخم وبسرعة.

يقول المؤلف عن دوره في تلك الخطة، انه كان مطلوبا منه ان يصف سلسلة من الخطط (أو التصورات بشكل ادق)، لما يمكن ان يكون ممكنا، والتوصل الى تقديرات تقريبية للتكاليف المرتبطة بها.

ويتابع قائلا: كانت الاهداف الحقيقية لا تغيب عن ذهني أبدا، وهي: رفع المبالغ التي تدفع الى الشركات الامريكية الى اكبر قدر ممكن، وجعل الدولة التي تنفذ فيها الخطة تعتمد بصورة متزايدة على الولايات  المتحدة. ولم يمض وقت طويل حتى تبينت مدى ارتباط كل من الهدفين بالآخر، فكل المشاريع المنفذة حديثا سوف تتطلب تحديثا متواصلا وخدمة وصيانة، وكانت ذات تقنية عالية جدا، مما يضمن ان من سيقوم بصيانتها وتحديثها هي الشركات التي نفذتها اصلا، وفي حقيقة الأمر، مع تقدم العمل في وضع هذه الخطة، بدأت اجمع قائمتين لكل من المشاريع المتصورة: واحدة لأنواع عقود التصميم والانشاء التي نتوقعها، واخرى لاتفاقيات الصيانة والادارة على المدى البعيد. وكان من المؤكد ان شركات مين وبيكتل، وبروان اند روت، وهاليبرتون، وستون اند وبستر، والكثير غيرها من شركات الهندسة والانشاءات سوف تجني ارباحا هائلة من كل ذلك على مدى عقود قادمة.

ثم يتحدث المؤلف عن زمرة اخرى من فوائد تطوير مثل تلك الدول. فيقول ان تنميتها الاقتصادية، كانت  تحتم زرع بذور صناعة اخرى، وهي المتمثلة في وسائل حماية هذه الدولة من الطامعين في خيراتها. ولذلك، حق للشركات الخاصة المتخصصة في مثل هذه الانشطة، وكذلك للجيش الامريكي والصناعات الدفاعية ان تتوقع ابرام عقود سخية  ومرة أخرى، اتفاقيات خدمة وادارة على المدى الطويل. وسوف يتطلب وجودها مرحلة اخرى من مشاريع الهندسة والبناء، بما في ذلك المطارات، ومواقع الصواريخ، وقواعد الافراد والهيئات، وكل البنية التحتية المرتبطة بمثل هذه المرافق.

وبموجب هذه الخطة المتطورة، كما يقول المؤلف، كانت الولايات المتحدة تريد من هذه الدول ان تضمن تزويد واشنطن بالنفط بكميات واسعار قد تتذبذب، ولكنها لن تخرج عن اطار ما تقبل به واشنطن. وفي المقابل تقوم الولايات المتحدة بتوفير الحماية لمثل هذه الدول بطرق شتى.

ايران.. الشاه ومصدق

وفي هذا الاطار يتحدث المؤلف عن ايران. فيقول: ان ايران، بالنسبة الينا، كانت دولة ذات اهمية كبرى. فموقعها مهم جدا على حدود روسيا. وفيها كل هذا النفط. ويجب علينا ان نسيطر على هذا النفط، كنا نريد بلهفة ان نسيطر على كل نفط الشرق الأوسط. وكنا نرى الشاه الشخص القادر على جعل ذلك يحدث. وكانت الخطة ان الشاه يمكن ان يساعدنا في الاستيلاء على بقية الشرق الاوسط، بما فيه سوريا والعراق، وكلنا يعرف انه حدثت هنالك حرب بين العراق وايران بعد ذلك الوقت بكثير. ولكن منذ البداية كانت الفكرة ان نتحالف مع الشاه. وقد فعلنا كل ما من شأنه ان يضمن انضمامه الينا. وكنا في الوقت ذاته ندرك انه يملك ثروة هائلة من عائدات النفط، ومن ثم فإن شركاتنا تجني ارباحا طائلة. ومرة اخرى، كانت شركات الهندسة التي تحدثنا عنها، مثل شركتي، تشارلس تي مين، وبيكتل وهاليبرتون، وكل من كان هناك منخرطا في بناء المدن، وبناء محطات توليد الطاقة، وشق الطرق السريعة العريضة وغير ذلك، يجني ارباحا هائلة، ويصبح في غاية الثراء.

ويذكر المؤلف كيف ان ايران، حين حاولت الخروج على هذه القاعدة سنة ،1951 عندما أمم محمد مصدق صناعة النفط الايرانية، التي كانت خاضعة لسيطرة بريطانيا وقتئذ، وتعرضت لعقوبة صارمة. استعانت بريطانيا يومئذ بحليفتها في الحرب العالمية الثانية، الولايات المتحدة. وبدلا من ان ترسل واشنطن قوات مشاة البحرية في ذلك الوقت، ارسلت الى ايران عميل وكالة الاستخبارات المركزية كيرميت روزفيلت (حفيد ثيودور روزفليت). وقد افلح في كسب ود الناس هناك ببراعة فائقة عبر تقديم الاموال حيناً وعبر التهديد والوعيد أحيانا اخرى. ثم جندهم لتنظيم سلسلة من أعمال الشغب في الشوارع، والمظاهرات العنيفة، التي خلقت انطباعا بأن مصدق لم يكن محبوبا وأنه غير ملائم. وفي النهاية اطيح بمصدق، وامضى بقية حياته تحت الاقامة الجبرية في منزله. وأصبح الشاه محمد رضا الموالي لامريكا الدكتاتور الاوحد. واستأنفت امريكا بعد ذلك، عملية تحديث ايران وتطويرها، وابتزاز خيراتها، وربطها لتدور في فلك الامبراطورية الكونية السالفة الذكر.

العراق

ويذكر المؤلف ان الولايات المتحدة، عبر السفاحين الاقتصاديين، ومن ضمنهم المؤلف، حاولت تطبيق اللعبة ذاتها على العراق.

يقول المؤلف عن تجربته في هذا المجال، ان ادارتي بوش الأب وريجان كانتا عازمتين على تحويل العراق الى دولة تابعة لواشنطن. وكانت هنالك اسباب عديدة تدفع صدام حسين الى اتباع النموذج الذي سارت عليه الولايات المتحدة مع الدول الثرية بمواردها فقد كان يغبط هذه على ما تحقق فيها من مشاريع يسيل لها لعابه. كما كان يعلم انه اذا ارتبط مع واشنطن بمثل هذه المشاريع فسوف يحظى منها بمعاملة خاصة في ما يتعلق بتعاطيه مع القانون الدولي، وسوف تتغاضى عن بعض افعاله.

يقول المؤلف: كان وجود السفاحين الاقتصاديين في بغداد قويا خلال ثمانينات القرن الماضي. وكانوا يعتقدون بأن صدام سوف يبصر النور في نهاية المطاف، وكان علي ان أتفق مع هذا الافتراض، فلو ان العراق توصل مع واشنطن الى اتفاق مثلما فعلت بعض الدول الاخرى، فسوف يؤمن استمراره في حكم بلاده، وقد يوسع دائرة نفوذه في ذلك الجزء من العالم.

ويتابع المؤلف قائلا: انه لم يكن يهم الولايات المتحدة انه طاغية مستبد، وان يديه ملطختان بدم كثير من الابرياء. فقد تحملت واشنطن وجود مثل هؤلاء الاشخاص من قبل، بل كانت تدعمهم وتساندهم في احيان كثيرة. وسوف نكون في غاية السعادة بأن نقدم له سندات الحكومة الامريكية مقابل دولارات النفط، ومقابل وعده لنا باستمرار تزويدنا بالنفط، ومقابل صفقة يتم بموجبها استغلال ارباح السندات في تأجير الشركات الامريكية لتحسين انظمة البنية التحتية في العراق، ولاستحداث مدن جديدة، وتحويل الصحراء الى واحات خضراء. وسنكون راغبين في بيعه دبابات وطائرات مقاتلة، وفي بناء مصانعه الكيماوية والنووية، مثلما فعلنا من قبل في عدد كبير جدا من الدول، حتى لو كانت مثل هذه التقنيات يمكن ان تستخدم في انتاج اسلحة متطورة.

ويتحدث المؤلف عن أهمية العراق بالنسبة الى الولايات المتحدة فيقول: كان العراق في غاية الأهمية لنا، بل اهم بكثير مما يبدو على السطح. وخلافا للرأي العام الشائع، لا يتعلق الأمر بالنفط فقط. بل يتعلق بالمياه وبالجغرافيا السياسية كذلك، ولأن نهري دجلة والفرات يجريان عبر العراق، فإن العراق، من بين كل دول ذلك الجزء من العالم، يسيطر على أهم موارد المياه ذات الأهمية المتزايدة الى درجة حرجة. وخلال ثمانينات القرن الماضي، كانت اهمية المياه، السياسية والاقتصادية، تتضح شيئا فشيئا لمن يعملون منا في مجالي الطاقة والهندسة. وفي غمرة الاندفاع نحو الخصخصة، أصبح العديد من الشركات الرئيسية التي كانت من قبل تتطلع الى القيام بمهام شركات الطاقة المستقلة الصغرى، يمد بصره نحو خصخصة انظمة المياه في افريقيا، وامريكا اللاتينية، والشرق الأوسط.

ويتابع المؤلف: وبالاضافة الى النفط والماء، يحتل العراق موقعا استراتيجيا جدا. فهو يتاخم ايران والكويت والمملكة العربية السعودية والاردن وسوريا وتركيا، وله ساحل على الخليج العربي. وهو على مسافة تسمح باطلاق الصواريخ على “اسرائيل” وعلى الاتحاد السوفييتي السابق. ومن الشائع اليوم ان من يسيطر على العراق يملك مفتاح السيطرة على الشرق الأوسط.

وفوق كل ذلك، كان العراق يشكل سوقا ضخمة للتكنولوجيا والخبرة الهندسية الامريكية. وكونه يجلس فوق واحد من اعظم حقول النفط في العالم، يضمن انه في وضع يخوله تمويل برامج ضخمة تتعلق بالبنية التحتية والتصنيع. وكان كل اللاعبين الرئيسيين يمدون ابصارهم نحو العراق: شركات الهندسة والبناء، مزودو انظمة الحاسوب، اصحاب مصانع الطائرات والصواريخ والدبابات، وشركات تصنيع الادوية والكيماويات.

غير انه كان من الواضح ان صدام في أواخر ثمانينات القرن الماضي لم يكن مقتنعا بسيناريو السفاحين الاقتصاديين. وكان ذلك يسبب خيبة أمل وضيقا عظيمين لادارة بوش الأب. وبينما كان بوش يبحث عن مخرج لذلك، اوقع صدام نفسه بنفسه، حين غزا الكويت في اغسطس/آب ،1990 ورد بوش بادانة صدام بخرق القانون الدولي، رغم انه لم تكن قد مضت سنة على قيام بوش نفسه بغزو انفرادي غير شرعي لبنما.

ولم يكن الأمر مفاجئا، حين أمر الرئيس بوش أخيرا بشن هجوم عسكري شامل. وارسل نصف مليون جندي امريكي كجزء من قوة دولية. وخلال الشهور الاولى من سنة 1991 شن هجوم جوي كاسح على الجيش العراقي وعلى الاهداف المدنية.

يقول المؤلف: إنني أعتقد انه تحت سطح الخطاب الوطني والدعوات المنادية باتخاذ عمل ما،  كان هنالك تحول أهم وأعمق يكتنف نظرة اصحاب المصالح التجارية الامريكية  ومن ثم معظم الناس الذين يعملون لدى الشركات الامريكية  للعالم. لقد اصبح الزحف نحو تكوين امبراطورية كونية أمرا واقعا، وكانت الخصخصة تحفر دورباً عميقة في نفوسنا.

ورغم ان مؤلف الكتاب لا يتعاطف مع صدام حسين، بل يشبهه بهتلر في بعض المواضع في الكتاب، الا انه يقول: لا استطيع الا ان أتساءل، كم من الناس يعرفون مثلما كنت اعرف، ان صدام كان سيظل في السلطة لو انه وافق على المشاركة في اللعبة.. ولو فعل لكانت لديه الآن صواريخه ومصانعه الكيماوية، ولكنا قد بنيناها له، ولكان خبراؤنا الآن يشرفون على تطويرها وتحديثها وصيانتها، وكانت صفقة رائعة جدا.

 

السابقأعلى الصفحة

 

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ