ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

السبت 15/07/2006


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

كتب

 

إصدارات

 

 

    ـ القضية الكردية

 

 

 

 

   ـ أبحاث    ـ كتب

 

 

    ـ رجال الشرق

 

 

المستشرقون الجدد

 

 

جســور

 

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


في إطار البحث عن أسرار الهزيمة المنكرة في السابعة والستين يقدم مركز الشرق العربي لمتابعيه كتاب، المسلمون والحرب الرابعة، لمؤلفه زهدي الفاتح. الكتاب مليء بالوثائق والحقائق التي تضع الجيل الجديد أمام مسؤولياته التاريخية. إن تقديمنا لهذا الكتاب بكل ما فيه من معلومات وآراء لا يعني موافقتنا على كل ما جاء فيه.

المسلمون والحرب الرابعة

زهدي الفاتح

العرب الذين.. لا يقرأون..!

في عام 1957، نشر موشي دايان كتاباً، ترجم إلى الانكليزية، عن حرب السويس 1956، ضمنه خطة مفصلة عن هجوم إسرائيلي مقبل على سيناء، وقد نفذت هذه الخطة حرفياً خلال حرب الخامس من حزيران 1967. وحين سأله أحد الصحفيين عن سبب نشره خطة هجومية عسكرية سرية للغاية على هذا النحو من التفصيل، في كتاب سيار، من الطبيعي أن يقرأه العدو والصديق، أجاب دايان:

(إن العرب لا يقرأون..)

الفصل الأول

ليست مصادفة، كما ليس من قبيل المبادرة الشخصية، أن يفتتح حسني الزعيم، رائد الانقلابات العسكرية في عالمنا العربي، بعد مضي أقل من شهرين على نجاح انقلابه، جلسة مجلس الوزراء في 26 أيار 1949، بالقول:

(لقد وردتني معلومات تقول إن اليهود راغبون في التفاهم مع العرب بشروط مرضية، تحت ضغط الرئيس ترومان، والسيد شومان، وزير الخارجية الفرنسية. وقد علمت أن وزير خارجيتهم شاريت (شرتوك) موافق على القدوم إلى الأراضي السورية، أي إلى القنيطرة، للاجتماع إلى وزير الخارجية السورية. فما قولكم في هذا الأمر؟)[1]

ذلك لأن الولايات المتحدة الأمريكية، يحدوها القلق المتزايد من كراهية شعوب الشرق الأوسط للأمريكيين، كانت في ذلك الحين دائبة البحث عن (قادة مبصرين)، يستطيعون تحقيق تسوية سلمية مع إسرائيل، وإنهاء الصراع العربي ـ الإسرائيلي.

في بداية العام 1949، وفقت واشنطن بالزعيم حسني الزعيم في دمشق، الذي كان يطمح إلى حكم سورية.

وعندما شرع حسني الزعيم في التحري عن مدى ردود الفعل لدى موظفي السفارة الأمريكية بدمشق، بشأن الخطة التي عقد العزم على تنفيذها، والتي لم يكن يعرف بأمرها في العالم العربي كله، سوى شخص مدني واحد[2]، اشتهر فيما بعد بـ (زعامته الاشتراكية) في سورية، وبدوره الرئيسي الغامض في الإسراع بتحقيق الوحدة السوريةـ المصرية، ومن ثم الانقلاب عليها..

أقول، عندما شرع الزعيم يتحرى عن ردود فعل عزمه، أدهشه الموقف الإيجابي المشجع الذي لمسه من كل أمريكي فاتحه بالموضوع.

هكذا شعرت واشنطن، حين نفذ الزعيم خطته الانقلابية ضد حكم الرئيس المغفور له شكري القوتلي، أنها وفقت في الحصول على ضالتها المنشودة في زعيم عربي قوي، يستطيع مجابهة (ضغط الرعاع) والمساعدة على إيجاد حل لمشكلة فلسطين[3].

ويبدو أن حسني الزعيم شاء أن يثبت للضاغطين على الرئيس ترومان وإدارته الديموقراطية[4] أنه حقاً (الزعيم العربي القوي) الذي (يستطيع مجابهة ضغط الرعاع، والمساعدة على إيجاد حل لمشكلة فلسطين)، فعاد،  لمناسبة مرور شهرين على انقلابه، في الثلاثين من أيار 1949، إلى الحديث عن: (إلى متى نترك الجيش تحت السلاح، في جبهة تنتشر فيها الأمراض كالملاريا وغيرها ؟) وإن (فيجيه)، ممثل الوسيط الدولي الدكتور رالف بانش في اجتماعات لجان الهدنة وقتذاك، أبلغه أن بانش يوصي الحكم السوري الجديد بالموافقة على عقد الاجتماع مع شرتوك، ملحاً بضرورة الإسراع في تحقيق ذلك!!

وتعمد حسني الزعيم في اليوم التالي، 31 أيار 1949، أن ينفرد بوزير خارجية حكومته الأمير عادل أرسلان، ليقول له:

(علينا ضغط شديد للاجتماع بشرتوك. وأعتقد أن لا مناص لنا من عقد هذا الاجتماع. فتدبر الأمر).

يلح عليه الأمير أرسلان لتوضيح سر الاجتماع، فيرد الزعيم بأن إحدى الدول الكبرى (...) تضغط على سورية لعقد الاجتماع.

لكن الأمير أرسلان يفاجأ عند اجتماعه، في اليوم ذاته، (بفيجيه)، ممثل بانش، بأن هذا لم يسمع للمرة الأولى بأمر الاجتماع السوري ـ الإسرائيلي المقترح إلا من حسني الزعيم نفسه.

لم ييأس حسني الزعيم من بذل المزيد من محاولات إقناع أعضاء حكومته أو غيرهم من المسؤولين السوريين للاجتماع إلى أحد المسؤولين الإسرائيليين، رغم كل الاعتراضات والاحتجاجات والتهديد بالاستقالة، إذ راح يخطط بعد ذلك لفرض الأمر الواقع عليهم.

فقد جاء صلاح الدين الطرزي، المستشار الحقوقي للوفد السوري إلى اجتماعات لجان الهدنة، إلى الأمير عادل أرسلان، بوصفه وزيراً للخارجية، في الخامس من حزيران 1949، يسلمه مذكرة باللغة الفرنسية من فيجيه، جاء فيها بالحرف:

(أبلغت الحكومة الإسرائيلية أمس ممثل الدكتور بانش في تل أبيب (أي فيجيه) إنها لا توافق على اجتماع تمهيدي بين الممثلين السوريين والإسرائيليين للبحث في جدول أعمال المقابلة العتيدة بين السيد شاريت (شرتوك) ومعالي الأمير عادل أرسلان.

وبدلاً من ذلك، يقترح السيد شاريت أن يتألف جدول أعمال المقابلة من المواد التالية:

1ـ القضايا الخاصة بعد اتفاق الهدنة.

2ـ القضايا العامة المتعلقة بالعلاقات السلمية بين البلدين في المستقبل.

وقد أبلغ السيد شاريت ممثل الوسيط (الدولي) في تل أبيب أنه سيكون سعيداً، إذا تلقى الجواب السوري على هذا الاقتراح على الحد الأقصى مساء الثلاثاء 7 حزيران، وهو يقترح أيضاً أن يجري اجتماع الوزيرين في 9 حزيران.

ومادامت المباحثات التمهيدية، التي اقترحت الحكومة السورية إجراءها لوضع جدول أعمال تلك المقابلة، لن تجري، فإن المستر بانش يرتأي أن تحدد الحكومة السورية جدول الأعمال وترسله بالبرق.

وأن ممثلي الأمم المتحدة يضعون أنفسهم تحت تصرف الحكومة السورية، لكي ينقلوا الملاحظات التي ترغب في تقديمها بصدد المقابلة مع شاريت، ولتسهيل الاستشارات بين الطرفين.

من والواضح أن حسني الزعيم انفرد بإجراء الاتصالات، التي تتحدث عنها مذكرة ممثل الدكتور رالف بانش، مع إسرائيل، اعتقاداً منه أن هذه طريقة قد تفلح في إرغام وزرائه أو بعض المسؤولين السوريين على التفاوض مع الإسرائيليين، بعد أن خابت آماله بالاجتماع شخصياً إلى بن غوريون، لرفض هذا الأخير.

وقد بقي الزعيم حتى آخر لحظة من حياته يوهم نفسه أن التفاوض مع إسرائيل أمر طبيعي سيتحقق بأي شكل، بل لا مفر من تحقيقه. فها هو يرد على اعتراضات واستنكارات الأمير عادل أرسلان، بقوله:

(وأي بأس في أن تجتمع إلى شرتوك، في أرض سورية، كالقنيطرة مثلاً ؟)

لكن كيف اتصل حسني الزعيم بإسرائيل؟

في السادس من حزيران 1949، استدعى الأمير عادل أرسلان سفير إحدى الدول الكبرى في دمشق، ليسأله في غضب:

لماذا تريدوننا أن نقابل شرتوك.. ألم يكف ما أصابنا من خداع اليهود والتساهل معهم؟

كان جواب سفير الدولة الكبرى التي وجدت في حسني الزعيم (قائداً مبصراً) و(زعيماً عربياً قوياً يستطيع مجابهة ضغط الرعاع والمساعدة على إيجاد حل لمشكلة فلسطين، هو التالي:

(إن موقفك هذا يدفعني إلى أن أفشي لك سراً خطيراً، ولكني أستحلفك بشرفك ألا تبوح بأنني فعلت ذلك..

لقد استدعاني حسني الزعيم منذ أسبوعين، وأبلغني أنه قرر الاجتماع إلى بن غوريون شخصيا. وطلب إلي تنظيم هذه المقابلة بصورة سرية. وفي الحال أبرقت النبأ إلى حكومتي، فاتصلت هي بالحكومة الإسرائيلية، وعرضت عليها اقتراح الزعيم، فاعتذر بن غوريون عن مقابلة الزعيم، ولكن شرتوك اقترح أن تجري المقابلة بينه وبين وزير الخارجية السورية. وعلى الأثر نقلنا هذا الجواب إلى الزعيم، فوافق على عقد الاجتماع بين الوزيرين. وأبلغنا أنه يقترح أن يعقد ممثلو الدولتين اجتماعاً تمهيدياً لوضع جدول أعمال الاجتماع بين الوزيرين. وقد نقل هذا الاقتراج إلى تل أبيب السيد فيجيه، ممثل بانش، فأرسل شرتوك جوابه بواسطتهما، وهو الجواب الذي أرسله فيجيه إليك، ظناً منه أنك مطلع على الاقتراح، وموافق عليه..)

كان حسني الزعيم يسعى بأي شكل من الأشكال، إلى تنفيذ عهد قطعه على نفسه لواشنطن، ولبعض الجهات الأخرى، التي وجدت في انقلابه (نقطة انطلاق صالحة لشن الحرب على الرجعية والاقطاع في دمشق)[5]. بدليل أن عربياً لم يكن على معرفة مسبقة بخطته الانقلابية غير زعيم حزب اشتراكي ـ اليوم ـ نشأ في إحدى مدن سورية، يقال إنه استغل أشد ظروف حرب 1948 حراجة ليشن ثورته الاشتراكية على (الرجعية والاقطاع) في سورية، بعد أن تمكن، في تلك الظروف الخطيرة، من تهريب كميات من سلاح الجبهة السورية مع العدو إلى ريف مدينته[6]!!

وحين فشل حسني الزعيم في تنفيذه عهده، كان على (حافظ سره) الوحيد أن يتخلص منه بانقلاب سامي الحناوي، ليلة الرابع عشر من آب 1949، أي بعد انقلاب الزعيم بنحو أربعة أشهر ونصف الشهر.

وإذا كان لانقلاب الحناوي من أهداف معينة، ففي اعتقادي أنها لم تكن تتعدى إزالة آثار أبشع جريمة ارتكبت بحق الإنسان العربي، إذ لم يكن الزعيم بالرجل الذي يمكن الركون إليه لإخفاء الرؤوس المخططة لجريمته، والأيدي الفاعلة التي ساعدته على ارتكابها. هذا بالإضافة إلى أن الإبقاء على الزعيم حياً كان يعني كشف مخطط التدمير والتجويع والتجهيل وسلب الأوطان الذي نفذ جزء منه خلال العقدين المنصرمين من السنين بأيدي نفس أولئك الذين أوحوا بالقضاء على حسني الزعيم، وكان بينهم (حافظ سره) الوحيد، بالإضافة إلى هذا الذي يروي لنا الكاتب الصهيوني هامباراجي انطباعاته عن لقائه به، إذ يقول بالحرف الواحد[7]:

(إنني لا أنكر على العرب ما يشكونه من إسرائيل، غير أن تضخيم هذه الشكاوى وتحويلها إلى نوع بشع من الكراهية العرقية، يعني أن العرب ينكرون على غيرهم من الحقوق ما يدعونه لأنفسهم. وقد تناقشت في هذا الموضوع مطولاً مع السيد (...) في دمشق عام 1955، ولم يكن آنئذ وزيراً للخارجية، وكنت أستقصي آراءه في قضية فلسطين، على اعتبار أنه قائد اشتراكي، فلاحظت انسجامه معي في كثير من النقاط ذات العلاقة بهذا الموضوع. وكم كنت أرجو لو أن السيد (...) قال في العلن ما أسره في مجلس خاص).

رغم فشلها في سورية، مؤقتاً، لم تيأس أمريكا..

فعجزها، كما يقول الكاتب السياسي الأمريكي المعروف هاري اليس[8]، (في سورية عن عجزها خلق زعيم يستطيع أن يساعدها على الخروج من ورطة فلسطين، لم يفقد رجال الدولة الأمريكيين أملهم. بل كانوا لا يزالون يتوقعون أن يظهر إلى الوجود زعيم عربي من هذا النوع. وقد ظل هذا الأمل عنصراً مهماً في تفكير واشنطن، إلى أن أطاحت كتلة من ضباط الجيش المصري بالملك فاروق، فتشبثت أنظار رجالات الدولة الأمريكيين بالبكباشي الشاب (...)، الذي بدأت اتصالات الأمريكيين به قبل الثورة، وبطرق بعيدة عن الأساليب القانونية المألوفة. وكانت إحدى النتائج المهمة لتلك الاتصالات المبكرة، أن نمت صداقات شخصية بين الضابط المذكور وبين عدد من الشخصيات الأمريكية، التي أوكل إليها رسمياً الاهتمام بالشؤون المصرية. كان أحد هذه الشخصيات السيد وليم ليكلاند، السكرتير الثاني للسفارة الأمريكية في القاهرة، الذي كان يجتمع بـ(...) دون كلفة ولا استئذان. أما الشخصية الثانية فهو كيرميت روزفلت، الذي كان رئيساً للمخابرات الأمريكية في الشرق الأوسط، مما أكسبه خبرة واسعة بشؤون الشرق الأوسط. كما كان ثمة العديد من الشخصيات الأمريكية الأخرى التي عملت في مصر لحساب منظمات صناعية خاصة.

وقد أتاحت هذه العلاقات بين الأمريكيين أولئك وبين (...) فرصة لتبادل الآراء على نحو قلما أتيح مثله بين الغربيين وبين زعيم بلد شرقي..!!

ويزعم هارس اليس أن الفضل في توقيع اتفاقية الجلاء عن قناة السويس في 27 تموز 1954 بين المصريين والبريطانيين، يعود بالدرجة الأولى إلى أصدقاء (...) الأمريكيين، وعلى رأسهم كيرميت روزفلت، رئيس المخابرات الأمريكية في الشرق الأوسط!

يبدو أن واشنطن فكرت أن باستطاعاتها تحقيق ثلاثة أهداف في آن واحد، إذا هي تمكنت من الاعتماد على (زعيم عربي قوي مبصر):

1ـ القضاء على النفوذ البريطاني في الشرق الأوسط، وهو هدف لا تعاديه في العالم أي قوة سوى بريطانيا.

2ـ فرض تسوية سلمية مع إسرائيل، وتصفية القضية الفلسطينية برمتها.

3ـ القضاء على العناصر الوطنية، التي تصورت أمريكا، أو صور لها محركو سياستها وراسموها أنها لم تعد تصلح لإدارة المنطقة، وإفساح المجال أمام ظهور، وإذا أمكن خلق عناصر تقدمية اشتراكية تستطيع أن تلبي، في حسابات ناصحي واشنطن ومخططي سياستها، تطلعات المنطقة وآمالها. وكان الرأي السائد في الدوائر التنفيذية المسؤولة بواشنطن أن تلك العناصر الوطنية هي عناصر رجعية اقطاعية، متطرفة في وطنيتها من جهة، ومعادية لأي نفوذ أجنبي من جهة أخرى، وساعية بكل طاقاتها إلى القضاء على إسرائيل من جهة ثالثة.. وهو الأهم.

هكذا، نستطيع أن نفهم لماذا كان الفضل الأول في توقيع اتفاقية جلاء بريطانيا عن القناة يعود إلى الأمريكيين.. أصدقاء رجال الثورة المصرية!

ويذهب المؤرخ الأمريكي جاليس كريمنز[9] إلى حد التأكيد بأن الحكومة الأمريكية أظهرت من العطف على الثورة المصرية والحماسة لها، ما جعلها تهتم باختيارها كأداة أساسية لتحقيق أغراضها في المنطقة كلها. ويذكر كريمنز بأن من جملة أغراض واشنطن في المنطقة، العمل على تصفية جميع المشاريع البريطانية الدفاعية عن المنطقة، بدءاً بميثاق الدفاع عن الشرق الأوسط في تشرين الأول 1951، وانتهاءاً بميثاق بغداد في كانون الثاني 1955.

فيما يربط المؤرخ الأمريكي لينشوفسكي[10] بين ما يسميه (عجز) الولايات المتحدة عن الانضمام إلى حلف بغداد لرغبتها في عدم إحراق جسور علاقاتها مع مصر، وبين احتجاجات إسرائيل التي اعتبرت الحلف عملاً عدوانياً موجهاً ضدها، إذ يقول لينشوفسكي بالحرف:

(إن عجز الولايات المتحدة عن دخول الميثاق ـ ميثاق بغداد ـ يعود سببه إلى رغبة أمريكا في عدم إحراق الجسور في علاقاتها مع مصر، كما يعود إلى احتجاجات إسرائيل المتوالية التي هاجمت الميثاق واعتبرته عملاً عدائياً موجهاً ضدها..).

ويركز الكثير من المؤرخين والكتاب، لا سيما منهم ذوو الصلات الوثيقة بالدوائر الصهيونية، على الزعم بأن إسرائيل كانت بدورها، ربما انطلاقاً من مواقف وأطماع وأحلام واشنطن أو بالعكس، تعلق الآمال الكبار على ثورة 23 تموز المصرية، حتى أن بن غوريون نفسه وقف في الكنيست بعد أقل من شهر على قيام الثورة يحيي انطلاقتها، ويقول بالحرف: (إن إسرائيل ترغب في أن ترى مصر حرة مستقلة تقدمية)[11]. لكن مصر الثورة لم تكن وقتذاك في حال تسمح لها بالرد على هذه التحية.

وتشير إحدى المجلات الأوروبية[12] إلى أسباب انتعاش آمال إسرائيل بعد ليلة 23 تموز المصرية، فتقول:

(.. أدت سيطرة الضباط على الحكم يوم 23 تموز 1952 إلى فيض من البلاغات والنداءات إلى الشعب، وإحداث الكثير من البرامج وإجراء العديد من المقابلات الصحافية. وكان دور فلسطين في كل ذلك كدليل على خيانة الملك فاروق، أكبر من دورها كهدف يفرض المسؤولون الجدد تحقيقه بتحرير فلسطين).

ولما وقف بن غوريون في الكنيست وحيا الانقلاب، واصفاً إياه بأنه فرصة لمصر كي تعيد النظر في سياستها الخارجية، لم يقابل هذا الترحيب بأي رد رسمي في القاهرة.

والحقيقة أن النظام الجديد لم يكن يستطيع آنذاك النظر إلى الشمال أو إلى الشرق، فقد كانت أهدافه الرئيسية: تطهير الجيش، الجلاء البريطاني عن منطقة القناة، الإصلاح الزراعي، وإعادة توحيد وادي النيل..

وأي قراءة واعية للصحافة المصرية المراقبة من قبل العسكريين بين أعوام 1952 و 1954، تدل على ضآلة اهتمام النظام الجديد بإسرائيل. وقد عقد كل من محمد نجيب وعبدالناصر وصلاح سالم أكثر من عشرين مؤتمراً صحافياً في تلك الفترة، حضرها مندوبون عن صحف أجنبية كثيرة. وبوسعي أن أشهد بأن الموضوعات ذات العلاقة بالقضية الفلسطينية كانت في منتهى الندرة..).

ويكشف المؤرخ الصهيوني المعروف ايرل برغر[13] النقاب عماذا وبم وكيف كانت إسرائيل تفكر وتخطط حينذاك. فيؤكد بأن إسرائيل كانت (تعتقد أن هناك نقاطاً أساسية يمكنها الاتفاق عليها مع حكم لاحق (لحكم فاروق) في مصر، سواء من النواحي السياسية أو الاقتصادية. إذ ليس هناك احتمال في أن تهدد إسرائيل وجود مصر كدولة، كما أن للبلدين مواقف مماثلة بالنسبة للهاشميين، وكلاهما يريد إخراج بريطانيا من الشرق الأوسط).

ولا يخفي ايرل برغر أن (هذه الآمال انتعشت على عهد الثورة المصرية).

كيف؟ يجيب برغر قائلاً:

لكي نفهم جيداً شعور الإسرائيليين في ذلك الحين، يجب أن نفهم كيف التقت آمالهم في الصلح مع العرب على عهد الثورة المصرية. ذلك أن المبدأ الذي قام عليه وجود إسرائيل منذ البداية، هو أن العرب سيعملون يوماً على التعاون معهم، وأن هذا التعاون سيصبح بالنسبة للعرب ضرورة أدبية وسياسية واجتماعية واقتصادية. وأن ظروف العرب وحاجاتهم التاريخية ستضطرهم أخيراً للعمل مع إسرائيل يداً بيد، كلا منهم يكمل الآخر.. فإسرائيل جسر يصل بين الغرب المتقدم والشرق المتخلف.. فلماذا لا تنقل إسرائيل إلى العرب العلم والثقافة والخبرة والمعرفة، وكذلك الثورة الاجتماعية والاقتصادية؟)

(لكن كل هذه النظريات  ـ يستطرد المؤرخ الصهيوني ايرل برغرـ لم تفعل فعلها في نفوس العرب، مما أكد لإسرائيل أن القوى التي تغذي مشاعر العداء وضدها في العالم العربي، هي الفئات الرجعية من رجال الاقطاع والسياسيين القدامى والمشايخ، وجميع الفئات التي تخسر كثيراً إذا سادت في المنطقة اشتراكية إسرائيل النموذجية[14]).

وكان بن غوريون شديد الإيمان بالقضاء على هذه الفئات جميعاً، حينما دعا الكنيست، قبل ثورة الضباط الأحرار في مصر، إلى التحلي بالصبر، لأن السلام لن يكتب لإسرائيل، مادام العالم العربي تحت حكم الرجعيين، وأن الخطوة التي يجب أن تسبق الصلح مع إسرائيل هي إقامة ديموقراطيات شعبية اشتراكية محل الحكومات الرجعية في الدول العربية..).

ويزعم برغر، أنه لهذه الأسباب كلها، (كانت حاجة إسرائيل إلى ثورة الضباط الأحرار في مصر أشد من حاجة المصريين أنفسهم. إذ كانت الثورة بالنسبة لإسرائيل كالفجر يشرق في أحلك ساعات الليل.. وهكذا بدا رجال الثورة وكأنهم الفجر الذي كانت إسرائيل تنتظره!! خاصة وأن أولئك الضباط كانوا جميعاً صغاراً في سنهم، صغاراً في بورجوازيتهم، يتطلعون إلى البقاء في الحكم على أساس أهداف داخلية كلها: تطهير البلاد من الفساد، القضاء على سوء الإدارة، إزالة الاضطهاد والظلم الاجتماعي والاقتصادي.. إلى آخره..).

ويخلص برغر إلى القول:

(ومما زاد في طمأنينة اليهود الاتصالات الجانبية التي جرت مع الضباط الأحرار قبل عهد الثورة. فقد قال يوحام كوهين التي تعرف بالبكباشي (...) جيداً منذ حصار الفالوجة، أن الانطباع الذي انعكس في نفسه من خلال تلك المعرفة هو أن كفاح مصر الحقيقي سيكون على أيدي هؤلاء الضباط في مصر ذاتها، وليس على أرض فلسطين. كما أن هناك ضباطاً اشتركوا في محادثات الهدنة، ثم حافظوا على اتصالاتهم بفئات الجناح اليساري في إسرائيل..).

على هذا، فمن الطبيعي، أن يكون يوم توقيع ميثاق بغداد، كانون الثاني 1955، محزناً للغاية بالنسبة لإسرائيل، التي كانت تعلق كل تلك الآمال، التي شرحها مؤرخها برغر، على ثورة اجتماعية اقتصادية سياسية في بلد عربي ـ بالغ التأثير على المنطقة كلها ـ وضع قادتها نصب أعينهم:

1ـ القضاء على من يسمون بالاقطاعيين والرجعيين والمشايخ، وكل من يخسر بتطبيق الاشتراكية النموذجية، والبدء في ترسيخ دعائم دولة ديموقراطية شعبية اشتراكية.

2ـ إخراج البريطانيين من الشرق الأوسط، والقضاء، بالتعاون مع قوى عالمية أخرى طامعة، على كل أثر للنفوذ البريطاني.

مما يعني التفرغ الكامل لتحقيق هذين الهدفين وعدم الاهتمام بوجود إسرائيل، خاصة وأن هذه كان لها، منذ البداية، من الأهداف ما يماثل هذين الهدفين.

والحقيقة أن أي مؤرخ معاصر لم ينجح في تصوير تأثير إنشاء حلف بغداد على إسرائيل وموقفها الحقيقي منه، مثلما نجح مؤرخها ايرل برغر نفسه، حينما قال بالحرف الواحد[15]:

(كان توقيع ميثاق بغداد بمثابة صدمة عنيفة للإسرائيليين الذين لاحظوا أن عليهم أن يتحملوا الكثير من مرارة الصراع بين مصر والعراق، وتسابقهما لإثبات من هو أقدر على خدمة القضية العربية: مصر والعراق، وتسبقهما لإثبات من هو أقدر على خدمة القضية العربية: مصر بحيادها، أو العراق بتحالفها مع الغرب!! وعدا عن هذا، فإن تركيا، التي كانت خير صديق لإسرائيل في المنطقة كلها، تركيا التي اعترفت بإسرائيل وتاجرت معها وساندتها في مجلس الأمن، تدخل الآن في ميثاق عسكري مع العراق، البلد العربي الوحيد الذي رفض التوقيع على اتفاقية الهدنة.. وأسوأ من ذلك كله، رضيت تركيا، في ميثاق بغداد، أن تتعاون مع العراق على تنفيذ مقررات منظمة الأمم المتحدة الخاصة بفلسطين، وكان من الطبيعي أن يتساءل الإسرائيليون عما إذا كان ميثاق بغداد قد عنى فعلاً مساعدة الحركة الرامية إلى اقتطاع أجزاء كبيرة من إسرائيل، تنفيذا لمشروع التقسيم. وعلى العموم، لاحظت إسرائيل عند إعلان ميثاق بغداد أنها أصبحت في عزلة تامة، وأن هدف العدوان عليها كان في الميثاق من الوضوح بحيث يصعب أن تنظر إليه إسرائيل نظرة فلسفية مترفعة!).

في اعتقادي أنها ليست مصادفة أيضاً، أن يقضى، بعد سنوات قلائل لإعلان ميثاق بغداد، على الحكم العربي الهاشمي في العراق، حيث كان قد جرى قبل أشهر من ذلك حدث تاريخي مهم في حياة المنطقة، أسفر عن اصطناع تغيير واضح في سلوك سورية نحو إسرائيل، ها هو الفريق المتقاعد عبدالكريم زهر[16] الدين يكشف عن طبيعة السلوك الجديد ومصدره، حينما يقول بالحرف:

(كانت الأوامر المحفوظة لدى قيادة الجبهة (السورية) في زمن الوحدة توحي بضرورة التحفظ وضبط الأعصاب وتجنب الاشتباكات مع إسرائيل قدر الإمكان. كما أن الزوارق الإسرائيلية كانت تصل حتى الضفة الشرقية من بحيرة طبريا. أي أنها كانت بأعمالها هذه تتحدى المخافر السورية تحدياً صريحاً وتتحرش بها تحرشاً مفضوحاً، مما جعل جنودنا يقعون في أزمة نفسية قاسية لأنهم كانوا يشاهدون تحديات اليهود العلنية دون التمكن من الرد عليها بسبب الأوامر المشددة والحظر المفروض على استعمال القوة وفتح التار ابان عهد الوحدة..)[17].

لذلك كان الانقلاب 28 أيلول 1961 الذي أسفر عن انفصال سورية عن مصر الثورة، بمثابة ((ضربة هزت أركان أمريكا هزاً لدرجة أن دين راسك كاد أن يصفع وجهه حينما وصله الخبر) (هذا قول السفير عمر أبو ريشة بخصوص موقف دين راسك). فلقد عطل كل سياستها وقلبها رأساً على عقب. وقابلت الصحف (الأمريكية) التي تنطق بلسان الصهيونية نبأ الانقلاب بوجوم وحزن شديدين))[18].

أردت على الصفحات السابقة أن أضع أمام القارئ ما كان، ولايزال، يراد لنا من وراء الانقلابات العسكرية والثورات المجنونة المحمومة، وما يستهدفونه من نسف أسس الشرعية والدستورية من بلادنا.

وليس غريباً أن تتفق كل من الصهيونية العالمية والاتحاد السوفييتي (والشيوعية الدولية) والولايات المتحدة الأمريكية، على أن طريق تحقيق أطماع كل منها، وأهداف كل منها، في البلاد العربية والإسلامية، هو طريق سيادة منطق الانقلابات العسكرية والثورات الشيوعية والفوضى الاشتراكية الثورية على هذه البلاد.

ففي كتابه (أعوام التحدي)، يؤكد بن غوريون أن إسرائيل ستبقى عنصراً غير مرغوب به في المنطقة، إلى أن تسيطر طبقة العسكريين ومفلسفو ومبدعو فتاوى كل ما تأتيه هذه الطبقة، مشيراً إلى أن الهوة ستزول حتماً بين إسرائيل ودول المنطقة حالما تسود الاشتراكية والعسكرية على حياة دول المنطقة.

ولا يفوتني هنا سرد حادثة تعكس مدى حرص إسرائيل على سيادة الاشتراكية في المنطقة، واهتمامها البالغ باستمرار الأنظمة الاشتراكية والعسكرية الموجودة، مما يوضح ثقة إسرائيل البالغة بأسلوب تفكيرها القديم، قدم وجودها، إن لم نقل تخطيطها المسبق، الذي كشفه آنفاً المؤرخ الصهيوني ايرل برغر، والقائل، على لسان بن غوريون، أن لا أمل لإسرائيل في الصلح مع العرب إلا بالقضاء على الرجعيين، وإقامة دول شعبية اشتراكية محل الأنظمة الرجعية في المنطقة.

فعلى (أثر احتدام الجدل بين الكونغرس ووزارة الخارجية في أمريكا، بسبب رفض المجلس إدراج مصر في عداد الدول المستفيدة من فائض القمح، وكون هذا التصرف من المجلس يحد من صلاحيات الرئيس الدستورية في اتخاذ أي إجراء يراه كفيلاً بتحقيق المصلحة القومية.. أوفد الرئيس جونسون السيد دين راسك وزير الخارجية، لإقناع لجنة الشؤون الخارجية بوجهة نظر الحكومة بضرورة العمل على تحسين العلاقات المتردية مع مصر، خاصة وأن القمح إنما يرسل لإشباع الشعب الجائع، وليس من العدالة والإنسانية في شيء الضنك على الإنسان بما يمسك رمقه، ويحفظ الحياة!

ولم يكتف الرئيس جونسون برسول واحد، بل أتبع بنائبه همفري. وذلك إجراء لم يسبق له مثيل في عهد الرئيس جونسون على الأقل. وكان المعروف ضمناً ـ حينذاك ـ أن رفض مشروع الرئيس لم يكن بسبب الثورة الجامحة الحانقة على مصر ورئيسها فحسب، بل بسبب نفوذ وضغط الأعضاء الضالعين مع إسرائيل، الذين حسبوا ـ وهم الذي يجهلون أبعاد ومرامي المكائد والمصائد الصهيونية ـ أنهم يرضون بذلك إسرائيل، فيكونون كمن رمى عصفورين بحجر واحد: فينفسون عن حقدهم على الرئيس المصري، ويبيضون وجوههم مع إسرائيل!!

ذهب السيد همفري يرافقه السيد راسك إلى المجلس لإقناعه بسحب اعتراضه على استئناف شحن القمح إلى مصر، وكانت الحجة التي ساقاها لتبرير وساطتهما أن إسرائيل انتقدت بشدة اعتراض المجلس على إرسال القمح إلى مصر! وأن السفير الإسرائيلي في واشنطن لم يترك سبيلاً لم يسلكه لإقناع المسؤولين الأمريكيين بضرورة استرضاء مصر.. بل إن رئيس وزراء إسرائيل، قد بادر حالاً، حين بلغه اعتراض المجلس، فاتصل هاتفياً بالرئيس جونسون مناشداً إياه بذل كل جهد لإثناء المجلس عما يراه.. هكذا والله!!

ونشرت (الواشنطن بوست) في صدر عددها صباح اليوم التالي تفاصيل القصة بكاملها، تحت عنوان ـ إسرائيل تؤيد الرئيس جونسون في مساعدة مصر[19]!!

ومن يقرأ المقالات التي يكتبها المعلق الصهيوني المشهور جون كيمشي في مجلة (آرش) التي يصدرها غاري روتشيلد في باريس، يلاحظ أن الصهيونية ترى الوضع في الشرق الأوسط على النحو التالي: إسرائيل ـ من جهة، وأوضاع عربية محلية ضعيفة ومخلخلة وممزقة ـ من جهة أخرى. وفي رأي إسرائيل، كما أوضحه كيمشي في مقالته (السلام ـ أي سلام إسرائيل ـ عن طريق الثورات)، أنه لماذا تقبل إسرائيل التعامل مع العرب كدول، إذا كانت تستطيع التعامل معهم كبلديات لا تملك من القدرة ما يمكنها أن تفرض وضعاً سياسياً لا بالنسبة إليها، أي إلى إسرائيل، ولا بالنسبة للدول الكبرى؟

وفي الحملة المركزة على الملك حسين (الرجعي) شخصياً في الأندية والصحافة والأوساط اليهودية العالمية، أحاديث مفادها:

لماذا يطلب من إسرائيل التعامل مع الملك حسين (المطالب بعودة الضفة الغربية، والمرتبط بالحنين إلى القدس الإسلامية، والمشترك بفعالية في جامعة الدول العربية، وغير العازم على قبول أي نوع من الصلح مع إسرائيل).. إذا كان بإمكان إسرائيل أن تعمل على (خلق أوضاع تحول الأردن إلى دويلة ثورية  ـ يسارية ـ لا فرق ـ تقبل ما لا يقبل به هو، وتنصاع إلى ما لا ينصاع إليه الملك حسين)؟

ويتساءل كيمشي باستغراب: (لماذا تسلم إسرائيل لحسين المحافظ بما لا تسلم به لاي ضابط يساري اشتراكي، يجعل من النظام الملكي الهاشمي في الأردن أثراً من الماضي؟

يستطرد كيمشي موضحاً، بأي سياسة عدم الاعتراف بالملك حسين كجهة صالحة للتفاهم والسلام، لاتجعل من اي نظام يساري اشتراكي يقوم في الأردن جهة غير صالحة، يمكن أن تخافها إسرائيل، أو لاتساعد على تهيئة وصولها إلى الحكم.. فالذي سيحدث أن مثل هذا الوضع اليساري الاشتراكي إذا قام في الأردن، فلسوف يزج الوضع العربي برمته في طريق التدحرج نحو الهاوية[20].

وللسياسة الأمريكية وجهة نظر مماثلة تماماً لوجهة النظر الإسرائيلية، لكنها تطرحها وتنفذها بطريقتها الخاصة.

فواشنطن ترى أن (الحل الوحيد لأزمة التخلف في البلدان المتخلفة هو أن تتولى الجيوش شؤون الحكم، لأنم مجرد دخول الجندي في الخدمة العسكرية يعني تحرره من جميع روابط الحياة المدنية بجميع تقاليدها وعاداتها ومجتمعاتها القديمة البالية، كما يعني سعي هذا الجندي في سبيل إقامة مجتمعات وتحقيق أهداف جديدة. ومن عادة ضباط الجيش، أو أكثرهم، أنهم يفتشون عادة خارج مجتمعهم عن نماذج لمجتمعات حديثة، كما أنهم شديدو الحساسية بالنسبة للرغبة في التغيير والعمل من أجل التجدد والتجديد. هذا عدا عن أن النظام العسكري المطلق يحقق اتصالاً سريعاً بالخارج، كما يحقق تنفيذاً سريعاً لما يراد تغييره أو تحويله..)[21].

وتفضح واشنطن نفسها ومسؤوليتها عما حدث ويحدث في البلدان العربية، حينما تعترف بأنها، ودول الغرب كله، قد روضت نفسها على التعامل مع أنظمة الحكم العسكرية الثورية التي تتميز بقادة (بارعين في استخدام وفي إساءة استخدام السلطات التي بين أيديهم..)، حيث يقول في ذلك جان كامبل، مدير الدراسات السياسية في مجلس العلاقات الخارجية الأمريكية:

(إن نظام الحكم القائم في مصر، على الرغم من أساليبه الديكتاتورية فهو لا يعدم المساندة الشعبية، وزعيمه، وأن يكن ذا ثقافة وأفق محدودين، فهو رجل له قيمته، وهو بالنسبة لأكثر المصريين، وعد بمستقبل أفضل لمركز أرفع.. وقلائل هم الذين يأسفون في مصر على ضياع الحريات السياسية. لذلك كان من الغباء بالنسبة للغرب أن يبني آماله على تطلعات الشعب إلى حكم أكثرية ديموقراطية. فالحكم في مصر، حتى ولو سقط بفعل تركة ثقيلة خلفتها العهود السابقة، فهناك فرص كثيرة تتبع قيام حكم آخر من الطراز نفسه. لذلك كان على الولايات المتحدة أن تروض نفسها على التعامل مع قادة من هذا النوع في العالم العربي: قادة فعالون، عظيمو الثقة بأنفسهم، بارعون في استخدام وفي إساءة استخدام السلطات التي هي بين أيديهم)[22].

لكن الاتحاد السوفييتي، وبطريقته الخاصة أيضاً، أو كما هو مخطط لجري سياسته وللسياسة الأمريكية، ينطلق في نظرته إلى الانقلابات العسكرية وتسلط العسكريين على الحكم في البلدان العربية، من اعتبارات ومفاهيم طبقية ماركسية[23].

فالسوفيات يعتبرون الجيش في البلدان العربية (المؤسسة الوطنية العامة الوحيدة) و(المؤسسة الأكثر صفة عصرية في المجتمع)، فهو يلقن الناس (وعيهم الوطني) ذلك لأن الضباط في البلدان العربية منبثقون، بصورة عامة، من الطبقات الكادحة ومن العيال الكادحة في المدن والريف، ومن عيال الموظفين الصغار). ففي سورية ـ مثلاً ـ (90% تقريباً من الضباط هم من أبناء العيال الكادحة). ولعدم ارتباط الضباط في البلدان العربية (بصلة النسب مع كبار الملاكين الزراعيين والبورجوازيين، ونظراً لامتلاكهم درجة كبيرة نسبياً من الاستقلال، فإنهم قادرون على تحويل الجيش إلى قوة تمثل دور أداة الثورة الوطنية)، أو بالمفهوم الشيوعي، قادرون على تحويل الجيش إلى جيش عقائدي.

وتعتقد موسكو أنه في عام 1952 لم يكن باستطاعة أية فئة من قئات الشعب المصري أن تقوم بثورة فئة الضباط الذين (ضربوا الطبقات المسيطرة، عميلة الامبريالية وقاعدة الثورة بقادة مصر العسكريين نحو الاقتناع بأن من الصراع بين نظامين متعارضين ـ لا يمكن النضال بنجاح ضد شرور الرأسمالية، إلا بتبني مواقف الاشتراكية، والتحالف مع الدول الاشتراكية).

وترى السياسة السوفييتية، باختصار، أن القوات المسلحة في الدول العربية (تمثل دوراً سياسياً مهماً، وفي أكثر الحالات، دوراً تاريخياً متقدماً. ولا تستطيع جيوش البلدان العربية تحقيق الرسالة النبيلة التي عهد بها إليها التاريخ؟!! إلا بالاعتماد على جماهير الشعب الكبرى، على الشعب الكادح، على أولئك الذين تتحقق في مصلحتهم كل ثورة في نهاية الأمر)[24].

هل هي مصادفة أيضاً، أن تتماثل سياسيات ومواقف إسرائيل والولايات المتحدة، والاتحاد السوفييتي حيال مسألة تدخل العسكريين في الشؤون السياسية للدول العربية، بل وسيطرتهم في بعضها على الحكم؟!


[1] ـ الأمير عادل أرسلان، (الحياة) اللبنانية، الأعداد من 18 إلى 26 آب 1949.

[2] ـ كما قال حسني الزعيم لبعض المقربين إليه إثر نجاح انقلابه.

[3] ـ ص32 من (التحدي في الشرق الأوسط) للكاتب السياسي الأمريكي المعروف هاري ب. أليس

[4] ـ جاء في المذكرات التي نسبتها مجلة (لايف) الأمريكية للرئيس ترومان، في العدد الصادر يوم 30 كانون الثاني 1956، قوله:

(في الحقيقة، إن الضغط لم يمارس مع الدول الأخرى بشكل لم يسبق له مثيل فحسب، بل إن البيت الأبيض نفسه كان عرضة لمثل ذلك الضغط الرهيب. ولا أعتقد أنني تعرضت طيلة مدة رئاستي لمثل ذلك الضغط والإلحاح! ولقد أزعجني السلوك المشين لقادة الصهيونية المتطرفين، بل أثارني وأغضبني. فقد كانت تلك الأبواق المسعورة تلح بكل ثقلها على البيت الأبيض ليستغل نفوذه في الضغط على الدول الأخرى!)

لكن الرئيس ترومان يعترف، من جهة أخرى، باستخفافه بتحذيرات مستشاريه من التمادي في تأييد السياسة الصهيونية، (لأن ذلك يضر مصلحة واشنطن بتأليب الراي العام العربي ضدها..) (غير أني تغافلت عن رأي هؤلاء، لأني كنت أعتقد أن جميع موظفي وزارة الخارجية لم يكونوا يعرفون شيئاً مما يجري للاجئين اليهود في أوروبا..)!!

[5] ـ ص 295 من (الشرق الأوسط في السياسة العالمية) للمؤرخ الأمريكي لينشوفسكي.

[6] ـ كما روى المرحوم محسن البرازي لعدد من أصدقائه.

[7] ـ ص 262 من كتابه (اتهام اشرق الأوسط).

[8] ـ ص 34ـ35 من كتابه (التحدي في الشق الأوسط).

[9] ـ ص 301 من كتابه (العرب والعالم).

[10] ـ ص 263 من كتابه (الشرق الأوسط في الشؤون العالمية).

[11] ـ ص 65 من كتاب (أعوام التحدي) لبن غوريون.

[12] ـ مجلة (لي نوفيل اوبزرفاتور) العدد المؤرخ 4 أيلول 1967.

[13] ـ ض 169 ـ 172 من كتابه (العهد والسيف).

[14] ـ قال تيودور هرتزل، على الصفحة 105 تاريخ 16 حزيران 1895 من (يومياته) أن الدولة اليهودية ستكون أكثر من نموذج للاشتراكية.

[15] ـ ص 182 من كتابه (العهد والسيف).

[16] ـ كان قائداً للجيش السوري في الفترة التي أعقبت انفصال سورية عن مصر يوم 28 أيلول 1961.

[17] ـ ص 178 من كتابه (مذكراتي عن فترة الانفصال في سورية).

[18] ـ من تقرير النقيب محمد حجار الملحق العسكري السوري بواشنطن، ص 277 من المصدر السابق.

[19] ـ سعد جمعة في (المؤامرة ومعركة ا لمصير) ص 107ـ 108.

[20] ـ عن مجلة (الحوادث) اللبنانية، العدد رقم 590، تاريخ الأول من آذار 1968.

[21] ـ ص 73ـ 80 من كتاب (دور العسكريين في الدول المتخلفة)، ألفه 11 أستاذاً أمريكياً تابعين للقسم العلمي في مؤسسة الشرق الأوسط الأمريكية.

[22] ـ ص 294 من كتابه (الدفاع عن الشرق الأوسط).

[23] ـ يقول المفكر الصهيوني المعاصر الحاخام لويز برونس في كتابه (أغرب من الخيال): (إن كارل ماركس، حفيد الحاخام مردخاي ماركس، كان في روحه واجتهاده وعمله ونشاطه وكل ما قام به وأعد له من فكر وأسلوب أشد إخلاصاً لإسرائيل من الكثيرين الذين يتشدقون اليوم بأدوارهم في مولد الدولة اليهودية).

[24] ـ عن مقال ج. ميرسكي في نشرة (وكالة أبناء نوفوستي السوفييتية الحكومية ليوم 28 أيلول 1966. راجع (النهار) اللبنانية، العدد رقم 9456  تاريخ 30 أيلول 1966.

ـ أرشيف الكتب حتى تاريخ 31 / 05 / 2004السابقأعلى الصفحة

 

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ