الحرية
والعدالة
في
الشرق الأوسط الجديد
(3)
عن
الشؤون الخارجية
أيار/
حزيران 2005
برنارد
لويس
ترجمة
: قسم الترجمة / مركز الشرق
العربي
النظرية في مقابل التاريخ:
تصر التقاليد الإسلامية بقوة
كبيرة على نقطتين تتعلقان
بإدارة الحكومة من قبل الحاكم.
الأولى هي الحاجة إلى الشورى،
وهذا موصى به بشكل واضح في
القرآن. كما أنه مذكور كثيراً
جداً في أحاديث النبي. ومقابله
الاستبداد، والاستبداد تعبير
تكنيكي أو محتويات سلبية تماماً.
وينظر إليه على أنه شيء شرير
وآثم، وأن اتهام حاكم ما
بالاستبداد هو عملياً دعوة إلى
خلعه.
مع من ينبغي على الحاكم أن
يتشاور؟ بالمارسة العملية، مع
مجموعة مختارة في المجتمع. في
الأزمان الأولى، كان التشاور مع
زعماء القبائل هاماً، وبقي كذلك
في بعض الأماكن. على سبيل
المثال، في السعودية العربية
وفي أجزاء من العراق (ولكن بنسبة
أقل في الدول المتمدنة من مثل
مصر أو سورية). يتشاور الحكام
كذلك مع النبلاء الريفيين في
الريف، وهي جماعة قوية جداً، مع
جماعات مختلفة في المدينة: تجار
السوق، الكتاب، (الطبقات
المتعلمة غير الدينية، بشكل
رئيسي الموظفين المدنيين)،
والسلطة الدينية، والمؤسسة
العسكرية، بما في ذلك جماعات
الكتائب العسكرية المسيطرة
لوقت طويل من مثل الانكشاريين
في الامبراطورية العثمانية. لقد
كانت أهمية هذه الجماعات قبل كل
شيء أن لديهم قوة حقيقية. لقد
كان بإمكانهم، وفي بعض الأحيان
كانوا يقومون بإثارة المشاكل
للحاكم، بل وحتى خلعه. كذلك فإن
زعماء الجماعات، رؤساء
القبائل، ونبلاء الريف،
والزعماء الدينيين، رؤساء
النقابات، أو قادة القوات
المسلحة، لم يكونوا يعينون من
قبل الحاكم بل كانوا يأتون من
داخل الجماعات.
إن الشورى جزء جوهري من النظام
الإسلامي التقليدي، ولكنها
ليست العنصر الوحيد الذي
يمكن عبره تقييد سلطة الحاكم. إن
النظام التقليدي للحكومة
الإسلامية يجمع بين كل من كونه
توافقياً وتعاقدياً. وتؤكد
إرشادات القانون المقدس عموماً
على أن الخليفة الجديد، رئيس
المجتمع الإسلامي والدولة،
ينبغي أن يكون مختاراً. التعبير
العربي المستخدم يترجم أحياناً
بـ(منتخباً). ولكنها لا توحي
بانتخاب عام أو حتى جزئي، إنها
تشير بالأحرى إلى
جماعة صغيرة من الناس
الملائمين، الأكفاء، يقومون
باختيار خليفة الحاكم. كمبدأ
فإن الخلافة الوراثية مرفوضة في
التعاليم الشرعية. إلا أنه في
الممارسة كانت الخلافة دائماً
وراثية، إلا عندما تقطع الوراثة
بالتمرد أو الحرب الأهلية، لقد
كان، وفي معظم الأماكن مايزال
أمراً عادياً أن يقوم الحاكم،
ملك أو غيره، بتعيين خليفته.
ولكن عنصر الموافقة مايزال
هاماً، في النظرية، وفي بعض
الأحيان حتى في الممارسة، تعتمد
سلطة الحاكم على موافقة
المحكومين في كل من الحصول على
السلطة والمحافظة عليها، إن أسس
سلطة الحاكم يطلق عليها في
المقالات الكلاسيكية كلمة (البيعة)
العربية وهو تعبير يترجم عادة
بـ(الولاء) في الرعايا الذين
يقدمون الولاء لحاكمهم الجديد.
ولكن الترجمة الأدق لكلمة بيعة،
والتي تأتي من فعل يعني (أن يبيع
ويشتري)، ستكون (معاملة) بكلمة
أخرى عقد بين الحاكم والمحكوم
لكل منهما التزامات فيه.
قد تشير بعض الانتقادات إلى أنه
بغض النظر عن النظرية، ففي
الواقع فإن نموذج الحكومة
الاعتباطية، والمستبدة هو
علامة للشرق الأوسط بأكمله
ولأجزاء العالم الإسلامي
الأخرى. في حين يذهب البعض إلى
مدى أبعد بالقول، ما هو الذي كان
المسلمون عليه؟ هذا ما كانوا
عليه دائماً (ولا شيء يستطيع
الغرب فعله حيال ذلك). هذه قراءة
خاطئة للتاريخ، فإن على المرء
أن ينظر إلى الخلف قليلاً ليرى
الكيفية التي وصلت بها الحكومة
إلى حالتها الحالية.
لقد حدث التغيير على مرحلتين.
المرحلة الأولى بدأت مع هجوم
بونابرت واستمرت عبر القرنين
التاسع عشر والعشرين عندما كان
حكام الشرق الأوسط يدركون بألم
الحاجة إلى اللحاق بالعالم
الحديث، وحاولوا تحديث
مجتمعاتهم بدء بحكوماتهم. لم
تنفذ هذه التغييرات على الأرجح
من قبل الحكام الامبرياليين،
والذين يميلون لأن يكونوا
محافظين بحذر، بل من قبل الحكام
المحليين سلاطين تركيا،
والباشوات وخديوي مصر، وشاهات
فارس، بأحسن النوايا ولكن
بنتائج كارثية.
التحديث يعني التعرف على الأنظمة
الغربية في الاتصالات، والحرب،
والحكم وهو حتماً يشتمل أدوات
الهيمنة والقمع. وتزداد سلطة
الحكومة بشكل كبير مع تبني
أدوات السيطرة والمراقبة
والتنفيذ إلى درجة كبيرة وراء
مقدرات الزعماء الأوائل، لذلك
فإنه مع نهاية القرن العشرين
فإن أي حاكم ضعيف لدولة صغيرة أو
حتى لشبه دولة لديه أعظم مما كان
يتمتع به الأباطرة والسلاطين
العظام في الماضي.
ولكن قد تكون النتيجة الأسوأ
للتحديث إلغاء القوى الوسيطة في
المجتمع.. نبلاء الملاك، وتجار
المدينة، ورؤساء القبائل،
وآخرون.. والذين قيدوا في النظام
التقليدي من سلطة الدولة. لقد تم
إضعاف القوى الوسيطة وتم التخلص
من معظمها، لذلك فمن جهة كانت
الدولة تصبح أقوى وأكثر نفوذاً،
ومن جهة أخرى كانت القيود
والتحكمات آخذة في الانخفاض.
هذه العملية موصوفة ومجسدة من
قبل أحد أفضل كتاب القرن التاسع
عشر في الشرق الأوسط، الضابط
البحري البريطاني أدولفس سليد،
والذي ألحق كمستشار بالأسطول
التركي وقضى معظم حياته المهنية
هناك. وهو يصف هذه العملية بصور
نابضة بالحياة. كما أنه يناقش ما
يدعوه بالنبلاء القدامى وبشكل
رئيسي النبلاء ملاك الأراضي،
وبرجوازيي المدينة، والنبلاء
الجدد، والذي هم جزء من الدولة
ويستمدون سلطتهم من الحاكم لا
من شعبهم هم. (لقد عاش النبلاء
القدامى على ملكيتهم) كما
يستنتج. (إن الدولة هي ملكية
النبلاء الجدد). هذه حقيقة
بليغة، وفي ضوء التطورات
اللاحقة والحالية، فإنها صياغة
فيها بصيرة لافتة.
المرحلة التالية من الصعود
السياسي في الشرق الأوسط لا
يمكن تأريخها بدقة. ففي عام 1940
استسلمت الحكومة الفرنسية
للألمان النازيين، وتم تشكيل
حكومة جديدة متعاونة مع العدو
وتم تأسيسها في منتجع يدعى
فيتشي. وانتقل العقيد (شارل
ديغول) إلى لندن وكون لجنة
فرنسية حرة. لقد كانت
الامبراطورية الفرنسية بعيدة
عن الألمان تلك المرحلة، وكان
حكام المستعمرات الفرنسية
والدول التابعة لفرنسا أحراراً
في اتخاذ القرار: فقد كان
بإمكانهم إما أن يبقوا مع فيتشي
أو أو يحتشدوا حول ديغول. وكانت
فيتشي اختيار معظمهم، وبشكل خاص
حكام الأراضي المنتدبة من قبل
فرنسا في كل من سورية ولبنان، في
قلب الشرق العربي. إن ذلك يعني
أن سورية ولبنان كانا مفتوحين
على مصراعهما للنازيين، الذين
تحركوا وجعلوا منهما القاعدة
الرئيسية لنشر أفكارهم ونشاطهم
في العالم العربي.
لقد كان هذا هو الوقت الذي وضعت
فيه الأساسات الايديولوجية لما
أصبح بعد ذلك حزب البعث، مع
اقتباس الفكر النازي وأساليب
الوضع الشرق أوسطي. وقد أكدت
ثقافة الحزب الناشئ على فكر
العروبة، والقومية، وصيغة
الاشتراكية. ولم ينشئ الحزب
رسمياً حتى نيسان 1947، ولكن
مذكرات عن ذلك التاريخ ومصادر
أخرى تظهر أن الفترة النازية هي
زمن مبدئها. من سورية أنشأ
الألمان والبعثيون الأوائل
نظاماً موالياً للنازية في
العراق بقيادة المشهور، سيئ
الذكر، رشيد عالي الكيلاني.
وقد تمت الإطاحة بنظام رشيد عالي
في العراق من قبل البريطانيين
بعد حملة عسكرية مقتضبة في
أيارـ حزيران 1941. وذهب رشيد إلى
برلين، حيث أمضى مدة الحرب
الباقية كضيف على هتلر مع صديقه
مفتي القدس الحاج أمين الحسيني.
وقد تحركت القوات الفرنسية
الحرة حينها والبريطانية إلى
سورية، وحولوها إلى الحكم
الديغولي. في السنوات التالية
لنهاية الحرب العالمية
الثانية، غادر البريطانيون
والفرنسيون، وبعد فترة قصيرة
تحرك السوفيات.
وتحول قادة حزب البعث بسهولة من
النموذج النازي إلى النموذج
الشيوعي، واحتاجوا فقط إلى
تعديلات صغيرة. لقد كان هذا
حزباً لا بالمعنى الغربي لمنظمة
تم بناؤها للفوز بالأصوات
والانتخابات. لقد كان حزباً
بالمعنى النازي والشيوعي، جزء
من جهاز حكومي معني على نحو خاص
بالعقيدة، والمراقبة، والقمع.
وقد استمر حزب البعث في سورية
وحزب البعث المنشق في العراق
بالعمل على هذه الخطوط. منذ عام
1940 ومرة أخرى بعد وصول
السوفيات، استورد الشرق الأوسط
بشكل أساسي النماذج الأوربية في
الحكم: الفاشية، والنازية،
والشيوعية. ولكن الحديث عن
الدكتاتورية باعتبارها الطريقة
الأزلية للقيام بالأمور في هذا
الجزء من العالم هو ببساطة ليس
صحيحاً. إنه يظهر تجاهلاً لماضي
العرب، وازدراء لحاضرهم، وعدم
اهتمام بمستقبل العرب. إن نوعية
النظام التي احتفظ بها صدام
حسين، والتي يستمر بالاحتفاظ
بها بعض الحكام الآخرين في
العالم الإسلامي، حديثة. في
الحقيقة إنها الأحدث، وهي دخيلة
تماماً على الحضارة الإسلامية.
إن هناك أحكاماً أقدم وتقاليد
تستطيع شعوب الشرق الأوسط
البناء على أساسها.
-----------------
نشرنا
لهذه المقالات لا يعني أنها
تعبر عن وجهة نظر المركز كلياً
أو جزئياً
|