ــ
الحوار
.. والجدل .. والمفاوضات
صبحي
غندور*
كلمة )الحوار( تعيش مجدها
اللفظي في كثير من البقاع
العربية هذه الأيام.
قبل 18 سنة تقريباً
حينما صدرت مجلة "الحوار"
في واشنطن، كانت هذه الكلمة غير
محبوبة عربياً لا من قبل
الحكومات، ولا من قبل المنظمات
السياسية المعارضة. فالحكومات
كانت تعتبر (الحوار) مدخلاً
لعملية ديمقراطية لا تريدها في
أوطانها، كما أنّ )الحوار( يعني اعترافاً
بوجود رأي آخر غير رأي الحاكم
الذي يفترض أن يكون هو الأصحّ
دوماً(!).
أمّا المنظمات
السياسية المعارضة، فكانت تنظر
بعين الارتياب إلى كلمة (الحوار)
لأنّ فيها إمكانات التنازل عمّا
لديها من أفكار وبرامج عمل
وأساليب عنفية في بعض الأحيان.
فلا الحاكم كان
يرغب بمشاركة أحد معه في الحكم
أو في صنع القرار الوطني، ولا
المعارض كان يرى مجالاً
للمساومة على برنامجه الثوري
وأسلوبه في العمل.
المشكلة لم تكن
فقط بين "الحاكم" و"المعارض"،
بل كانت أيضاً داخل "الحكم"
وداخل "المعارضة"، حيث لا
مجال لتعدّدية الرأي بشكل حرٍّ
وصريح في أيٍّ من "المعسكرين".
هذا زمانٌ قد ولّى
الآن. فمتغيّرات كثيرة حدثت في
العقدين الماضيين على المستوى
العالمي وداخل البلاد العربية.
ولعبت، ولا تزال، وسائل
الأنترنت والإعلام الفضائي
دوراً كبيراً في التواصل بين
الأفراد والجماعات والشعوب.
لكن المنطقة
العربية انتقلت من حال تجاهل
كلمة (الحوار) إلى حال استهلاك
عشوائي شديد لها أفقدها معناها
الحقيقي.
فالحديث يكثر
الآن عن "حوار لبناني"
مطلوب بين الأطراف الحاكمة
والمعارضة لها. كذلك هو الأمر في
الساحة الفلسطينية وفي العراق
وفي السودان وفي الصومال وفي
أماكن عربية أخرى، دون الإدراك
أنّ المطلوب لحل هذه الأزمات
السياسية القائمة هو التفاوض أو
الجدل، وليس أسلوب الحوار فقط.
فالحوار هو أسلوب
يحدث في التعامل بين الأفراد
والجماعات من أجل التعارف مع
الآخر وفهم هذا "الآخر"،
لكن لا بالضرورة للتوصّل معه
إلى مرحلة التفاهم والتوافق.
الحوار هو تعبير
عن الاعتراف بوجود "الآخر"
وعن حقّه بالمشاركة في الرأي،
لكن ليس إلى مرحلة المشاركة
بالقرار.
فهل تحتاج
الأطراف السياسية المتنازعة في
الأزمات العربية القائمة الآن
إلى هذا المفهوم عن التعامل
الحواري؟ وهل يجهل أصلاً كل طرف
من هذه الأطراف ماهيّة الرأي
الآخر؟ فالفرق
كبير بين الحوار والتفاوض، وبين
الحوار والجدل.
الحوار هو أسلوب
مكاشفة ومصارحة وتعريف بما لدى
طرف ما، دون شرط التوصّل إلى
اتفاق مع "الآخر"، وأيضاً دون
مدًى زمني محدّد لهذا الحوار.
أمّا التفاوض فهو ينطلق من
معرفة مسبَقة بما يريده الآخر،
لكن في إطار المحادثات التي
تستهدف مسبقاً الحصول على مكاسب
في جانب مقابل تنازلات في جانب
آخر. أي أنّ كلّ طرف مفاوض يكسب
ويتنازل في الوقت نفسه.
أمّا الحوار،
فليس فيه مكاسب أو تنازلات، بل
هو تفاعل معرفي فيه عرض لرأي
الذات وطلب لاستيضاح رأي من
الآخر دون شرط التوصّل إلى
نتيجة مشتركة.
أمّا الجدل، فهو
تعبير مظلوم في الثقافة العربية
المعاصرة، إذ هو منهج مطلوب
ومهم إذا أحسن الأفراد أو
الجماعات معرفة متى وكيف
يُستخدم.
الجدل هو التقاء
نقيضين وتفاعلهما في محتوى (أو
موضوع) واحد، وبظروف معيّنة
وبزمان محدّد، وتخرج حصيلة هذا
التفاعل نتيجة جديدة بديلة عن
النقيضين. فهو منهج علمي من جهة،
وهو أسلوب تعامل بين البشر من
جهة أخرى.
الجدل في أحد
أوجهه، هو حوار حول موضوع محدّد
لكن بشرط التوصّل إلى نتيجة
مشتركة جديدة في زمان محدّد
أيضاً.
ولعلّ الآية
القرآنية التي وردت في سورة
المجادلة، عن المرأة التي جاءت
تشتكي زوجها إلى النبيّ، فيها
هذا التمييز الواضح ما بين
الحوار والجدل:
"قد سمعَ اللهُ
قولَ التي تجادلك في زوجها
وتشتكي إلى الله واللهُ يسمعُ
تحاورَكما. إنّ الله سميع بصير".
(سورة المجادلة/ الآية 1).
فالله عزَّ وجلَّ
وصف، ما جرى بين النبيّ والمرأة
المشتكية زوجها، بأنّه حوار حيث
أنّ النتيجة التي كانت تطالب
بها المرأة (في مجادلتها) هي عند
الله سبحانه وتعالى الذي أعلم
رسوله بالإجابة على شكوى المرأة.
لذلك، يكون الجدل
هو حوار مشروط بالتوصّل إلى
نتيجة صحيحة حاسمة، لكن الجدل
لا يكون مفيداً إذا لم تتوفّر
الموافقة عليه، والقدرة على
أدائه، من كل الأطراف المعنية
فيه.
ونجد هذا الخلط
العجيب بين الحوار والجدل، و"المسرحيات"
أيضاً، في عدد لا بأس فيه من
البرامج الحوارية الإذاعية
والتلفزيونية، حيث المتوجّب في
هذه البرامج هو الحوارات
الجادّة التي لا تشترط من طرف
الموافقة على رأي الطرف الآخر،
وتبقي الاختلاف في حدود الآراء
بحيث لا تتحوّل إلى خلاف بين
الأشخاص.
والبلاد العربية
هي في حاجة قصوى الآن لكلّ هذه
المفاهيم معاً. هي بحاجة للحوار
كأسلوب داخل العائلة الواحدة،
كما أنّ العائلة بحاجة للجدل
أحياناً لحسم بعض الأمور على
أسس سليمة . الأوطان العربية
بحاجة إلى حوار داخل شعوبها
ومؤسساتها المدنية وبين دعاة
الفكر والدين والثقافة، لكن
بعضها (أي بعض البلاد العربية)،
وعلى الأخصّ تلك التي تشهد الآن
أزمات سياسية خانقة، يحتاج
أيضاً إلى مفاوضات بين الأطراف
المتنازعة، لا إلى أسلوب الحوار
فقط، وصولاً إلى وفاق وطني
يميّز أيضاً بين الاختلاف
السياسي المرغوب والخلاف
المسلّح المرفوض.
ومن الأمور
الخطيرة التي تحدث الآن في
المنطقة العربية، هذه النظرة
المعكوسة لمسألتي الهويّة
والتعدّدية السياسية. فالهويّة
الواحدة على المستويين الوطني
والقومي أصبحت هُويّات متناقضة
ومبعثرة ومنشغَلاً بها من أجل
مزيد من الشرذمة والصراعات، في
حين يضيّق الخناق على التعدّدية
السياسية لصالح أطر فئوية
ومذهبية تحتكر التمثيل والعمل
السياسي باسم الطائفة أو المذهب
على حساب وحدة الهوية الوطنية
ومبدأ التعدّدية السياسية في
الوطن الواحد.
فالجدل مطلوب
الآن داخل الأمَّة العربية حول
موضوع الهوية الوطنية وضرورة
حسم ذلك لصالح وحدة الهوية
المشتركة بين العرب، بغض النظر
عن اختلافاتهم الفكرية
والسياسية، وعن خصوصياتهم
الوطنية والدينية والإثنية.
فالعرب يشتركون في ثقافة عربية
واحدة لا تقوم على أصل عنصري ولا
يختصّ بها أبناء دين دون آخر..
ثقافة عربية هي الآن الرمز
الوحيد الباقي فاعلاً للتعبير
عن انتماء العرب إلى أمّةٍ
واحدة قامت
على مضمون حضاري واحد.
والحوار مطلوب
الآن داخل كل بلد عربي حول صيغ
التعايش المشترك بين أبناء
الشعب الواحد والحفاظ على
التعدّدية الفكرية والعقيدية
والسياسية في المجتمع الواحد ..
والتفاوض مطلوب
الآن بين الأطراف المتصارعة (على
المستويين الإقليمي والمحلي) في
أكثر من ساحة عربية ساخنة من أجل
إنهاء العنف المسلّح أو لدرء
استخدامه كأسلوب لحل الصراعات
الداخلية، تسديداً لفاتورة
متوجبة في حساب التفاوض الضمني
الحاصل مع القوى الأجنبية!.
*مدير
"مركز الحوار العربي" في
واشنطن
alhewar@alhewar.com
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|