ــ
احتكار
السلطة انتقاص لحق المواطن ....
واعتقاله
جريمة
الطاهر
إبراهيم*
عندما تتفرد أي سلطة في الحكم
وتستبعد منه من خالفها في
الرؤية والأيديولوجيا، فهي في
ذلك كأنما تجعل رموزها
ومحازبيها فوق سوية باقي
المواطنين. وتعتبر هؤلاء خلقا
آخر ليس لهم من الحقوق ما لرموز
هذه السلطة. عندها يتحول
المواطن –في نظر الحاكم- إلى
قطعة في ماكينة الإنتاج ليس له
إلا أن يدور وفق ما تبرمجه به
هذه السلطة. وإذا كان ذلك كذلك!
فمن أين أخذ هؤلاء الحكام هذه
المكانة؟ وهل جاء ذلك نتيجةً
لسمو في صفات معدن الحاكم عن
معادن باقي المواطنين؟ أم أن
هناك شيئا آخر؟
ومن عجيب هذه القضية أنها نشأت في
غير البيئة المتوقع أن تنشأ
فيها. إذ بدأت في الدول الشمولية
ذات الحزب الواحد مثل دول
المعسكر الاشتراكي، ثم تابعتها
في ذلك دول عربية نسجت على منوال
الاتحاد السوفياتي. وكان القياس
أن تكون السلطة في متناول
المواطنين جميعا، إذا أن
النظرية الشيوعية بنت مبادئها
على الانتصار للعمال والطبقة
الفقيرة. غير أن هذه النظرية
انقلبت إلى سلطة جبرية متسلطة
قمعية، طاردت واعتقلت وأعدمت كل
من وقف في وجها على أنه عدو
للشعب.
ولقد عملت الولايات المتحدة على
تفكيك الأنظمة الشمولية في
أوروبا الشرقية بعد أن وصل "ميخائيل
غورباتشوف" إلى قمة الهرم
السوفياتي حيث دعا إلى مشاركة
أكثر للمواطنين في الحكم من
خلال نظرية "البريستوريكا"،
ما أدى إلى زعزعة استقرار دول
أوروبا الشرقية، حيث كانت
شعوبها ساخطة على تسلط الأحزاب
الشيوعية المدعومة من الاتحاد
السوفياتي. فهُدِم جدار برلين
رمز التسلط الشيوعي، وأقصيت
الأحزاب الشيوعية عن الحكم في
أوروبا الشرقية ثم لينهار بعدها
الاتحاد السوفياتي إلى
مكوناته العرقية الأساسية.
لكن واشنطن التي ساهمت في إنهاء
التسلط الشيوعي في الدول
الأوروبية الشرقية، سلكت طريقا
آخر مع الدول العربية ذات
الأنظمة الشمولية. إذ أنها دعمت
تلك الأنظمة، وأمدتها بما
تحتاجه من مقومات البقاء في
السلطة، وزودتها بمعلومات
استخبارية، كانت الأنظمة بحاجة
إليها لإفشال الحركات
الانقلابية التي كانت تستهدف
قادة الأنظمة.
وفي المقابل فإن الأنظمة
الشمولية "لم تقصّر" مع
واشنطن، فنكلت بالحركات
الإسلامية التي تعتبرها أمريكا
العقبة الأساسية في طريق
التطبيع مع إسرائيل. العجيب أن
واشنطن كانت تحرّض الأنظمة ضد
حركات إسلامية معتدلة أعلنت
أنها تنبذ العنف وتؤمن
بالتعددية ومبدأ تداول السلطة
عن طريق صناديق الاقتراع، أي
بالديمقراطية التي تدعو لها
واشنطن.
كنا نود لو نصدق الحكومات
الانقلابية المتعاقبة التي
كانت في كل انقلاب تعلن في
البلاغ الرقم "واحد" أنها
قامت لتخليص البلاد والعباد من
حكم القمع والاستبداد والفساد
والرشوة والمحسوبية. طبعا فإن
هذه الماركة المسجلة كانت سائدة
فعلا في عهد الحكم السابق الذي
أطيح به. لكن يا للأسف لم يأت
انقلاب وفّى بالوعود التي قطعها
على نفسه، ولم يحارب ما وعد
بالقضاء عليه، بل تشبث بالسلطة
كما فعل من سبقه.
وإذا كان المشير "عبد الرحمن
سوار الذهب"، الذي قاد
انقلابا على "جعفر نميري"،
دكتاتور السودان الأسبق في عام
1985 ، قد ترك الحكم لحكومة مدنية
جاءت عن طريق صناديق الاقتراع
الحر، فإن ذلك من الشواذ الذي
يؤكد القاعدة.
على أنه ينبغي أن لا نجعل من
واشنطن مشجبا نعلق عليه أخطاء
الأنظمة الشمولية. فما لا شك فيه
أن الطبيعة الانغلاقية لهذه
الأنظمة، جعلتها لا تثق إلا
بالخلّص من المقربين إليها.
وهذا أحد أهم أسبابه هو حرص هذه
الأنظمة على احتكار السلطة،
وأنها لو أرخت الحبل قليلا لطمع
فيها من يتربص بها الدوائر، أو
هكذا تظن.
هذا المنزلق الخطير جعل هذه
الأنظمة تلجأ إلى قوانين
الطوارئ، لسد ذرائع كل من يحاول
الاقتراب من المنطقة الحرام
ألاوهي السلطة. وقد دفعها الحرص
والتشبث بالسلطة لتتجاوز
المنطقة الحرام في حياة
الإنسان، التي كفلت القوانين
احترامها وتجريم الأفعال التي
تنافيها، ألاوهي الاعتقال
والتشريد ومصادرة أموال -وربما
قتل- المعارضين، وأخذهم بالشبهة
في أكثر الحالات. يتم ذلك في ظل
دساتير معتمدة في دول هذه
الأنظمة، تم النص فيها بشكل
واضح على تجريم أي مساس بالحقوق
الشخصية، حيث لا يجوز الاعتقال
إلا بجريمة، ولا جريمة إلا
ببينة، ما يعني في هذه الحالة أن
الاعتقال من دون جريمة هو
الجريمة.
وإذا كانت الأنظمة الشمولية ركزت
ملاحقاتها على الإسلاميين، فإن
المعارضين اليساريين والقوميين
لم يسلموا من الملاحقة
والاعتقال والتشريد. غير أنه ما
كان واضحا ولافتا للنظر أن
الأنظمة نصت في قوانينها على
منع قيام أحزاب على أساس ديني،
مع أن ذلك يصطدم مع المادة
الأولى أو الثانية في دساتير
الدول التي تنص على أن الإسلام
هو دين الدولة وأن الشريعة مصدر
رئيسي للتشريع. بل إن بعض
الأنظمة أصدرت قوانين تحظر
الانتماء إلى جماعات إسلامية
تحت طائلة الحكم بالإعدام.
مالا يستطيع المواطن فهمه هو كيف
يمكن التعايش بين أنظمة وشعوبها
في وقت يتم إقصاء هذه الشعوب عن
المشاركة في الحكم؟ وإلى متى
يستقيم هذا الأمر المناقض لأبسط
مبادئ
التعايش الذي هو أساس الاستقرار
في الدول؟ وإذا كنا أشرنا في
المقدمة إلى غرابة حصر السلطة
بأيدي فئة من الناس واستبعاد
باقي مكونات الشعب، فإن هذا
الاستبعاد من الخطورة بمكان
بحيث أن المستبعدين يصبحون
مستعبدين بعد أن سلبوا حرية
الاختيار، ما يجعلهم
خارج القوة التي يطلب منها
أن تدافع عن الوطن في وجه أي
عدوان خارجي.
وفي هذا السياق فقد قرأنا في
ملحمة الفارس العربي "عنتر بن
شداد" الذي رفض أبوه شداد
إلحاقه بنسبه بسبب لونه. وعندما
هوجمت قبيلته دعاه والده للكر
على الغزاة، فقال عنترة: العبد
لايحسن الكر. عندها قال له أبوه
شداد الكلمة التي لا تزال ترن في
الآذان حتى الآن: "كر وأنت حر".
فهل يستوعب هذه الحكمة، حكامنا
العرب الذين يصرون على استبعاد شعوبهم
عن معادلة الحكم؟
*كاتب سوري
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|