ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الاثنين 05/03/2007


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

مشاركات

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


ــ

رحيل إلى الحقيقة

دكتور عثمان قدري مكانسي

رفعت سماعة الهاتف بعد أن رن ثلاثاً وسلمت على المتصل قبل أن أعرفه ، فهذا دأب المسلم  ، علمنيه إخواني الذين أنتسب إليهم قلباً وعقلاً وعاطفة ، وهذا أدب المسلم  الذي يزرع السلام في أسماع إخوانه وأهله  ليكون السلام الحق سبحانه هو عمادَ الحب بين الجميع .. فيأتيني صوت الأخ أبي أنس – طعمة حفظه الله تعالى على غير عادته  يحمل في طياته الحزن والألم – حتى كدت أنكره – رحل الأستاذ أبو محمود الحسناوي إلى رحاب الله تعالى قبل قليل ، فهلم إلى دار الأستاذ أبي أسامة .

أسرعت إلى دار أبي أسامة وطرقت بابه وشيء يمنعني أن أنظر إلى باب الدار المقابلة له  فصاحبها ليس فيها – بكل تأكيد ، ولن يدخلها بعد الآن أبداً ، فهو مسجى في إحدى غرف المستشفى القريبة تنتظر أن يأتي دورها في تهيئة جسده الطاهر لنصلي عليه في مسجد الجامعة بعد صلاة العصر ، ومن ثّم نواري جثته مثواها الأخير .

يا ألله ماهذه الدنيا السريعة التقلب ، وكيف تتغير الأمور دون أن نشعر بتقلباتها ؟! أهكذا يرحل الإنسان ويترك كل شيء دون وداع ؟! بالأمس ويوم الجمعة الفائت كنا نفطر في بيته . فقد دعانا قبل الموعد بثلاثين ساعة فقط قائلاً : هذه أم أحمد قد جهزت لكم الفول يا أبا حسان فأنا أعرف أنك تفضله على غيره صباح الجمعة ، فقلت له ضاحكاً بل كل صباح يا أستاذ .. ويقول لأبي إبراهيم الواكي أما أنت فتفضل " المأمونيّة " أليس كذلك ؟ قال : لا أوفر شيئاً يا أبا محمود . أما أبو معاذ الطويل الذي سافر في اليوم التالي إلى أسبانيا فهو يحب الكبة المقلية ، وأبو أنس وأبو بسام يعجبهما " البيتزا الإيطالية ...  ولكل ما يريد ..

كان الأستاذ أبو محمود أخاً كبيراً للجميع يحوطهم – على ضعفه وهزال جسمه – فقد ابتلي بالفشل الكلوي الذي أنهكه – بعطفه وحبه ولطافته المعهودة . يزورنا ، ويسأل عنا ، ولا يتأخر عن زيارة إخوانه صغيرهم وكبيرهم ، ويسارع إلى السؤال عنهم . وكثيراً ما تجده يتأبط كتاباً تربوياً يتحف به إخوانه ، ويذكرهم بالدعوة ، ويتابعهم في الطريق المرسوم الذي أخذوا أنفسهم به سعداء راضين راغبين في رضاء الله والجنة . وكان في السنتين الأخيرتين يقرأ لنا من كتاب " مدارج السالكين " ويشرح معانيه ، ويفصل فيه ويخوض في كنوزه .

وكان رحمه الله تعالى مثال الداعية الخلوق يفيض من أدبه  وعلمه على جلسائه وإخوانه ما يثبت به القلوب ، ويعمر الفكر والجوانح بالفكرة الصائبة والموقف التربوي الناجح مما جعله قريباً إليهم  ،حبيباً إلى نفوسهم ، أثيراً لديهم  ، وهذا سمته في كل حين رحمه الله تعالى .

كان الأستاذ عبد الله  الطنطاوي – أبو أسامة – حفظه الله  وأبو محمود الحسناوي رحمه الله رفيقين منذ خمسين عاماً . عرفتهما في حلب أخوين متلازمين لا يفترقان إلا ليلتقيا مرة أخرى . وشاء الله أن يجمعهما في غربتهما القسرية  بعيدين عن حلب – في سبيل الله – طوال عقدين من الزمن  في بيتين متقابلين يخرجان ويعودان معاً ، فتراهما يلتقيان الأصدقاء والإخوان والخلان – في أكثر الأحيان – مشتركين لا يمل أحدهما الآخر بل تقوى الآصرة بينهما وتزيد متانة وألفة وحباً .

دخلت لأرى أبا أسامة جلداً بحزن ، ثابتاً باضطراب ، مبتسماً بألم  ، متكلماً بأسى وإشفاق ، لكنه راض بقدر الله تعالى الذي يفعل ما يشاء ، وأرى الأخ زهيراً صنو روحي وأنيس قلبي قد سبقني إليه فيستقبلني حين رآني بعينين دامعتين وقلب خافق ، ونشيج خافت يرتفع قليلاُ حين يراني ، فأعتنقه لأشعر بنبضات قلبه المحبة الحنون تحمل إليّ أنين الأخ الفارس الذي ارتفع أحد رفاق دربه إلى رحمة الله ، فحنّ إليه ولمّا يبتعد .

ويتوالى الأحباب إلى بيت التوأم الذي فقد قسيمه  ، يجتمعون لينطلقوا بعد صلاة العصر إلى المسجد الجامع  يصلون على الفقيد ، ثم يشيعونه  إلى المقبرة حيث كنا نرورها في أوقات متقاربة نرقق فيها قلوبنا ، ونذكر أنفسنا بأن المآل إليها لا بد منه  قريباً أو بعيداً  ، وأذكر أننا كنا قبل أسبوعين صباح الجمعة ندخل إحدى المقابر نعيش مع أصحابها نقول لهم ما قاله الرسول الحبيب صلوات الله وسلامه عليه : السلام عليكم دار قوم مؤمنين ، أنت السابقون ، ونحن بكم إن شاء الله لاحقون ، ونقرأ سورة يس وغيرها ثم ننطلق عائدين ، وكنا نعلم أننا سنزور إحداها قريباً ، ولكن لم يدر بخلدي أن أحدنا سيكون من أهلها بعد أيام قليلة .

حين عدت من الولايات المتحدة الأمريكية بعد غياب سنة وثصف السنة وكان غياباً لم أستطع هضمه ، وأنى لرجل عاش في الجو الأخوي طوال سنيّ عمره أن يتأقلم في جو غريب عنه ماديّ كئيب ! قال لي أبو محمود : لقد قلت إنك لن تستطيع هناك صبراً ، وكيف تصبر على فراق الأحباب الذين اعتدتَهم ، والعادات الأصيلة التي امتزجتها ؟؟ وكان بعضهم يقول : إن أمريكا ببهرجها اجتذبك يا أبا حسان ، ولن تعود . فأجيب لالا سيعود أبو حسان فأنا أعرفه . لا يعرف أبو حسان العوم إلا هنا ، ولا السير إلا في البلاد الإسلامية العربية خاصة . فقلت له : صدق ظنك يا سيدي .. من ذاق عرف .

كان يهيم في الأناشيد الدينية والمدائح النبوية ويردد - مغمض العينين - مع المنشد مدائحه ويتواجد مصلياً على النبي الكريم ، وعيناه مغرورقتان بالدموع يسأل الله تعالى عفواً وغفراناً . فإذا بدأ أحدهم يصدح بالمدائح ترك أبو محمود حديثه أو تأملاته وتابع المنشد يتألق في المعاني ويشارك في النغم .  وكان ذا صوت هادئ ناعم مقبول .

كنا نراه بعد أن أصيب بالفشل الكلوي يذبل يوماً فيوماً ، ولكنه كان صابراً محتسباً ، يحمد الله تعالى في السراء والضراء .. ولم يتغيب عن لقاء ولو تأخر لأمر ضروري  ، فهو يعتقد أن لقاء الإخوان نعمة ينبغي الحفاظ عليها والتنعّم بها كي يحفظها الله عليه .

رحم الله تعالى أخانا أبا محمود ، فقد كان مثال الأخ الداعية العامل ..

رحمه الله تعالى ورفعه في عليين .

وحشره في زمرة عباده الصالحين ، وحسن إولئك رفيقاً

اللهم لا تحرمنا أجره ، ولا تفتِنّا بعده .

وأحينا سعداء ، وأمتنا شهداء ..

ولا إله إلا الله ، محمد رسول الله .

المشاركات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

الصفحة الرئيسةأعلى الصفحة

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ