ــ
رحيل
إلى الحقيقة
دكتور
عثمان قدري مكانسي
رفعت سماعة الهاتف بعد أن رن
ثلاثاً وسلمت على المتصل قبل أن
أعرفه ، فهذا دأب المسلم ،
علمنيه إخواني الذين أنتسب
إليهم قلباً وعقلاً وعاطفة ،
وهذا أدب المسلم الذي
يزرع السلام في أسماع إخوانه
وأهله ليكون
السلام الحق سبحانه هو عمادَ
الحب بين الجميع .. فيأتيني صوت
الأخ أبي أنس – طعمة حفظه الله
تعالى على غير عادته يحمل
في طياته الحزن والألم – حتى
كدت أنكره – رحل الأستاذ أبو
محمود الحسناوي إلى رحاب الله
تعالى قبل قليل ، فهلم إلى دار
الأستاذ أبي أسامة .
أسرعت إلى دار أبي أسامة وطرقت
بابه وشيء يمنعني أن أنظر إلى
باب الدار المقابلة له
فصاحبها ليس فيها – بكل
تأكيد ، ولن يدخلها بعد الآن
أبداً ، فهو مسجى في إحدى غرف
المستشفى القريبة تنتظر أن يأتي
دورها في تهيئة جسده الطاهر
لنصلي عليه في مسجد الجامعة بعد
صلاة العصر ، ومن ثّم نواري جثته
مثواها الأخير .
يا ألله ماهذه الدنيا السريعة
التقلب ، وكيف تتغير الأمور دون
أن نشعر بتقلباتها ؟! أهكذا يرحل
الإنسان ويترك كل شيء دون وداع ؟!
بالأمس ويوم الجمعة الفائت كنا
نفطر في بيته . فقد دعانا قبل
الموعد بثلاثين ساعة فقط قائلاً
: هذه أم أحمد قد جهزت لكم الفول
يا أبا حسان فأنا أعرف أنك تفضله
على غيره صباح الجمعة ، فقلت له
ضاحكاً بل كل صباح يا أستاذ ..
ويقول لأبي إبراهيم الواكي أما
أنت فتفضل " المأمونيّة "
أليس كذلك ؟ قال : لا أوفر شيئاً
يا أبا محمود . أما أبو معاذ
الطويل الذي سافر في اليوم
التالي إلى أسبانيا فهو يحب
الكبة المقلية ، وأبو أنس وأبو
بسام يعجبهما " البيتزا
الإيطالية ...
ولكل ما يريد ..
كان الأستاذ أبو محمود أخاً
كبيراً للجميع يحوطهم – على
ضعفه وهزال جسمه – فقد ابتلي
بالفشل الكلوي الذي أنهكه –
بعطفه وحبه ولطافته المعهودة .
يزورنا ، ويسأل عنا ، ولا يتأخر
عن زيارة إخوانه صغيرهم وكبيرهم
، ويسارع إلى السؤال عنهم .
وكثيراً ما تجده يتأبط كتاباً
تربوياً يتحف به إخوانه ،
ويذكرهم بالدعوة ، ويتابعهم في
الطريق المرسوم الذي أخذوا
أنفسهم به سعداء راضين راغبين
في رضاء الله والجنة . وكان في
السنتين الأخيرتين يقرأ لنا من
كتاب " مدارج السالكين "
ويشرح معانيه ، ويفصل فيه ويخوض
في كنوزه .
وكان رحمه الله تعالى مثال
الداعية الخلوق يفيض من أدبه
وعلمه على جلسائه وإخوانه
ما يثبت به القلوب ، ويعمر الفكر
والجوانح بالفكرة الصائبة
والموقف التربوي الناجح مما
جعله قريباً إليهم
،حبيباً إلى نفوسهم ،
أثيراً لديهم
، وهذا سمته في كل حين رحمه
الله تعالى .
كان الأستاذ عبد الله
الطنطاوي – أبو أسامة –
حفظه الله وأبو
محمود الحسناوي رحمه الله
رفيقين منذ خمسين عاماً .
عرفتهما في حلب أخوين متلازمين
لا يفترقان إلا ليلتقيا مرة
أخرى . وشاء الله أن يجمعهما في
غربتهما القسرية
بعيدين عن حلب – في سبيل
الله – طوال عقدين من الزمن
في بيتين متقابلين يخرجان
ويعودان معاً ، فتراهما يلتقيان
الأصدقاء والإخوان والخلان –
في أكثر الأحيان – مشتركين لا
يمل أحدهما الآخر بل تقوى
الآصرة بينهما وتزيد متانة
وألفة وحباً .
دخلت لأرى أبا أسامة جلداً بحزن ،
ثابتاً باضطراب ، مبتسماً بألم ،
متكلماً بأسى وإشفاق ، لكنه راض
بقدر الله تعالى الذي يفعل ما
يشاء ، وأرى الأخ زهيراً صنو
روحي وأنيس قلبي قد سبقني إليه
فيستقبلني حين رآني بعينين
دامعتين وقلب خافق ، ونشيج خافت
يرتفع قليلاُ حين يراني ،
فأعتنقه لأشعر بنبضات قلبه
المحبة الحنون تحمل إليّ أنين
الأخ الفارس الذي ارتفع أحد
رفاق دربه إلى رحمة الله ، فحنّ
إليه ولمّا يبتعد .
ويتوالى الأحباب إلى بيت التوأم
الذي فقد قسيمه ،
يجتمعون لينطلقوا بعد صلاة
العصر إلى المسجد الجامع يصلون
على الفقيد ، ثم يشيعونه
إلى المقبرة حيث كنا نرورها
في أوقات متقاربة نرقق فيها
قلوبنا ، ونذكر أنفسنا بأن
المآل إليها لا بد منه
قريباً أو بعيداً
، وأذكر أننا كنا قبل
أسبوعين صباح الجمعة ندخل إحدى
المقابر نعيش مع أصحابها نقول
لهم ما قاله الرسول الحبيب
صلوات الله وسلامه عليه : السلام
عليكم دار قوم مؤمنين ، أنت
السابقون ، ونحن بكم إن شاء الله
لاحقون ، ونقرأ سورة يس وغيرها
ثم ننطلق عائدين ، وكنا نعلم
أننا سنزور إحداها قريباً ،
ولكن لم يدر بخلدي أن أحدنا
سيكون من أهلها بعد أيام قليلة .
حين عدت من الولايات المتحدة
الأمريكية بعد غياب سنة وثصف
السنة وكان غياباً لم أستطع
هضمه ، وأنى لرجل عاش في الجو
الأخوي طوال سنيّ عمره أن
يتأقلم في جو غريب عنه ماديّ
كئيب ! قال لي أبو محمود : لقد قلت
إنك لن تستطيع هناك صبراً ، وكيف
تصبر على فراق الأحباب الذين
اعتدتَهم ، والعادات الأصيلة
التي امتزجتها ؟؟ وكان بعضهم
يقول : إن أمريكا ببهرجها اجتذبك
يا أبا حسان ، ولن تعود . فأجيب
لالا سيعود أبو حسان فأنا أعرفه
. لا يعرف أبو حسان العوم إلا هنا
، ولا السير إلا في البلاد
الإسلامية العربية خاصة . فقلت
له : صدق ظنك يا سيدي .. من ذاق عرف
.
كان يهيم في الأناشيد الدينية
والمدائح النبوية ويردد - مغمض
العينين - مع المنشد مدائحه
ويتواجد مصلياً على النبي
الكريم ، وعيناه مغرورقتان
بالدموع يسأل الله تعالى عفواً
وغفراناً . فإذا بدأ أحدهم يصدح
بالمدائح ترك أبو محمود حديثه
أو تأملاته وتابع المنشد يتألق
في المعاني ويشارك في النغم .
وكان ذا صوت هادئ ناعم مقبول
.
كنا نراه بعد أن أصيب بالفشل
الكلوي يذبل يوماً فيوماً ،
ولكنه كان صابراً محتسباً ،
يحمد الله تعالى في السراء
والضراء .. ولم يتغيب عن لقاء ولو
تأخر لأمر ضروري
، فهو يعتقد أن لقاء الإخوان
نعمة ينبغي الحفاظ عليها
والتنعّم بها كي يحفظها الله
عليه .
رحم الله تعالى أخانا أبا محمود ،
فقد كان مثال الأخ الداعية
العامل ..
رحمه الله تعالى ورفعه في عليين .
وحشره في زمرة عباده الصالحين ،
وحسن إولئك رفيقاً
اللهم لا تحرمنا أجره ، ولا
تفتِنّا بعده .
وأحينا سعداء ، وأمتنا شهداء ..
ولا إله إلا الله ، محمد رسول
الله .
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|