ــ
مات
عظيم من عظماء الأمة
د.
منير محمد الغضبان*
وليس مقياس العظمة في موازين
البشر . إذ قد يكون العظيم رئيسا
أو وزيرا ، تتسابق أجهزة
الإعلام على تصويره ، وأخذ حديث
منه ، وتتداعى وكالات الأنباء
للحديث عن مآثره . وهو لص من لصوص
هذه الأمة ينهب خيراتها ، ويذبح
شعبها ، ويتربع على أشلائها .
إنما حديثي عن العظيم في ميزان
الله الذي يصفه رسول الله صلى
الله عليه وسلم بقوله: " إن
الله لا ينظر إلى صوركم
وأجسادكم ، ولكن ينظر إلى
قلوبكم وأعمالكم "
وفقيدنا الأستاذ محمد الحسناوي
من هذا الطراز
فيوم يأتي الجبارون والطغاة يوم
القيامة كالذر يطؤهم الناس
بأقدامهم . يبرز العظماء الذين
أخلصوا العبودية لله " يوم لا
ينفع مال ولا بنون . إلا من أتى
الله بقلب سليم"
1- مفتاح شخصيته : والذين يعرفون
فقيدنا الحسناوي رحمه الله
يعلمون أن " القلب السليم "
الذي يحمله هو النموذج الحي
القدوة بين إخوانه وأحبابه
وخصومه وذويه .
هذا
" القلب السليم" هو
الذي لا يعرف الأنانية أو الحقد
أو الحسد أو البغض هو مفتاح
شخصيته . ومنه تتفرع مناحي
العظمة عنده
فهو يمارس العمل الدعوي والسياسي
وهو معروف بأنه أحد "
القيادات" العليا في الإخوان
المسلمين في سورية . وفي هذه
المجالات يبرز دائما الخصام
والخلاف ، وإبراز المثالب ،
والتطاحن على الزعامة عند
الكثيرين من العاملين .
والتنافس هو السمة الأبرز بينهم
. غير أن فقيدنا الغالي قد باع
قلبه لله ، ولم يبق منه بقية
لنفسه . فلم يعد يعنيه ما يعني
أمثاله من هذه الصغائر من
الأمور التي يترفع عنها الكبار
من الرجال . ونادر جدا أمثال هذا
الطراز منهم اليوم .
2- خلقه :
وكلما قرأناه في الكتب قديما عن
الأخلاق التي عزت في عصرنا
الحاضر ، والتي نسمع عنها في
الجيل الرائد أيام النبي صلى
الله عليه وسلم ، وهي سمة
المجتمع كله . نراها متمثلة في
فقيدنا العظيم . فكأنما نزع من
ذلك الجيل ليكون بيننا صورة حية
للإيثار والحب والبذل والعطاء .
فجيل الأنصار الذي مثل في
التاريخ جيل البذل الذي يعطي
ولا يأخذ ، ويتلذذ في العطاء "
كأنك تعطيه الذي هو سائله"
دون انتظار لثناء أو سمعة أو شكر
. هو سمة فقيدنا العظيم .
لقد عشنا معه ورأيناه جنديا
وقائدا . فكان عطاؤه في جنديته
يفوق عطاءه في قيادته . وحين
تفقد منه القيادة فيحل مكانه أخ
آخر . لا يضيره أبدا أن يكون في
مؤخرة الركب. وهذا
أشهى عنده من المقدمة وأن
يعمل تحت إمرة من كان تحت إمرته
، بنفس رضية سمحة . يعيد لنا سيرة
ابن الوليد رضي الله عنه القائل
: " والحمد لله الذي ولى عمر
وكان أبغض إلى من أبي بكر وقد
ألزمني حبه "
3- زهده :
وقد انبثق زهده من " قلبه
السليم " مفتاح شخصيته فقد
جاء إلى الدنيا ، وخاض غمارها ،
وخرج منها سليما معافى ، بريئا
منها على سنة الحبيب المصطفى
صلى الله عليه وسلم الذي توفي
ودعه مرهون عند يهودي في قليل من
البُر لعياله .
ومضى الأخ الحبيب الفقيد وليس له
من دنياه شيء . هذا في عالم
المادة . أما في عالم المناصب
والمكاسب فقد كانت المناصب تساق
إليه لثقته إخوانه به . ويقود
العمل الذي يوكل إليه بإخلاص
وحيوية ، وتعاون مع إخوانه ،
بروح الفريق الواحد . ويوحي
لإخوانه دائما أن هذا الإنتاج
هو ثمرة جهودهم جميعا . وحين لا
يكون في موقع القائد لا يضيره
أبدا أن يتابع عمله ويلاحق
مهمته ثم يقال : إن هذا الجهد هو
جهد القائد لا جهده.
لقد اختير واختار أن يكون قائدا
لجهاز التخطيط في الجماعة. هذا
التخطيط الذي لا يظهر على
الأضواء ، ولا يبهر الأنظار .
إنما يعمل من الخلف ليبرز
الإنتاج العظيم إلى الأمام . فلا
يتحدث الناس عن التخطيط ومن قام
به . إنما يتحدثون عن الإنتاج
ومن نفذه. إنه مثل الأساس الذي
يقوم عليه البناء . والأساس
دائما تحت الأرض لا يظهر. وكلما
كان الأساس قويا ، كلما كان
البناء شامخاً عاليا سامقا "
أصلها ثابت وفرعها في السماء"
إنه سعيد بأن يكون هو الأصل
المدفون تحت الأرض ويترك غيره
ليكون الفرع الباسق في السماء .وهذا
سر من أسرار عظمته كذلك .
4- تواضعه :
والمتواضعون كثيرون؛ إما لأنهم
ذوو طاقات محدودة ، أو أنهم
يتظاهرون بالتواضع الكاذب ،
ليزداد حديث الناس عنهم رغم
طاقاتهم الفذة .
أما فقيدنا رحمه الله فتواضعه
عائد إلى مفتاح شخصيته " قلبه
السليم " فلا يستطيع إلا أن
يكون متواضعا . لأنه مؤمن بأنه
وأصغر أخ في جماعته يعملان في كل
واحد .
تراه يجلس إلى محدثه ، وإن كان
طالبا في الثانوية مثلاً .
فيستمع إليه ، ويسأله عن
أبداعاته وطاقاته ، ويشجعه ،
ويوحي له أنه لا يعرف بهذه
الطاقات وهو يتعلم منه ، وهو
بحاجة إليه . كما يجلس مع نده في
العمل فلا يتحدث عن نفسه . إنما
يحدث نده عن إنتاجه هو ويؤكد له
أنه استفاد منه ولولا إمكانات
هذا الند لما أمكن أن يقوم هذا
العمل. هو صادق في تواضعه . ولقد
رأيت أبرز صورة من هذا التواضع
ليلة التعزية بوفاته . فقد جاء
أحفاده واحدا بعد الآخر ؛ من
الثماني عشرة للثماني سنوات .
وأخذ كل يدلي بدلوه. فيلقي
قصيدته التي قالها جده فيه ،
متناسبة مع عمره وسنه ، ويحسب
أنه هو الأوحد عند جده . لا يضيره
أن يستفيد من العبقري والعادي ،
وأن يعمل مع القائد والجندي
فروحه لا تقبل الكبر ، ولا تأتلف
معه. لأن الكبر دوما هو غمط
الناس وبطر الحق، وبذلك يزداد
رفعة وعلاء عند إخوانه كما أقسم
سيد الخلق صلوات الله وسلامه
عليه : " ثلاث لو كنت حلافاً
لحلفت عليهن ..... وما تواضع عبد
لله إلا زاده الله رفعة"
قلبه مفتوح ، وبيته مفتوح لكل
راغب ولكل سائل ، ولكل مستفسر .
فحياته تقوم على الحب والحب
وحده .
ولا يعرف الحقد من تعلو به
الرتب
5- عزة نفسه :
وقد يبدو هذا التواضع نقيضا مع
هذه العزة. أبداً ، إنهما
ينتميان إلى مفتاح شخصيته
الرئيسي " قلبه السليم "
والقلب السليم لا يعرف النفاق
ولا المراوغة ولا المخاتلة ؛
يعرف الوضوح والصدق والصراحة
وقول الحق . ويعرف النصح لله
ولرسوله ولجماعة المؤمنين
وعامتهم . لا يدفعه حبه لأخيه أن
يسكت عن خطئه ولا يدفعه بغضه
لعدوه أن يظلمه. عاش في سورية
الوطن عالي الجبين ، مرفوع
الرأس يقول الحق لدى الطغاة
وأزلامهم . لا يعرف قلبه الوهن
أو الخوف . وعندما اقتضت مصلحة
الجماعة المسلمة أن يهاجر ،
هاجر مرغما لا محبا . وأمضى
حياته في المهجر يكتب المقالات
ويشترك في الندوات ، فيما يناله
الخطرمنه والخوف عليه ؛ في
المغرم لا في المغنم . محتسبا
لله تعالى . دخل مدرسة الهجرة
ومدرسة الاعتقال ومدرسة التشرد
ومدرسة التعذيب . وتخرج منها
فكان يحمل كل هذه الأوسمة في
حياته . لأنه لا يعرف أن يقول
الباطل ، ولا يلتوي به لسانه ،
ولا يطاوعه به قلبه . هاهو يقول :
" وكأنما الدولة إله أو حلت
محل الإله تقول للشيء كن فيكون .
وهذا هو جوهرالفساد في الأرض أن
تحل الآلهة البشرية محل الإله
الحقيقي العادل الرحمن الرحيم
جبار السماوات والأرض"
6- ذكاؤه:
وكثيرا ما يتبادر للذهن ونحن
نتحدث عن الإنسان الطيب ،
وكأنما تعني الإنسان الساذج
المغفل أو " الذي يأكل القط
عشاءه" . أبدا . إنما نحن أمام
فارس ميدان يتوقد ذكاء لماحاً ،
يدرك أسرار كل ما حوله ، ويحيط
بكل روغان الباطل وكيد أهله .
وكأنما يملك مجهراً سرعان ما
يسلطه عليه فيحرقه " وجاء
الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد.
" وكأن الشاعر يعنيه حين قال :
متى تملك القلب الذكي
وصارماً
وأنفاً حمياً تجتنبك
المظالم
ولقد كان رحمه الله يملك هذه
الأسلحة جميعا ؛ القلب الذكي ،
والأنف الحمي ، والصارم المسلول
. وكان الصارم عنده رحمه الله هو
لسانه وأدبه كما قال حسان بن
ثابت رضي الله عنه:
لساني صارم لا عيب فيه
ودلوي لا تكدره الدلاء
وكان رحمه الله كما وصف أمير
المؤمنين عمر رضي الله عنه نفسه
بقوله :
" لست بالخب ولكن الخب لا
يخدعني" الخب
: الداهية .
وكان يدرك دائما ً أبعاد متاجرة
المتاجرين في الدين . وقد قص لنا
صهره نكتته اللاذعة التي أطلقها
ضد ذلك المدرس اللاديني الذي
جاء يجمع لبناء مسجد في صفه من
طلابه وصدقه الطلاب فأعطوه ما
بأيديهم . ولقيه زميله الحسناوي
قائلاً له بلسانه اللاذع الحاد :
تصرفهم بالهنا . فجعله في نفسه
صغيرا كالنملة .
7- صبره :
لقد ابتلى الله تعلى فقيدنا
الغالي بالمرض العضال ؛ الفشل
الكلوي . في سني حياته الأخيرة
ونعرف من يبتلى بذلك كيف تنقلب
حياته جحيما وكآبة . وتذمراً
وشكوى على الله عز وجل . ولكن
فقيدنا كان من طراز آخر ، طراز
الذين يهزمون المرض ولا يهزمهم
، لقد كان فشلا كلويا ولم يكن
فشلاً نفسياً أو حياتيا ً أبدا .
لقد كان في ذروة إنتاجه وإبداعه
وهو في ذروة مرضه . وكان هذا
متناسق تماماً مع مفتاح شخصيته (
القلب السليم ) الذي يرضى بقضاء
الله وقدره " فمن رضي فله
الرضا ومن سخط فله السخط"
وكيف يرضى صاحب " القلب السليم
" أن يشكو ربه لعواده أو أن
يتحول إلى الكآبة القاتلة.وكما
يقول الشاعر:
فإذا
أشرق اليقين على المرء
فنادى في الكـرب يا الله
أصبح
الهم قربة وسكونا
الرضا بالقضاء رجع صداه
" وما أعطي عبد عطاء أعظم من
الصبر"
ويشهد الله ما التقيته مرة خلال
هذه السنوات العجاف وشهدته يشكو
أو يتبرم أو يتألم . إنما يثني
على ربه ، ويبتسم لمصابه ،
وكأنما لم يمسه مرض قط .
لقد كان على سنة أستاذه السباعي
الرائد القائد ، الذي كتب أروع
كتاباته في سني مرضه . وتوفي
وقلمه بيده يكتب لأمته علماً
وفكراً وحضارة . ولكم تشابهت
النهايات. فقد كان الحسناوي
رحمه الله لا ينسى لحظة ذكر
أستاذه السباعي. وصارا مدرسة
لهذه الأمة في الصبر والعطاء
والإبداع .
8- تفاؤله:
ولولا وجهه الشاحب الذي رسم
المرض عليه أخاديداً . لما صدقت
أنك مع شيخ هدته السنون . إنما
أنت مع شاب في سني العشرين من
عمره ، طموحاته لا تنتهي لدينه
ولأمته ، وأمله بنصرا لله عزوجل
، وثقته بالعودة إلى بلده بعد
الهجرة . ثقته بأن ما دون غد
الليلة . يعيش لإخوانه ، ولا
يعيش لذاته ، لا تفارقه دعابته
ونكتته لحظة من اللحظات . وهل
يملك صاحب " القلب السليم "
إلا أن يكون كذلك ؟ وإلا كان
صاحب القلب المريض المنكود
المهدود.
لقد كان دائما يرسم في الأفق
آماله . لقد فتحت " الإيميل"
قبل ساعة من كتابة هذه الكلمات ،
فرأيت رسالة من الأخ الفقيد قد
بعثها لي تحت عنوان : مقاله مهمة
.
قد اطلع عليها وبعثها لي
ولإخوانه الأحبة يدعوهم إلى
الاطلاع عليها . والذي يقرأ
قصيدته عن حلب ، وزغرودة العودة
إليها . يجد تلك الروح الحية
الوثابة التي تملأ كيانه
9- أدبه :
ولن أطيل الحديث عن أدبه وشعره ،
وقصصه ورواياته . وسأدع الحديث
عن ذلك لإخوانه الأدباء ،
وتلاميذه الشعراء يغنون هذا
الجانب . لكن الذي أعرفه أننا
ونحن في مقتبل العمر كان لنا
شاعران يبنيان مشاعرنا ويوقظان
الهمم في نفوسنا هما : الأستاذ
الحسناوي رحمه الله ، والأستاذ
منا غزيل أمد الله بعمره .
وكنت أفخر أن أحمل شاعرنا على
كتفي في شوارع دمشق ، وأرقص به ،
وهو يزغرد للوحدة العربية بين
سورية ومصر عام ثمانية وخمسين .
ونمضي إلى البرلمان بأهازيجه
الحلوة المحببة الرائعة .
10 – ثقافته :
فإن كان لي أن أنادي أو أناجي
إخواننا من المعارضة الذين
حملوا لواء التغيير لأمتهم من
كل الاتجاهات والأطياف . فأضع
بين أيديهم نموذجاً عن ثقافته
الواسعة ، البعيدة عن التحجر
والتعصب والأحادية في التفكير .
هاأنذا أضع
بين أيديهم ما ذكره نموذجا ً عن
أدب السجون وأدب النضال في هامش
تقديمه لأخيه الفارس عادل
الفارس ، والذي يجمعه مع كل
المناضلين هذا العنوان الرائع :
لأنهم قالوا لا
( انظر على سبيل المثال لا الحصر :
دواوين " وما أنت وحدك – رقصة
جديدة – في ساحة القلب- حمامة
مطلقة الجناحين – تقاسيم
آسيوية – خيانات اللغة والصمت
" لفرج بيرق دار . وديوان "
ترانيم على أسوار تدمر" ليحيى
الحاج يحيى ، و ديوان "
القادمون الخضر" وروايتي :
" نقطة انتهى التحقيق- مالا
ترونه " لسليم عبد القادر ،
وديوان " الظل والحرور"
لبعد الله عيسى السلامة ،
وديوان " في غيابة الجب "
وقصص " بين القصر والقلعة "
ورواية " خطوات في الليل"
لمحمد الحسناوي ، وقصص "
الخطو الثقيل – الوعر الأزرق –
النحنحات " لإبراهيم صموئيل ،
وقصص جميل حتمل ، وقصص " آه يا
وطني – تقول الحكاية " ورواية
" بدر الزمان " لفاضل
السباعي ، ورواية الشرنقة – سقط
سهواً " لحسيبة عبد الرحمن ،
ورواية " الصلصال – طفلة من
السماء –" لسمر يزبك ، ورواية
" الفقد" للؤي حسين ،
ورواية " غبار الطلع "
لعماد شيحة ، وكتاب " التحقيق"
لمحمود ترجمان وكتاب " الخوف
" لحكم البابا ، ورواية "
عينك على السفينة " لمي
الحافظ وكتاب " شاهد ومشهود
" لمحمد سليم حماد ، وكتاب "
خمس دقائق " لهبة دباغ ، وكتاب
" في القاع" لخالد فاضل ،
ورواية نشرت في جريدة النهار
لهالا الحاج ، وكتاب " النداء
الأخير للحرية" لحبيب عيسى ،
وشريط " ابن العم" لمحمد
علي الأتاسي ، وشريط " قطعة
الحلوى " لهالة محمد)
رحم الله فقيدنا الغالي وأسكنه
فسيح جناته مع الأنبياء
والشهداء والصديقين والصالحين
وحسن أولئك رفيقا .
وأنتم يا أهل الفقيد ، ابناً
وابنة وزوجة وأهلا أنتم أهلنا .
ألهمكم الله الصبر والسلوان،
ولا تنسوه من صالح دعائكم
ليستمر عمله الصالح إلى يوم
يبعثون .
*باحث إسلامي سوري
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|