ــ
محمد
الحسناوي (يرحمه الله) .. مدرسة
مميّزة..
في
تذويب المفارقات ،
وتوليد الموافقات .. داخل
جماعته !
عبدالله
عيسى السلامة
إنه حالة نادرة حقاً ، في هذا
الميدان ، قلما يستغني عنها عمل
جماعي ، قبَـلي أو حزبي، أو
مؤسّسي..!
المفارقات ، في أيّ عمل جماعي ،
كثيرة ومتنوعة ، ومختلفة
الأشكال والدرجات ، ومتباينة في
حرارتها وبرودتها ، وفي جدّيتها
وعبثيتها ، وفي تساميها
وتدنّيها ..!
وسنقف
عند ثلاثة من أنواعها ، كل منها
يشمل أصنافا ودرجات :
• المفارقات
بينه وبين الآخرين .. أفراداً ، و
جماعة.
• المفارقات
بين الآخرين أمامه.
• المفارقات
بين بعض الأفراد ، وبين التنظيم.
1- المفارقات
بينه وبين الآخرين :
أ) المفارقات
بينه وبين الأفراد :
(1) الخلاف في
البحث عن الحقيقة ، إذا كانت
ثمّة حقيقة ( على مستوى
المعلومات والأخبار، التي
تحتمل الصدق والكذب ) . لم يكن
يضيره ، ما إذا كانت الحقيقة ،
فيما قاله هو ، أو قاله غيره !
فإذا وجدها عند غيره ، سارع إلى
أخذها ، وشكرَ صاحبَها، على
تصويبه ، لما كان لديه من
معلومات غير صحيحة ، دون أن
يَشعر أنه أحرِج ، أو نقص من
قدره شيء ، أو نظِر إليه على أنه
ضعيف الإدراك أو التفكير لأنه
كان يتبنى معلومة مغلوطة ، أو
لأن زيداً من الناس صحّح له
معلومة ، حتى لو كان زيد هذا ،
أقلّ منه شأناً ، أو خبرة ، أو
ذكاء ، أو ثقافة !
(2) الخلاف في
البحث عن الصواب ، إذا كان ثمّة
آراء مطروحة ، متضادّة أو
متباينة، حول موضوع ما . فبرغم
براعته في التحليل ، واستنباط
الآراء ، والتفكير العميق
والدقيق والشامل ، في المسائل
الأدبية ، والاجتماعية ،
والسياسية .. وإدراك مَن حوله
لهذه البراعة لديه .. على الرغم
من هذا ، يتخلى عمّا كان يراه
صواباً ، إذا وجد ما هو أصوبُ
منه وأجدى ، دون أن يشعر بأيّة
غضاضة ، حتى لو صدر الرأي الأصوب
، من أحد تلاميذه ، أو من شخص
أقلّ منه خبرة وتجربة ، في
المسائل عامّة ، أو في المسألة
المطروحة خاصّة ! وهذا الطراز من
السلوك ، الثابت لديه ، هو صورة
من الصور النادرة ، التي قلما
نراها عند أشخاص كبار، في
مواقعهم ، وفي منازلهم العلمية
، والثقافية ، والاجتماعية ! فما
أكثر ما تظهر هنا نزعات التحدّي
والمكابرة ، وحبّ الغلَبة ،
والاستهانة بآراء الآخرين ،
أصحاب الآراء المخالفة ، ثمّ
الاستهانة بالآخرين أنفسهم ،
متصاحبة مع اعتداد المرء بنفسه
، وعبقريته ، وسعة علمه ، وعمق
تفكيره ..! وهذه المسألة من أخطر
المسائل ، التي تضيع فرصَ
النجاح في الجماعات ،
والتجمّعات الإنسانية ،
السياسية منها والاجتماعية ..!
إذ تَفرض الأصوات المرتفعة ،
والأمزجة الحارّة ، والمواقع
العليا .. آراءها الخاطئة على
الآخرين ، وإلاّ تهدّد بالويل
والثبور، وعظائم الأمور! وربّما
دفَعها هذا ، إلى تمزيق الصفّ
الذي هي فيه ، سعياً وراء حبّ
الغلبة ، وانتصار الهوى ، الذي
يسمّيه صاحبة رأياً..! وهذه نقطة
حسّاسة ، تدخل في صميم الأخلاق
الإنسانية ..! وقد يبدو المصرّ
على رأيه الفجّ ، ذا خلق ودين ،
ويَعيب على الآخرين بعض أخلاقهم
! ولا يعلم أنه بخلقه هذا ، قد
يؤدّي إلى تدمير تنظيم ، أو إلى
كارثة تسيل فيها دماء كثيرة !
ولو وازن أيّ باحث اجتماعي ، بين
هذا النوع من السلوك المنحرف ،
وبين أخطر جريمة خلقية ، من
كبائر المحرّمات ، يرتكبها فرد
عادي .. لوجَد سلوك هذا المفكّرَ
(الألمعي) أشدّ خطراً وضرراً ،
من أيّة موبقة فردية ، يؤذي بها
الفرد نفسَه ، أو أفراداً
قليلين من حوله..! مع فرق كبير
بين الإحساسَين ، لدى كلّ من
المجرمَين ، وهو أن المجرم
العادي ، يعلم أنه مخطئ ، وربّما
يتمنّى أن يتوب عن سلوكه ! بينما
المجرم الآخر يحسّ بالعظمة ،
ونشوة الانتصار..! حتى إذا ظهرت
آثار انتصاره، كارثةً على
جماعته ، أو المجتمع كله ، ألقى
باللوم والمسؤولية على مَن
حولَه ، متّهما إيّاهم بالجهل ،
أو الغباء ، أو التقصير.. لأنهم
أخذوا برأيه وهم يعلمون أنه خطأ..
فهم شركاؤه في المسؤولية !
وهاهنا تظهر عظمة رجال ، كالأخ
الحسناوي ، يرحمه الله..!
(3) الحِلم في
مواجهة الزوابع : لا يخلو أي
تجمّع بشري ضخم ، من عقلاء
وحكماء ، ومن حمقى وأغبياء ، ومن
برَرة وسفهاء ..! وكثيراً ما
يجتمع بعض هذه المفارقات ،
في مجالس ، ومنتديات ،
وسهرات ، ومجموعات عمل ..!
وكثيراً ما تعلو الأصوات،
ويحتدّ النقاش ، وتحمرّ
الأنوف ، حميّة لرأي ، أو شخص ،
أو موقف ..! وكثيراً ما كان بعض
أصحاب الأمزجة الحامية ،
يَنظرون حولهم ، فلا يرون بينهم
، من لديه استعداد ، لتحمل
كلماتهم الغاضبة ، وعواطفهم
الهائجة .. سوى الأخ الحسناوي ـ
إذ الآخرون متحفّزون للردّ على
مَن يَرفع صوتَه في وجوههم ـ
فتوجّه إلى الأخ الحسناوي ،
كلمات في غير محلّها..! بعضهم
يحمّله مسؤولية ليس مسؤولاً
عنها ، وبعضهم يخطّئه ـ متعجّلا
ـ في كلمة ، هي عين الصواب !
وبعضهم يلومه على قول كذا ، أو
فعل كذا . وربّما كان بعض هؤلاء ،
من مستوى تلاميذه ، أو أبنائه ،
عمراً ، أو قدراً ، أو علماً ..!
وربما رأى بعض الصغار، في توجيه
كلمة جافّة ، إلى كهل حليم ،
نوعاً من الشجاعة المجّانية..!
وربما خامر بعضَهم إحساس غامض ،
بنشوة التحدّي العبثية ، كإحساس
المراهق الشقيّ ، بأنه يثبت
رجولته حين يتحدّى أباه ..! ويظلّ
الرجل ساكناً، محافظاً على
اتّزانه ، وهدوء أعصابه ، حتى
تنتهي الزوبعة ..! فيبدأ بعرض ما
عنده ، من رأي ، أو موقف ، أو
حكمة ، أو نصيحة ، أو عفو عمّن
أساء إليه ، وملاطفة له !
فلا ينتهي المجلس ، إلاّ وقد
سادت روح الألفة والمودّة ،
واستقرّ الرأي الصحيح الناضج ،
في الأذهان ، فيخرج الجميع من
المجلس ، وكأنْ لم تحصل مشادّة ،
أو شحناء ! حتى إذا اعتذر مِن
الرجل بعضُ المخطئين بحقّه ،
لاطفَه ومازحَه ، كما يستقبل
الأب الحكيم ، مشاعر ابنه
المخطئ النادم !
ب- المفارقات بينه وبين مؤسّسات
الجماعة :
كثيراً ما يَعرض في مؤسّسات
الجماعة ( قيادة..مكتب..جهاز..لجنة
) بعض الطلبات التي يحتاجها عمله
، ويكون محقاً فيها ، لضرورات
العمل . فيقابَل طلبه بالرفض ،
أو بالتأجيل ـ لا تعمّداً ، بل
بناء على موازنة بين الأولويّات
، يجريها الإخوة في المؤسّسةـ
برغم الحاجة الماسّة إليه ،
فيسكت محتسباً ، أو يعلق بهدوء ،
وهو يضبط انفعالاً مشروعاً: لقد
عرضت حاجتي أمامكم ، وأنتم
تتحمّلون المسؤولية أمام الله .
وكذلك
الأمر، فيما يتعلق بمناقشة
الآراء وتمحيصها ، لبناء موقف ،
بشأن قضية ما.فقد كان ، يرحمه
الله ، يعرض رأيه بعمق وتأنّ
واستقصاء ، ويترك الأمر للآخرين
، لاتّخاذ القرار بالتصويت ،
ويلتزم بنتيجة التصويت راضياً ،
حتى لو أيقن أن رأيه الذي لم
يؤخذ به ، هو الأصوب والأنضج ،
والأجدى لعمل جماعته .. مادام
الأمر شورى . بينما يصعب على بعض
الناس ، من الناحية النفسية ،
قبول نتيجة التصويت ، لكنهم
يقرّون بها التزاماً ، ويظلون
يتحدثون عن آرائهم الصائبة ،
التي حجِبت ، والتي لو أخِذ بها
لحققت فوائد كثيرة ..!
2- المفارقات
بين الآخرين أمامه :
كان
عقله هو الحاضر، في كل موقف أو
مأزق ! ولم يكن لهواه ، أو مزاجه
الشخصي، تأثير في رأيه ، عندما
تناقش أمامه مسألة . ولديه قدرة
على التمييز الدقيق ، بين ما هو
رأي ناضج ، وما هو رأي فطير! وعلى
التمييز بين الرأي ، والشتيمة ،
أو الاتّهام والتجريح ..! فكان
يبدي رأيه بهدوء وحكمة ، بصرف
النظر عن ميله الشخصي ، إلى هذا
الفرد أو ذاك ! لأن الرأي أمانة
لا يساوم عليها . فهو يشعر
بالمسؤولية عن رأيه ، أمام ربّه
أولاً ، وأمام نفسه ثانياً ،
وأمام جماعته ثالثاً . وحتى لو
سمع من بعض الأشخاص ، أصحاب
المزاج الحامي ، كلمات غير
سديدة ، فإنه سرعان ما يلجأ إلى
العفو والمسامحة ، وفي كثير من
الأحيان إلى الدعابة ، التي
تزيل آثار الشحناء من النفوس.
3- المفارقات
بين بعض الأفراد وبين التنظيم :
كثيراً ما يشعر بعض الأفراد ،
داخل التنظيم ، بالغبن ، بسبب
قرار اتّخذته إحدى مؤسّسات
الجماعة . فيأتي إلى الأخ
الحسناوي غاضباً مزمجراً ، أو
شاكياً متذمراً ، ليناقشه في
مظلمته ، ويطالب بحقه الضائع ..!
ويكون موقف الأخ الحسناوي
معتدلاً ، باحثاً عن حق الأخ ،
في كلام الأخ نفسه ، ثم عند
المؤسسة التي يدّعي أنها ظلمته .
فإذا تبيّن له أن الأخ مظلوم
حقاً ، سعى بقدر طاقته ، إلى
مساعدته في الحصول على هذا الحق
، وإلاّ اعتذر منه، ونصحه
بالتوجّه إلى مؤسّسة أعلى ،
لتنصفه . وإذا وجَده متسرّعاً ،
أو متوهّماً بأنه مظلوم، بيّن
له حقيقة الأمر، ونصحه بالهدوء
، والتزام قرارات جماعته ،
والاعتذار عمّا قد يكون بدَر
منه ، من إساءة بحقّ الجماعة ،
أو بحقّ بعض أفرادها .
ونقول
في الختام : إن مَن لا يعرف طبيعة
العمل الجماعي التنظيمي ، قد
يرى في كل ما ذكِر، أموراً عادية
، لا ميزة فيها لأحد ! أمّا مَن
يعرف الأمور على حقيقتها ، داخل
التنظيمات السياسية
والاجتماعية ، ويعرف حاجاتها
الحقيقية إلى رجال يشكّلون
صِمامات أمان، ضدّ التفجّرات
الداخلية ، وضدّ الانحرافات
الفكرية أو السلوكية.. فيستطيع
أن يلمس قيمة رجل مثل الأخ
الحسناوي ، في تنظيم ينتمي إليه
آلاف البشر، ويعِدّ نفسه
لمهمّات جسام ، تنوء بحملها
كواهل الرجال !
رحم
الله الأخ الحسناوي ، وجزاه عن
جماعته وأمّته خير الجزاء .
ولله درّ القائل :
سيذكرني قوميْ إذا جَـدَّ
جِدّهمْ
وفي الليلةِ الظلماءِ
يفتقَد البدرُ
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|