ــ
دمعة
وفاء على أستاذنا:
محمد
الحسناوي... الفارس الذي ترجّل
إبراهيم درويش
Syria_kurds@yahoo.com
غيّب الموت - قَدَرُ اللهِ الذي
لا رادّ له - صباح الأحد المصادف
(4/3/2007م) عَلَماً من أعلام
التربية والأدب والثقافة
والسياسة في سورية، لتخسر بذلك
سورية أحد أبنائها البررة
المجاهدين،ولتخسر الأمة
الإسلامية أحد المنافحين عن
عقيدتها وحضارتها وقيمها بما
أوتي من أدب خصب،وشعر رقيق رقة
النسيم،وعنيف على الأعداء عنف
البراكين والعواصف الهوج،إنه
الأستاذ محمد محمود
الحسناوي،من مواليد عام 1938 م في
جسر الشغور بإدلب، رحمه الله
وعوض المسلمين عن خسارتهم به
خيراً.
ولئن
تأخرتُ في الكتابة عنه كل هذه
الفترة،فلأني كنت وسط الحدث
أولاً،وكنا نعزّي بعضنا بعضاً
فيه،ولأن صدمة وفاته على نفسي
كانت من القوة بحيث جعلتني
مشدوهاً مشتّت الذهن غير مصدِّق
للنبأ،بالرغم من أن خبر إصابته
بالفشل الكلوي قبل أقلّ من عام
كان أشدّ وقعاً. كان خلال هذه
الفترة مثال المؤمن المحتسب
الصابر على البلاء دون تذمّر
ولا شكوى،وكان كلّ يوم يمرّ
أشاهد فيه الأستاذ أبا محمود
أحمد الله تعالى.
تعود
بداية معرفتي بالأستاذ محمد
الحسناوي إلى بداية عام 1984م،ولما
عرفني كردياً من عفرين انشرح
صدره لي ،وصار يحدّثني عن
ذكرياته الجميلة في عفرين أيام
تدريسه في ثانويتها في عهد
الانفصال وبداية
تسلق المغامرين المغمورين على
كراسي الحكم في انقلابهم الأسود
المشؤوم يوم 8آذار عام 1963م.
واستمر التواصل بيني وبين
الأستاذ الحسناوي ـ الذي يكنّ
للشعب الكردي كل محبة وتقديرـ طوال
هذه المدة الطويلة،ويتابع
أخبارهم ،ويحزن أشدّ الحزن على
ما أصاب علاقات الأخوة بين
الكرد والعرب وغيرهم نتيجة
السياسات العنصرية المفتقرة
إلى أبسط معاني الإنسانية التي
تتبعها الأنظمة الحاكمة
لبلادنا. كما كان يحزن لبعض
الكرد الذين فقدوا
البوصلة،فأصبحوا يتسوّلون على
أبواب البيت الأبيض والأليزيه
وداوننغ ستريت وغيرها،وهل كانت
مصيبتهم إلا على أيديهم عبر
تقسيمات سايكس ـ بيكو التي جرّت
المآسي على شعوبنا بعامة وعلى
الشعب الكردي بخاصة؟ بالمقابل
كانت أساريرُ وجه الأستاذ أبي
محمود تنفرج ويشعر بسرور غامر
عندما يسمع خبر ظهور تنظيم كردي
ذي توجّه إسلامي،أو عندما يسمع أن
إخوانه الكرد قد حققوا تقدّماً
على صعيد نيل حقوقهم الطبيعية
أو بعضها، أو توصيل قضيتهم
العادلة إلى مراكز اتخاذ
القرار،مع تأكيده ألا يكون ذلك
على حساب دين هذا الشعب وقيمه
النبيلة مصدرِ عزّته .
وجدتُ الأستاذ الحسناويّ خلال
هذه المدة المديدة الأب
الحاني،المتفقد لأحوال إخوانه
وتلامذته المواسي لهم،ووجدته
الأستاذ المربي دون أن يشعر
مقابله بأنه أمام أستاذ،بل أمام
أخ كبير عطوف. ورأيته الأديب
الإسلامي الظريف صاحب النكتة
اللطيفة والخلق الإسلامي
الرفيع،بل الرائد في الأدب
الإسلامي المعاصر،وقد طبع
مقالاته المنشورة في الصحف
والمجلات في كتاب سماه "في
الأدب الإسلامي"،وله كتيّب
يلخّص آراءه في الأدب والحضارة
سماه"في الأدب والحضارة".ولذلك
ليس غريباً أن يكون أحد مؤسسي
رابطة الأدب الإسلامي العالمية
إلى جانب المرحوم أبي الحسن
الندوي وعبدالقدّوس أبي صالح
وشقيق روحه عبدالله الطنطاوي
وغيرهم. وكان يسأل محاوريه
والمهتمّين بقضايا الأمة
وهمومها ووسائل تطوير الفكرة
الإسلامية وتقديمها في ثوب جديد
،كان يسألهم: ألا نستطيع إيصال
الإسلام بمبادئه ومثله إلى
الناس من خلال قوالب أدبية
وأعمال فنية،دون أن نذكر كلمة
الإسلام صراحة،طالما أن بعض
الناس وبخاصة الأنظمة الحاكمة
يتحسّسون من الإسلام ودعاته؟
وكانت لديه قدرة كبيرة على النقد
الأدبيّ،ودراسة النصوص الأدبية
الشعرية والنثرية وإخضاعها
لمبضع الناقد الحاذق،وإبراز
مواضع الحسن وضدّه فيها،كلّ ذلك
بأسلوب لطيف غير جارح،يشعر معه
صاحب النص بالامتنان والشكر
والعرفان.
وكان الأستاذ الحسناوي ـ عليه
سحائب الرحمة ـ السياسي المحنّك
الذي يدافع عن فكرته وينشرها
ويتحمل في سبيل ذلك صنوف الأذى
والحرمان والاعتقال
والتشرد،وقد وثّق جانباً من
معاناته وما لقيه صابراً
محتسباً في روايته المعنونة"خطوات
في الليل". وكان رحمه الله
لديه قدرة كبيرة على المداراة
والمحاورة إلى أن يقنع محاوره
بوجهة نظره بكل لطف وأدب وتواضع.
إلى جانب مقدرة كبيرة على
التحليل وربط الأحداث
بمقدماتها ونتائجها ،وكم كان
يحوز على الإعجاب العظيم من
الحاضرين نتيجة تحليلاته
السياسية العميقة
وتحليقاته في سماء الحدث في كل
المجالس والندوات،طوال السنين
التي عرفته وخالطته.
وقد
حدّثني أنه كان صاحب مشروع مدّ
جسور التعارف والتعاون بين
التنظيم الذي ينتمي إليه "جماعة
الإخوان المسلمين" وأصحاب
الاتجاه الإسلامي في تركيا في
سبعينيات القرن الماضي،ثم كان
المندوب عن الجماعة للحوار
والتنسيق وتوحيد الجهود
معهم،هذه العلاقات التي أسفرت
عن نتائج طيبة فيما بعد للطرفين.
كما وجدت الأستاذ والأخ الحسناوي
الشاعر المفلق الملتزم بقضايا
أمته وشعبه،يضع نصب عينيه خدمة
العقيدة الإسلامية
النقية،والعمل على إعادة المجد
الإسلامي التليد،وتنقية ما علق
بالإسلام وحضارته من شوائب
وأدران على يد الشعوبيين
الحاقدين...كما وجدته الروائي
المتمكن والقاصّ والكاتب،الذي
سخّر قلمه وقدرته الإنشائية
التصويرية في سبيل الدفاع عن
مبادىء الإسلام وقيمه وتحبيبها
إلى النفوس،وللذود عن الحضارة
الإسلامية وتراث هذه الأمة
المعطاءة ودحض افتراءات
المستشرقين والمستغربين
وتلامذتهم،وكان قلمهُ السلاح
الذي يقاتل به دفاعاً عن
المظلومين والمقهورين ، بغضّ
النظر عن العقيدة والعرق
والجنسية والجنس،
ويفضح أساليب الطغاة المتسلطين الذين
جعلوا من خدمة أعداء الأمة
وسيلتهم في الاستمرار في الطغيان
ونشر الموبقات.
كان الأستاذ أبو محمود في الغربة
القسرية التي فرضت على أحرار
سورية الأب الحاني والموئل الذي
يلجأ إليه أحبابه وتلامذته في
الملمّات،فيجدون عنده الأنس
والعزاء والعزيمة والحلول
للمشكلات،كما يجدون لديه الأمل
الذي يعيد إليهم
الثقة بأنفسهم ودعوتهم ،
كيف لا، وهو الحكيم الذي عركته
السنون وعركها،وقضى أكثر من نصف
قرن في صفوف الحركة الإسلامية
داعية بسلوكه ولسان حاله قبل
لسان مقاله،وأوتي الحكمة
والقدرة على الإقناع. وكم كان ـ
رحمه الله تعالى وأسكنه فسيح
جناته ـ يحدثنا عن طول معاناته
وصبره ومصابرته وتحدّيه للفئة
الباغية المتسلّطة على أبناء
سورية!وكم كان يتذكر الأيام
الخوالي،التي سبقت مجيء
البعثيين إلى السلطة على ظهور
الدبابات،وكيف كانوا يقودون
المظاهرات والمسيرات المندّدة
بانحرافات حكام سورية،أو
العدوانات والأحلاف الأجنبية
ضد الأقطار العربية والإسلامية
كالعدوان الثلاثي على مصر عام
1956وحلف بغداد وغيرهما. هذا
الهامش من حرية التعبير الذي
صادره الرفاق تحت ذريعة "البلد
في حالة حرب مع العدو الصهيوني"،وأن
" لا صوت يعلو صوت المعركة"،ثم
تبيّن لكل ذي عينين أن الأمر لم
يعدُ كونه تسلّطاً على رقاب
الناس ونهباً لخيرات البلد
وتدميراً للقيم والأخلاق
ومعاني الوطنية ودفعاً بسورية
نحو المجهول حاضراً ومستقبلاً!
وجدت الأستاذ أبا محمود
الحسناويّ مثال المسلم الواعي
المتسلح بأنواع العلوم
والخبرات التي يحتاجها مسلم هذا
العصر،بل وجدت فيه مجموعة
دعاة،أو الإنسان
الموسوعيّ،الذي جمع بين القدرة
الكبيرة على الإبداع الأدبيّ
شعراً ونثراً ونقداً، قصصاً
وروايات وخواطر ومقالات
ودراسات علمية موثقة. فضلاً عن
السياسي المحنك القادر على
التحليل والحوار والإقناع.
وناهيك عن المربي الحكيم
والقدوة الذي يحرص على تزكية
نفسه وربط قلبه في كل الأحوال
بخالقه،والذي يرى في طلابه
أبناءه،من حيث حرصُه على
الارتقاء بهم وتنشئتهم بحيث
يصبحون لَبِنات صالحة في صرح
هذه الأمة.
لقد كانت خسارتنا في الأستاذ
الحسناوي كبيرة،ولكنْ عزاؤنا
أنه خلّف ذرية صالحة تكون خير
خلف لخير سلف بإذن الله
تعالى،وأسهم في بناء جيل سيحمل
الراية من بعده حتى يقضي الله
أمراً كان مفعولاً.
اللهم لا تفتنّا بعد أستاذنا
محمد الحسناوي، ولا
تحرمنا أجره،وارحمنا إذا صرنا
مثله،واغفر لنا وله،واجعل قبره
روضة من رياض الجنة،واحشرنا معه
على الحوض يا رب العالمين.
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|