ـ

ـ

ـ

الاثنين 09/04/2007

ــ

القضايا الوطنية ليست أوراقا نساوم عليها!

الطاهر إبراهيم*

في مسيرتها لتقوية مراكزها محليا وإقليميا تلجأ بعض الأنظمة الحاكمة إلى القفز من فوق المسلمات الوطنية، فتجعلها أوراقا تساوم عليها وتجعلها سلعة تدفعها ثمنا لبقائها في السلطة أو لتقوية مركزها التفاوضي في مواجهة التهديد الإقليمي أو الدولي، فتبدأ مسيرة التنازلات التي قد تعرف متى تبدأها، ولكنها أبدا لا تعرف إلى أين يمكن أن تصل بها.

ولقد حفظ لنا التاريخ العربي المعاصر أمثلة وشواهد، لو اتعظت منها الأنظمة لما جرؤت على أن تفرط بأي قضية وطنية مهما كانت صغيرة. حكام عرب كانوا يمسكون دفة السلطة بقوة واقتدار، دفعوا مناصبهم وربما حياتهم ثمنا، لأنهم فرطوا بالثوابت الوطنية، وأطيح بهم ، بعد أن كانوا ملء السمع والبصر.

الرئيس الراحل أنور السادات سجل لنا أول نصر يحققه العرب على إسرائيل، عندما قامت القوات المصرية ظهر يوم السبت في 6 تشرين أول "أكتوبر" 1973 بعبور "خط بارليف"، في حركة عسكرية رائعة تجاوزت السدود الترابية التي جعلها الجيش الإسرائيلي حاجزاً لا يمكن تجاوزه إلا بمعجزة. ولقد حقق الجنود المصريون المعجزة عندما سلطوا المضخات المائية الضخمة على تلك السدود، فأصبحت أثرا بعد عين. وعبرت الدبابات المصرية إلى الضفة الشرقية لقناة السويس، بينما كان الصهاينة مشغولين بالاحتفال بيوم الغفران، فما كان يخطر ببالهم أن الجيش المصري يستطيع أن يعبر خط بارليف.

هذا العمل الرائع، على الحقيقة وليس على المجاز، لم يشفع للرئيس "السادات" عندما وقّع معاهدات "كمب ديفد" التي أنهت حالة العداء بين مصر وإسرائيل، وسلّمت لإسرائيل بالحق في فلسطين، وما كان أي زعيم عربي ليجرؤ على ذلك قبله.

"جعفر النمير" حكم السودان بالحديد والنار على مدى عقد ونصف، وعقد تحالفات مع قوى سودانية مختلفة، وجعل من نفسه إمبراطورا –صور ذلك الأديب الشاعر السوري الإسلامي عبد الله عيسى السلامة في روايته الثعابيني- في السودان. ومع ذلك لم يفكر أحد أن ينقلب عليه إلا بعد أن سمح للطائرات الإسرائيلية بأن تنقل يهود "الفلاشا" من الحبشة إلى إسرائيل عبر مطارات السودان وفي هذا مافيه من تحدٍ للشعور العربي عند السودانيين. فكان أن قاد المشير "عبد الرحمن سوار الذهب" انقلابا أطاح بالنميري أثناء زيارته إلى واشنطن. وعلى نفس المنوال نسج العقيد "علي ولد محمد فال" عندما ترأس مجلسا عسكريا من 17 ضابطا أطاح بالرئيس الموريتاني العقيد "معاوية ولد الطايع" بعد أن طبّع هذا مع إسرائيل.

قد يكون هناك زعماء عرب آخرون التقوا قادة إسرائيليين قبل "السادات"، حكيت روايات كثيرة عن أن أكثر من زعيم عربي فعل ذلك. إلا أن أحدا منهم لم يجرؤ على اللقاء في وضح النهار قبل أن يقوم "السادات" بزيارته المشهورة لإسرائيل، على مبدأ: "وإذا بليتم بالمعاصي فاستتروا". ولا ينكر أحد أن خطوة "السادات" قد فتحت الباب على مصراعيه ليقتفيها زعماء عرب آخرون إلى القدس المحتلة، "والحبل على الجرار".

وإذا كنا نوافق على أن العرب ليسوا في أفضل أحوالهم، إلا أننا نؤكد أنه ما تزال عندهم قوى كامنة مخبوءة تنتظر من يفجرها. وفي هذا السياق فإن ذكر مثالب بعض الأنظمة لا يعتبر غيبة أو نميمةً. وفي المقابل فإن مدح المواقف الجريئة لا يعد تزلفا ونفاقا. وكما أن التفريط بثوابت الأمة يحبط المواطن العربي، فإننا نجزم بأن اهتمام الحكام بقضايا الشعوب يرفع من منسوب الثقة لديها.

وفي هذا السياق نؤكد أن اجتماع مكة المكرمة بين الأخوة الفلسطينيين –تحت رعاية كريمة من خادم الحرمين- الذي أدى لتشكيل حكومة وحدة وطنية، كان في الاتجاه الصحيح. وفي الاتجاه ذاته جاءت كلمته –جزاه الله خيرا- في مؤتمر القمة العربية الذي عُقد في الرياض، واعْتَبَرَ فيها أن العراقَ بلدٌ محتلٌ من قبل أمريكا. على الأغلب لم تكن واشنطن ماثلة أمامه عند رعايته اللقاء الفلسطيني في مكة المكرمة وعندما افتتح مؤتمر القمة، بل ما كان يشغل باله حينذاك هو الواقع المأساوي للبلدين المنكوبين بالاحتلال: العراق وفلسطين.

لعل أهم ما يغفل عنه كثير من السياسيين والمراقبين، هو أن القضايا الوطنية المطروحة تقبل أكثر من رأي وتتسع لأكثر من وجهة نظر كحلول ممكنة. وإذا كان ذلك كذلك، فلماذا نعمد إذن مسبقا لاتهام الذين لا تتفق وجهات نظرهم مع آرائنا في القضايا المطروحة على الساحة؟ فقبل أن نلجأ إلى تخوينهم، ينبغي أن نجادلهم في آرائهم ونستمع لوجهات نظرهم. ففي السياسة لا يوجد حل وحيد لمعضلة سياسية. وأغلب الظن أن الذين يرفضون وجهات النظر الأخرى، إنما عجزوا عن إثبات صواب مواقفهم فاستبدوا برأيهم دون الآخرين.

واستطرادا، لانستطيع أن نمنع الذين يختلفون مع أنظمة بلادهم التي تستبد من دونهم بالأمر من أن ينشقوا عنها، وقد بادرتهم واستبعدتهم من المشاركة في الحكم. وعندها فلا نستطيع أن نلوم من استُبْعِد، إذا اتهم تلك الأنظمة بأنها تريد "تجييّر" القضايا الوطنية لصالحها في سوق الأخذ والعطاء، ليتم بعد ذلك تحويل هذه القضايا إلى "أوراق" و"ملفات" يحملها معه المفاوض ليساوم عليها ويكسب نقاطا يبرزها في "بازار" المفاوضات، ويطرحها كنقاط قوة له مع دول تسعى لزعزعة تلك الأنظمة، ولا يهم بعدها إن كان ذلك يتم على حساب الوطن أم لا!. وإلا فمن يستطيع أن يمنع الآخر الذي أقصي عن الساحة أن يجهر بخصومته لتلك الأنظمة، طالما أن من بيده الصولجان يرفض قبولَه كشريك في صنع قرارٍ هو معنيٌ به تماما، لأن النتائج المأساوية للقرارات الخاطئة لا تصيب الأنظمة فحسب بل تعم الجميع؟! 

*كاتب سوري

المشاركات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ