ــ
حتى
لا يقال: ليس في سورية رجال
سالم أحمد*
يتغامز بعض العرب ممن حباهم الله
رفاهية وقليلا من الحرية ومن
الديمقراطية، فيغمزون من قناة
السوريين قائلين: ما برحتم
تبيعوننا "وطنيات" وتقولون
إن فرنسا المستعمرة، التي احتلت
الجزائر قرابة قرن وربع، لم
تستطع أن تبقى في سورية سوى ربع
قرن فقط. فما بالكم تخنعون أمام
استبداد مجموعة قليلة من الحكام
لم يكن لها شأن في تاريخ سورية
كما تزعمون؟ أم أنكم تقولون ما
لا تفعلون!
بل إنكم تزعمون أن "حسني
الزعيم" قائد أول انقلاب في
سورية لم يستطع البقاء في
السلطة سوى أربعة أشهر ونصف، ثم
أطاح به "سامي الحناوي"،
الذي مكث في الحكم أقل من مدة
"الزعيم" فأطاح به "أديب
الشيشكلي". وتبررون كثرة هذه
الانقلابات بأن السوري يرفض أن
يقبل الضيم. فبماذا تبررون
سكوتكم على حكم "حافظ أسد"
الذي أطاح برفاقه البعثيين عام
1970، ليبقى في السلطة ثلاثين
سنة، حتى إذا هلِك أورثها إلى
ابنه بشار من بعده، ليمكث هو
الآخر في الحكم "سبع سنين
دأبا". وها هو الآن يعد خطابه
للقسم الثاني الذي قد يزعم فيه
أن "الآخر" هو من سيحكم في
ولايته الثانية، ثم ليعمد في
اليوم التالي لخطاب القسم إلى
إلقاء هذا الآخر في سجن يمدد له
تلقائيا سبعا سبعا .....
فإذا كنتم تزعمون أن الأسد الأب
كانت تدعمه واشنطن وموسكو
وباريس! فإن موسكو قد خذلت الأسد
الابن. أما "جاك شيراك"
فيعمل جاهدا ليتم اعتماد
المحكمة الدولية التي ستحاكم
قتلة "الحريري" قبل انتهاء
ولايته، وهذا مما لا يسر الرئيس
السوري. أما "جورج بوش" فلا
يترك مؤتمرا صحفيا أو حديثا مع
ضيف زائر، إلا ويرسل التهديد
والوعيد إلى نظام دمشق بأنه
يدعم الإرهاب. كفى ادعاء أيها
السوريون ولا تقولوا لنا: "العين
لا تقابل المخرز"، فما عدنا
نسمع منكم إلا كلاما! فأين هم
الرجال في سورية؟
لا يستطيع السوري إلا أن يؤكد أن
بعض هذا الكلام صحيح، ولكن إذا
نُظِرَ إليه من زاوية الإنسان
"الذي يعد العصي"، أما لو
كان الناظر هو الذي يُضْرَب
بالعصا لكان له رأي آخر. ومع أن
تفنيد كل ما جاء في كلام الأخ
العربي "الديمقراطي" لا
يفيد السوريين كثيرا. إلا أن ما
قيل عن زوال الحماية الدولية عن
النظام السوري ليس دقيقا. فما
تزال واشنطن تراهن، ليس على
تغيير النظام، بل على تغيير
سلوكه. فإذا علمنا أن جنرالات
إسرائيل يرفضون رغبة واشنطن في
تغيير النظام، عندها يتضح أن
الضغوط الدولية على النظام هي
نوع من تقليل الحوافز التي كانت
ممنوحة للنظام مقابل قمع
الإسلاميين، لا أكثر ولا أقل.
ما لا يعرفه هذا الأخ العربي أن
النظام السوري كان النظام
المدلل عند واشنطن وأوروبا حتى
وقت قريب. وإنها كانت تتغاضى –باستثناء
فرنسا- عن القمع السوري لنصارى
لبنان لأنه كان في عهد حافظ
الأسد يقمع الإسلاميين في سورية
ولبنان. أما ما نراه من ضغوط
تطبق على سورية في عهد بشار أسد،
فلأن المطلوب من سورية قد تغير
أمريكيا وأوروبيا ، ولعل
التحقيق باغتيال الرئيس
الحريري هو بعض ما هو مطلوب وليس
كله.
بقيت واشنطن وعواصم أوروبا صامتة
صمت القبور، يوم كانت المعتقلات
السورية تغص بعشرات آلاف
السوريين. وقد استغل النظام هذا
الصمت لينكل بالشعب السوري،
وليكسر شوكة كل من يرفع رأسه
معارضا. حتى لقد أصبحت أرواح
السوريين في عهد حافظ أسد أرخص
وأهون، وقد كانت من قبل عزيزة
وصعبة. ثم يأتينا –بعد ذلك- من
يزعم أنه ليس في سورية رجال!
قنبلة طائشة ألقيت على موكب حافظ
أسد في حزيران عام 1980 أثناء
استقباله رئيس دولة أفريقية.
ولأن أجهزة المخابرات فشلت في
إلقاء القبض على المهاجمين، فقد
قام رفعت أسد بتصفية حوالي 800
معتقل في سجن تدمر وهم نيام
يحلمون بغد أفضل، وبجمع شملهم
مع أمهاتهم وأزواجهم وأطفالهم.
ومع ذلك تم التعتيم دوليا على
هذه المجزرة، وسكتت واشنطن ،
كما سكتت معها دول أوروبا.
الذين يكتبون من وراء الحدود عما
يعانيه السوريون في وطنهم،
جعلوا نصب أعينهم كشف انتهاك
حقوق الإنسان وإهدار آدمية
السوريين داخل سورية. لكن ما كسر
ظهور السوريين أيضا، هو انشغال
الواحد منهم في همه اليومي وفي
تأمين قوت أطفاله، وفي شراء
دفاترهم المدرسية وثيابهم،
وربما اعتبر البعض في سورية
تأمين هذه الضروريات أهم من
الحرية والديمقراطية التي
يتغنى بهما السوريون من وراء
الحدود. وكل هذه التكاليف
والمرهقات لم يدخل فيها تكاليف
الطالب الذي حصل على علامات
تؤهله لدخول كليات الطب
والهندسة التي تتطلب دواما
كاملا لا انقطاع فيه. لم نتكلم
هنا عمن نقصته علامتان أو ثلاثة
كي يقبل في كليات الهندسة أو
الطب، ولا يستطيع والده أن يؤمن
له أقساط التعليم الموازي.
بينما زميله البعثي فقد قبل في
كلية الطب وعلاماته أقل بثلاثين
علامة.
وكأنه لم يكفِ السوري انشغاله
بالتعب لتأمين الضروريات له
ولأبنائه، فقد فتح عليه باب آخر
لتغطية تكاليف شركات "رامي
مخلوف" التي سحبت جزءاً
كبيراً من مدخراته، -كانت قد
خصصت للضروريات- لتغطية نفقات
ثرثرة فارغة عبر "الموبايلات".
وبدلا من أن ينشغل هؤلاء، آباء
وأبناء، بما يجب أن يفعلوه
لتقوية سورية، كوطن وسورية
كدولة، في وجه العدوان
الإسرائيلي المرتقب، فقد شغلوا
برفع المعاناة اليومية، بحيث
يعمل الواحد منهم في النهار،
ويعمل في الليل، وتعمل زوجته
أيضا، مع هذا يبقى الهامش
واسعاً بين دخلهما القليل –رغم
العمل الإضافي- ومصروفهما الذي
تستغرقه الضروريات. ومع ذلك
يسألنا الأخ العربي الديمقراطي
أين هم رجال سورية؟
رجال السلطة من أهل الحكم في
سورية لا يأبهون لتلك الأمور
الثانوية التي ترهق السوري . فهم
مشغولون بما هو أهم من حاجات
المواطن الضرورية. فالقضايا
الوطنية العليا تحتم أن تتصدى
سورية كلها لمن يتربص برموزها
الدوائر، خصوصا إذا تعلق الأمر
بمتطلبات التحقيق في اغتيال "رفيق
الحريري". وهو على كل حال رجل
مات وشبع موتا والحي أبقى من
الميت. الوطنية تقتضي العمل على
إفراغ المحكمة الدولية
اللبنانية من مضمونها، بحيث لا
نترك سوريا واحدا –ولو كان
قاتلا- يقف أمامها، وما عدا ذلك
فهو من سفاسف الأمور.
أما أن ينشغل أعمدة الحكم
بالإعداد لما يقتضيه واجب الوقت
وهو الحذر من هجوم مباغت تشنه
إسرائيل، فهذا مما لا يخطر ببال
السادة الحكام. خصوصا وأن "أولمرت"
صرح يوم الأربعاء 18 نيسان
الجاري: أنه حمّل "نانسي
بيلوسي" رسالة تطمينات إلى
القيادة السورية، بأن إسرائيل
غير معنية بأي هجوم ضد سورية.
بناء على رسائل التطمينات
القديمة الجديدة هذه، فقد شطب
النظام الرجالَ في سورية من
المعادلة الوطنية، فهو لايعتقد
أنه بحاجة إليهم لمقاومة أي
عدوان يهدد سورية.
أمّا ماذا لو غيّرت إسرائيل
أجندتها المسالمة، وقررت قضم
أرضا جديدة أخرى من سورية
،عندها يمكن أن يقال ليس في
سورية رجال. لأن طلاب السلطة
سيهربون، وطلاب المال سيهربون.
وعندها يبادر الرجال أبناء
الرجال الذين حرر آباؤهم سورية
من استعمار فرنسا، وهم في أنفة
ينشدون:
حماةَ الدّيـارِ عليكمْ سلامْ
أَبَتْ أن تَذِلّ
النـفوسُ الكـرامْ
عرينُ العروبةِ بيتٌ حرامْ
وعرشُ الشُّموسِ حِمىً
لا يُضامْ
*كاتب من سورية
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|