ــ
انتخابات
معلبة ونوّاب حسب الطلب!
الطاهر إبراهيم*
تدور في سورية هذه الأيام، رحى
الانتخابات لاختيار أعضاء مجلس
الشعب في دورته التاسعة. وقد
أجمع كل الذين كتبوا عن هذه
الانتخابات أن معركة
الانتخابات كانت حامية ولكنه
"حمو" ليس فيه حرارة
انتخابات أيام زمان. فلا
مهرجانات مؤيدة وأخرى معارضة.
ولا شعارات أو برامج انتخابية
تملأ الصحف والملصقات، بل صور
ملونة زاهية لمرشحين أرادوا أن
يدخلوا نادي أعضاء مجلس الشعب.
في هذه الدورة كما في الدورات
الثماني التي سبقتها، لا يتوقع
أن نشهد مفاجآت، لأن الانتخابات
فيها معروفة النتائج –على
الأقل في ثلثي أعضاء هذا المجلس-
من قبل أن يجرى الاقتراع.
مجلس الشعب في سورية لم يعد دوره
رقابيا، لأن الرقابة، إن وجدت،
فهي منوطة بحزب البعث. ولا
تشريعيا، فمعظم القوانين
والمراسيم تصدر عن رئيس
الجمهورية. ولأن الأصل أن تعرض
القوانين على مجلس الشعب، فهي
تمرر وتجاز بشكل روتيني، لأن
هذه القوانين تخضع لرقابة حزب
البعث، حيث تعطى التعليمات
للوزراء لدراسة القوانين
المقترحة. أما موافقة مجلس
الشعب عليها فهي من قبيل تحصيل
الحاصل.
ولمن يهمه أن يتفحص ما يجري خلال
فترة التغيير، وأن يرصد ما أصبح
ملتصقا بعملية التجديد لفترات
المجلس كل أربع سنوات، فإنه سوف
لا يستطيع أن يسجل مظاهر فارقة
بين دورة انتخابية وأخرى –إن
جاز تسميتها انتخابا- ولن يجد
هناك علامات فارقة، كما هو
الحال في انتخابات العهود
الديمقراطية قبل عهد حزب البعث.
أما في الانتخابات التي حصلت
أثناء الاستعمار الفرنسي
وبعده، فكانت هناك انتخابات
نيابية حقيقية.
بعد الاستقلال وقبل انقلاب "الزعيم"
كانت الانتخابات النيابية تجري
على مرحلتين . فيتم اختيار "المُنْتَخَبين
الثانويين" أولا، ثم يقوم
هؤلاء بانتخاب النواب. يروى أن
متنافِسَيْن من مدينة إدلب ( 60
كيلو متر جنوب غرب حلب ) تقارب
عدد أوراق المنتخبين الثانويين
لكل منهما. وفجأة وثب مندوب
أحدهما -ومن دون أن يشعر أعضاء
لجنة الفرز-أخذ مجموعة من أوراق
المنافس الآخر وابتلعها وطلب أن
يتم إعادة الفرز، وهو أمر معهود
في العملية الانتخابية. وعند ما
تمت إعادة الفرز نجح موكله،
والقصة على ذمة من روى.
على سبيل المثال في عام 1956 شغر
مقعد نيابي في مدينة دمشق بموت
صاحبه. وترشح الشيخ "مصطفى
السباعي" رحمه الله تعالى
لملء المقعد الشاغر. كمارشح
البعثيون "رياض المالكي"
شقيق "عدنان المالكي" -اتُّهِمَ
حزب القوميين السوريين
باغتياله عام1955- منافسا له.
وكانت معركة انتخابية حامية
الوطيس أرسل فيها "فارس
الخوري" بنتيه للدعاية للشيخ
السباعي. وقد نزلت حكومة "التجمع
القومي" –كان للبعثيين هيمنة
فيها- بثقلها في المعركة إلى
جانب المالكي. انتهت المعركة
بتزوير الانتخابات لصالح "المالكي"
بعد أن نزل الجيش بكثافة إلى
لشوارع لتأييده، مع أن الشيخ
السباعي كان نائب دمشق في
انتخابات 1949 ، وحاز على أعلى
الأصوات في تلك الانتخابات.
في العهود الديمقراطية في سورية
كانت الانتخابات النيابية تفرز
قادة سياسيين. ولذلك كان يتنافس
فيها رجال مشهود لهم بقوة
الحضور السياسي، ويسعى أصحاب
المناصب الرفيعة للترشح فيها.
حتى أن وزير الأوقاف الأسبق "محمد
الخطيب"، وكان رئيسا للشعبة
السياسية في محافظة إدلب في عهد
الانفصال والحاكم الفعلي فيها،
استقال في عام 1961من منصبه وترشح
للانتخابات في إدلب مع أنه
دمشقي. اليوم يختلف الأمر،
فأعضاء مجلس الشعب لا تكاد تجد
منهم من هو صاحب قرار. لذلك إذا
ذهب عضو المجلس للحج وصدف أن
تغدى عند أحد أصحابه القدامى
السوريين المقيمين في مكة
المكرمة أو المدينة، فإنه يخبر
رئيس فرع المخابرات
عند عودته حتى لا يأتيه الخبر من
غيره وتصبح قصة ورواية.
العهود الديمقراطية في سورية
كانت قصيرة للغاية (امتدت على
مدى سنتين بعد الاستقلال وأربع
سنوات بعد إطاحة الشيشكلي عام
1954 وحتى إعلان الوحدة عام 1958،
وسنة ونصف في عهد الانفصال من
أيلول 1961 حتى آذار 1963). وكان يجري
فيها التنافس بين الأشخاص في كل
مدينة، وتتشكل قوائم تضم
ائتلافا بين الأشخاص والأحزاب.
على سبيل المثال فقد شهدت
انتخابات عام 1961تآلف شخصيات
مسيحية مع مرشحين من الإخوان
المسلمين وشكل الإخوان قائمة في
حلب كان فيها "عبد الله يوركي
حلاق" وآخرين من النصارى. كما
شكل الإخوان قائمة في حماة
كان معهم فيها "ألبير منصور"
وآخرون. ومع ذلك نجد من يتهم
الإخوان بأنهم طائفيون. وقد
أشرنا آنفا إلى الدعم الدعائي
الذي قدمه فارس الخوري للشيخ
السباعي عندما أرسل بنتيه
للدعاية له.
الانتخابات التي تجري في سورية
حاليا لا تمت إلى الجو
الانتخابي الذي كان يسود في تلك
العهود، رغم ما كان يخالط تلك من
تجاوزات كما أشرنا لذلك آنفا.
وحتى الانتخابات التي كانت تجري
في فترة الانتداب الفرنسي كانت
تتصف بكثير من الحيادية
والنزاهة. وشهدنا أن عملاق
الوطنية الرئيس السوري "شكري
القوتلي" رحمه الله تعالى كان
قد انتخب رئيسا لأول مرة في
أواخر عهد الانتداب، رغم كره
الفرنسيين له.
لا أريد أن أسهب كثيرا في وصف
الحالة الانتخابية التي جرت
وتجري في سورية حاليا. فقد كتب
عنها كتاب سوريون، منهم من يعيش
في سورية حاليا، مثل الأديب "فائز
سارة" والأديب الشاب "ماجد
رشيد العويد" وآخرون. وسواء
أكانت الانتخابات على مستوى
مجلس الشعب أو النقابات المهنية
أو كانت انتخابات محلية، فإنها
لا يتوفر فيها الحد الأدنى من
الديمقراطية ألا هو الاختيار
الحر والمباشر من الناخب للمرشح
. ويكفي أن نذكر أن "ثلثي"
أعضاء مجلس الشعب يتم تسميتهم -ابتداء-
من قبل القيادة السياسية في
سورية.
ما يجري يوم الاقتراع من وضع
أوراق انتخابية في صناديق
الاقتراع بأسماء "الثلثين"
هو شكلي ومن قبيل تحصيل حاصل،
لأنهم ناجحون بمجرد تسميتهم أي
أن انتخابهم يجري قبل الاقتراع .أما
الثلث الباقي فيشغله من يسمون
بالمستقلين. وهؤلاء "المستقلون"
ليسوا بعيدين –على كل حال- عن
أعضاء فروع حزب البعث في
المحافظات، وبالتالي نادرا ما
يحصل تزوير لصالح هذا المستقل
وضد ذاك المستقل الآخر. وهذه
نقطة تحسب لحزب البعث، ولا تحسب
عليه.
اختيار
ثلثي أعضاء مجلس الشعب من قبل
القيادة السيادية ليس قفزا فوق
قانون الانتخاب، بل هو منصوص
عنه في القانون الانتخابي
الساري في سورية منذ
أكثر من ثلاثة عقود. والسبب
معروف حتى يكون دائما مضمون
إمكانية تغيير الدستور فلا
تفاجأ القيادة بمن يقف في وجهها
إذا رغبت في تعديل مادة في
الدستور أو أكثر.
وإذا كان وزير الثقافة الحالي
"رياض نعسان آغا" يعتبر ذلك
"خصوصية سورية"، فإن هذه
الخصوصية -في نظر الديمقراطيات
في العالم- يعتبر تعيينا
وظيفيا، وتعليبا للديمقراطية
من أجل إيجاد ممثلين حسب الطلب
ووقت الحاجة.
*كاتب سوري
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|