ــ
إدارة
بوش.. وتساقط خيارات الحرب!
صبحي
غندور*
لم يدرك كثيرون في
العالم بعد المغزى السياسي
الكبير لنتائج الانتخابات
الأميركية الأخيرة في نوفمبر
الماضي. فهي لم تكن كغيرها من
الانتخابات "النصفية"
الفرعية في الحياة السياسية
الأميركية، بل إنّ هذه
الانتخابات كانت بداية نهاية
الأجندة الخاصة بإدارة بوش
ورموزها الفاعلة في أكثر من
موقع سياسي وأمني داخل الولايات
المتحدة.
ومن الخطأ تصوير
ما يحدث الآن في أميركا وكأنّه
صراع تقليدي بين "الديمقراطيين"
و"الجمهوريين" في إطار
معركة الرئاسة القادمة في العام
2008.
إنّ أميركا تعيش
الآن حالة تهاوٍ وترنّح لأجندة
رافقت إدارة بوش منذ استلامها
الحكم في مطلع العام 2001، فهي لم
تكن مجرّد إدارة "جمهورية"،
بل قامت على مجموعة أشخاص عرفهم
الأميركيون والعالم باسم (المحافظين
الجدد)، وعلى برنامج عمل سياسي
وأمني استهدف التحكّم بالعالم
من خلال استسهال التحكّم في
أميركا بعدما أصابها من إرهابٍ
كبير في سبتمبر 2001.
وظهرت قيمة
الانتخابات الأميركية الأخيرة
من خلال اضطرار الرئيس بوش إلى
إقالة وزير الدفاع دونالد
رامسفيلد ثمّ السفير في الأمم
المتحدة جون بولتون بعدما كان
بوش ونائبه تشيني يؤكّدان على
استمرار رامسفيلد وبولتون
معهما إلى نهاية فترة بوش
الرئاسية.
لقد سقط برنامج
إدارة بوش أميركياً مع سقوط
حزبه في الانتخابات الأخيرة.
والانتخابات هذه لم تكن على
قضايا محلية كما جرت العادة، بل
كان موضوع العراق وما فيه من
رمزية لكل برنامج إدارة بوش، هو
معيار الناخب الأميركي في
اختيار المرشحين بالانتخابات.
وقد أدرك الحزب الديمقراطي هذه
الرسالة الشعبية، وهو يتحرّك
منذ نوفمبر الماضي على هذا
الأساس. وهذا "المعيار" –
أي الحرب في العراق- يزداد
سخونةً يوماً بعد يوم، ويؤكّد
صوابية رأي المعارضين للإدارة
ولنهجها السياسي الخارجي.
لقد أسقطت
الانتخابات الأميركية الأخيرة
احتمالات حروب أخرى كانت إدارة
بوش تسعى لها أو تهدّد بها،
وتحوّلت سياسة الإدارة من نهج
يدعو إلى تغيير أنظمة إلى دعوات
لتغيير "السلوك"!
فقد اضطرّت إدارة
بوش بعد سنوات من سياسة العزل
والتهديد لكوريا الشمالية إلى
أن تتفاوض معها وأن توقّع معها
اتفاقيات كانت لا تقبل قبل
نوفمبر الماضي بها.
وكذلك تراجعت
التهديدات العسكرية ضدّ إيران
ليسود مكانها دعوات للتفاوض
ولحلّ أزمة الملف النووي
الإيراني بشكل دبلوماسي!
ثمّ فجأةً شجعت
واشنطن على إحياء المبادرة
العربية للسلام وعلى التعامل مع
الملف الفلسطيني بشكلٍ أكثر
جدّية!
أيضاً، أسقطت
واشنطن الكثير من المحظورات في
كيفية التعامل مع الداخل
العراقي، فإذا هي ترحّب بعودة
ضباط وعسكريين من الجيش العراقي
السابق، وتتراجع عن قرار اجتثاث
"حزب البعث"، وتقيم
اتصالات ومفاوضات مع مجموعات من
المقاتلين العراقيين المقاومين
لها، كما تدعو إلى مشاركة وطنية
عراقية أوسع في الحكم!
فما هو سائد الآن
من خط انحدار وتراجع في نهج
إدارة بوش غير قابل للصعود
مجدداً في الأشهر المتبقية من
فترة هذه الإدارة. وهذا أمر
أدركه حليف بوش الوفي طوني
بلير، فكان قرار الأخير بسحب
القوات البريطانية من العراق
رغم ما تعنيه هذه الخطوة من
إساءة كبيرة لحليفه بوش.
إنَّ إدارة بوش
سارت لأكثر من خمس سنوات (2001-2006)
على طريق مسدود، وهاهي الآن
تختار التراجع البطيء لحفظ ماء
الوجه، ولمراعاة مصالح داخلية
أميركية تقف مع هذه الإدارة
وتخاف على مستقبلها بعد انتهاء
حقبة بوش. فالضغط الداخلي
الأميركي هو ليس من الحزب
الديمقراطي أو الرأي العام
الأميركي فقط، بل أيضاً من داخل
أوساط الحزب الجمهوري ومن مراكز
فاعلة في الحياة السياسية
والاقتصادية الأميركية.
ماذا يعني ذلك
كلّه بالنسبة للمنطقة العربية؟
أعتقد أنّنا أمام
أشهر قليلة (حتى شهر أكتوبر
القادم) ستشهد جملة تطوّرات
معاكسة للاتجاه الذي كانت عليه
سياسة إدارة بوش في السنوات
الماضية. فلم يعد أمام هذه
الإدارة سوى خيار التراجع
والمراهنة على نتائج إيجابية من
هذا التحوّل الاضطراري. فإدارة
بوش تأخذ الآن بتوصيات مجموعة
بيكر/هاملتون بأسلوب التقسيط
والجرعات بعدما رفضت في نهاية
العام الماضي تناول هذا الدواء
المرّ دفعة واحدة.
وسيكون محور هدف
التحرّك الأميركي القادم هو
تحسين الأوضاع السياسية
والأمنية في العراق، وتسهيل سحب
عدد كبير من القوات الأميركية
دون إعلان جدول زمني، وإنّما
ربط الانسحابات المبرمجة
بتحسين الأوضاع في العراق، ممّا
سيسمح للإدارة قبل صيف العام 2008 بادّعاء
أنّها حقّقت إنجازاً في العراق
وفي السياسة الخارجية
الأميركية ككل اعتماداً على ما
سيرافق الأوضاع العراقية من
مفاوضات مع كل الأطراف المعنية
أو المجاورة للعراق. فخيارات
الحرب والتصعيد العسكري مع
إيران وسوريا قد سقطت الآن،
كذلك المراهنة على دور إسرائيلي
جرت تجربته وباء بالفشل من خلال
الحرب الإسرائيلية الأخيرة على
لبنان في الصيف الماضي. الأمر
نفسه تكرّر تجاه الفلسطينيين
وحكومة "حماس" وسقوط
المراهنة على حرب أهلية
فلسطينية بعدما خرجت إلى الوجود
حكومة الوحدة الفلسطينية حصيلة
اتفاق مكّة.
إذن، فإدارة بوش
مضطرّة الآن (وبفعل ضغط داخلي
أميركي وخارجي أوروبي وعربي)
إلى التفاوض مع إيران وسوريا
بعدما سقطت أو تعذّرت الخيارات
الأخرى.
وسيكون مؤتمر شرم
الشيخ بشأن العراق هو المدخل
الآن لهذه المفاوضات الأميركية
مع إيران وسوريا، إضافةً إلى
الدور الأوروبي العامل حالياً
من أجل تشجيع المفاوضات مع
إيران والتوافق معها على كيفية
حل أزمة الملف النووي الإيراني.
وستنعكس هذه
المفاوضات الأميركية القادمة
مع طهران ودمشق ليس على أوضاع
العراق فقط، بل أيضاً على
الساحتين اللبنانية
والفلسطينية. وقد يكون شهر
سبتمبر القادم أو مطلع أكتوبر
هو الحدّ الزمني اللازم لإظهار
نتائج هذه المفاوضات، ولكي
يتزامن ذلك مع إمكان عقد مؤتمر
دولي يعتمد على صيغة "المبادرة
العربية للسلام" من أجل تحقيق
تسوية مع إسرائيل على الجبهتين
السورية واللبنانية وتوقيع
اتفاقات كمحصّلة لانسحاب
إسرائيلي من الجولان ومزارع
شبعا اللبنانية. كذلك، قد يكون
المؤتمر الدولي، الذي ستشارك
فيه حكومة الوحدة الفلسطينية،
مناسبة للاتفاق على صيغة "الدولة
الفلسطينية" وعلى انسحابات
إسرائيلية من بعض مناطق الضفة
الغربية (وربّما من القدس
الشرقية لتكون عاصمة للدولة
الفلسطينية)، وعلى استئناف
المساعدات الدولية للسلطة
وحكومتها، وتحويل القضايا
العالقة (الحدود وحقّ اللاجئين
بالعودة) إلى مفاوضات لاحقة
برعاية دولية وعربية بعدما تكون
الاتفاقات مع إسرائيل قد شملت
سائر الجبهات!
هذا سيناريو
متوقّع الآن، وتؤكّده محصّلة
اللقاءات والتطورات التي تحدث
في أكثر من مكان، لكن كم هو مهمّ
أن يترافق ضعف الإدارة
الأميركية وضعف حكومة أولمرت في
إسرائيل مع قوة مفقودة حتى الآن
للمفاوض العربي؟!
تبدو مشكلة
المنطقة العربية أنّها تراهن
دائماً على متغيّرات الخارج
بينما يظلّ الجمود هو السمة
السائدة فيها..
*مدير
"مركز الحوار العربي" في
واشنطن
alhewar@alhewar.com
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|