ــ
وجه
فرنسا الجديد
د.
مخلص الصيادي
ملامح
الوجه الجديد
بات
وجه فرنسا الجديد واضحا : نيقولا
ساركوزي ، اليميني الذي
يصفه المحللون بأنه النسخة
الفرنسية لليمين الحاكم في
واشنطن ، وقد أشار الرجل إلى
موقعه هذا في أكثر من مرة ، بل
واختار أن يقول للعرب بوضوح أنه
مؤيد لا شروط له لإسرائيل ، وأن
يقول للجالية العربية والمسلمة
في فرنسا أنه
يرى فيها خطرا يجب التصدي له من
خلال سياسة دمج، وسياسة هجرة
مضبوطة، وسياسة تعامل صارم مع
احتياجاتها واحتجاجاتها ، وأن
يقول للبيت الأبيض الأمريكي أنه
صديق لاشك فيه للولايات
المتحدة ، وبكل
الأحوال فإنه يمثل قطيعة مع
ماضي السياسة الفرنسية .
وإضافة
إلى موقعه اليميني فإن دراسة
مواقف ساركوزي وتصريحاته تضيف
أمرين اثنين أو هي تقدم تفصيلا
محددا في أمرين اثنين :
الأمر
الأول
يخص
توجه تركيا لنيل مقعد في
الاتحاد الأوربي ، وقد حسم رئيس
فرنسا الجديد موقفه بتأكيد
معارضته لاكتساب هذا البلد
المسلم بطاقة العضوية في هذا
الاتحاد ، أي أن المسألة
بالنسبة إلى تركيا لم تعد
مرتبطة بشروط يجب أن توفرها ،
ومعايير يجب عليها الالتزام بها
، وإنما هناك رؤية جديدة تقول إن
تركيا ليست أوربية ، وإنما
تنتمي جغرافيا لمنطقة آسيا
الصغرى. والسبب الرئيس يعود على
ما يبدو إلى دين شعب هذا البلد
الذي تلتزم دولته بالعلمانية
منذ أكثر من ثمانين عاما ، وقد
طرح ساركوزي بدلا
من ذلك أن تكون تركيا فاعلة في
إطار تعاون أوسطي ـ أوروبي ،
وهذا طرح يجد صداه المباشر عند
القيادة الألمانية الراهنة
وعند كثير من الحكومات اليمينية
الأوربية .
الأمر
الثاني
العمل
على إعادة إحياء المحور الفرنسي
الألماني داخل الاتحاد الأوربي
وإعطائه الحيوية التي افتقدها
خلال السنوات الأخيرة ،ومن هنا
فإن تعزيز العلاقات الفرنسية
الألمانية تمثل أولوية في تحرك
وتوجه الرئيس الجديد
، فقد توفرت
بهذه القيادة اليمينية
الفرنسية حالة
انسجام بين قطبي الاتحاد
الأوربي ـ فرنسا وألمانيا ـ حيث
تتفق القيادتين على موقف موحد
من تركيا ، وموقف موحد من
العلاقة مع الولايات المتحدة ،
وموقف موحد من فلسفة العمل
الاجتماعي ودور الدولة في
المجتمع . مما يدفع إلى الاعتقاد
بأن مرحلة جديدة من الحيوية قد
تبعث في بنية الإتحاد الأوربي .
وقبل
أن نختم إطلالتنا على الوجه
الجديد نشير إلى أن كل حديث عن
جذر يهودي للرئيس
الجديد باعتبار أمه يهودية ، لا
يعني الكثير في رؤية وتحليل
الموقف السياسي ، وقراءة
الاستراتيجية السياسية ، ذلك أن
الموقف من الكيان الإسرائيلي ،
ومن الحركة الصهيونية لم يكن
يوما موضع خلاف بين أحد من قادة
الغرب ، إضافة إلى أن الرئيس
الجديد باعتباره زعيم تجمع
اليمين إنما
تصدر موقعه في الحزب أولا ، وفي
الدولة لاحقا استنادا إلى ما
اعتمده من سياسة وما قدمه من رؤى
، ومن هنا فالموقف لا يعود موقفا
شخصيا ، وإنما موقفا حزبيا
وموقفا لأغلبية المجتمع
الفرنسي
**السؤال
المهم
بعد
هذه النظرة الأولية للقيادة
الفرنسية الجديدة يبرز السؤال
الرئيس : ما الذي تقدمه هذه
القيادة للنظام العربي وقضاياه
، أو ما الجديد الذي يمكن أن
تتخذه هذه القيادة إزاء قضايا
العرب .
بعض
هذا المنتظر نتلمسه في البرقيات
التي تلقاها ساركوزي بمناسبة
فوزه بمقعد الرئاسة ،
فقد اتفقت حركة حماس وحزب
الله في التعبير عن مخاوفهما من
موقف فرنسي تابع للموقف
الأمريكي وعبرا عن الأمل في أن
يكون لفرنسا مواقف دافعها البحث
عن العدل والحق والاستقلالية
، في لبنان ، وفي فلسطين .
وإذ
أعرب فريق 14 آذار في لبنان عن
سعادته بهذا الفوز مع تطلعه إلى
استمرار الموقف الفرنسي على
حاله إزاء الأزمة اللبنانية
الداخلية ، فإن النظام العربي
برمته يعتبر خارج نطاق القدرة
على قول شيء، أو على فعل شيء، من
يوم أن ربط نفسه بمسار السياسة
الأمريكية والغربية ، فصار جل
ما يستطيع أو ينتظر منه ،
التعبير عن الأماني ، والمسارعة
في التهنئة ، وانتظار الفعل من
الآخرين
وعبرت
رموز الجالية العربية
الاسلامية عن التخوف من مثل هذه
القيادة التي تثير رياح
المواجهة مع أجيال فرنسية ذات
أصول عربية وتدين بالإسلام ،
ولها الحق نفسه الذي اكتسبه
الرئيس الجديد البولندي الأصل ،
ولعل المواجهات الدامية التي
شهدتها شوارع باريس ومدن فرنسا
الأخرى ليلة فوز ساركوزي هي
التعبير عن هذا التخوف
**عودة
لطرح السؤال نفسه
لكن
لندع هذه المواقف ولنعيد طرح
السؤال عن المتوقع من مواقف
القيادة الفرنسية الجديدة من
قضايانا
يجب
أن نحدد أولا الجغرافيا
السياسية في الوضع العربي ، أو
القضايا العربية التي تنتظر
مواقفا ، وتحرك قوى ، وتصنع
أحداثا .
هذه
المواقع والقضايا محددة وواضحة
في :فلسطين ، العراق ، لبنان ،
سوريا ، السودان ، الصومال
، ثم أفغانستان ، وإيران
باعتبارهما طيف لهذه الجغرافيا
العربية ، وتخاض بهما المعركة
ذاتها ، إضافة إلى أنهما تمثلان
مشاريع مستقلة للقوى العاملة
فيهما .
فما
الموقف الفرنسي السابق في هذه
المواقع وإزاء القضايا المثارة
فيها ، وما هو المنتظر من
القيادة الجديدة .
فيما
عدا الموقف من غزو العراق ، حيث
عارضت باريس الغزو ، فإنه ليس
هناك مواقف ذات قيمة ، أو تمتلك
استقلالية فعلية عن الموقف
الأمريكي ، يمكن أن تسجل لفرنسا
، والموقف من غزو العراق قد صار
جزءا من التاريخ ، ليس لأنه حدث
قد مضى ، وإنما لأن الغزاة
أصبحوا بحكم المقاومة العراقية
المتصاعدة في مأزق خانق يبحثون
عن سبيل للخلاص ، ولم يعد مهما
لهم ، من وقف معهم حين بدأ الغزو
، ومن لم يقف ، وليس في مقدور
موقف مؤيد الآن أو معارض للغزو
أن يقدم للمأزق الأمريكي أي
فائدة أو مساعدة ، فأدوات الفعل
والتأثير في العراق بيد
المقاومة وحدها ، والبيت الأبيض
الأمريكي محشور بين سيل القتلى
من الجنود الأمريكيين في العراق
وهو سيل لا يتوقف وفي تصاعد دائم
، وبين الحصار الخانق الذي يمضي
به الديموقراطيون في مجلسي
الكونغرس إلى مداه ، محملين
الرئيس وإدارته مسؤولية كارثة
الغزو ، ومسؤولية السلوك غير
الأخلاقي في افتعال هذه الحرب
وفي إدارتها .
وفي
لبنان ، أكثر المواقع تأثرا
بالموقف الفرنسي فليس في مقدور
القيادة الفرنسية الجديدة أن
تقدم للموقف الأمريكي ، أو
للقوى اللبنانية المرتبطة فيه
أكثر مما قدم الرئيس الفرنسي
المنقضية ولايته جاك شيراك ،
فقد أعطى ذلك الرئيس لواشنطن
موافقة مفتوحة لكل ألوان
سياساتها تجاه لبنان بما في ذلك
تلك الحرب التي شنها الصهاينة
عليه في يوليو من عام 2006 .
نعم قد يعطي ساركوزي شيئا
لواشنطن ، لكن ليس في المنطقة
العربية والإسلامية مباشرة
وإنما في جانب العلاقة مع روسيا
ـ وهي علاقة بدأت تتأزم
حاليا بين موسكو وواشنطن ـ
ويبدو أن الرئيس الجديد سيكون
إلى جانب واشنطن في هذا المسار
متخليا عن موقف الصداقة
والتعاون مع موسكو الذي طبع عهد
الرئيس جاك شيراك ، لكن لهذا
الجانب من السياسة الخارجية
الفرنسية المرتقبة حديث آخر .
إن
أمريكا غارقة في العراق ،
وإسرائيل غارقة في زلزال ذلك
العدوان على لبنان
الذي هزمت فيه شر هزيمة ،
ولا تستطيع قيادة فرنسية جديدة
أن تقدم قليلا أو كثيرا أو جديدا
في هذين الموقعين ،أما في باقي
المواقع فإن السياسة الفرنسية
هي في الجوهر سياسة أطلسية من
أفغانستان وحتى الصومال ، ومن
هذه الزاوية فإن مأزقها وفرصها
بآن واحد هو مأزق وفرص تلك
السياسات الأطلسية .
هل
هذا يعني أن السياسة الخارجية
الفرنسية إزاء قضايانا
والتي تعلن وقوفها إلى جانب
البيت الأبيض ، جاءت في وقت
عطالة وانتكاسة السياسية
الأمريكية وبالتالي فهي لا
تستطيع أن تقدم لها شيئا ؟!
يمكن
قول ذلك ، بل إن هذا هو الأقرب
الصحة في فهم حدود الدور
الفرنسي في
المرحلة القادمة ،
وإذا كنا نبحث عن جديد في
السياسة الفرنسية ، فإن الجديد
الحقيقي سنجده في سياسة فرنسا
الأوربية ، في بناء الاتحاد
الأوربي ، وفي سياسة فرنسا تجاه
قضايا المهجرين ، والجاليات
العربية الاسلامية ، وبالتبعية
تجاه الدول المغاربية التي تصل
منها معظم أمواج الهجرة غير
المشروعة .
نعم
الجديد سيكون في إطار السياسة
الأوربية والداخلية ، لكن لابد
من ملاحظة
إضافية في
مجال رؤيتنا للسياسة الخارجية
الفرنسية القادمة ، ملاحظة قد
لا يكون لها تأثير فعلي على
المواقف العملية لكنها ذات
دلالة معرفية ،وهي أن القيادة
الفرنسية الجديدة في سبيلها إلى
إلغاء ظاهرة قديمة كانت تقول : إن
اليمين الفرنسي كان دائما إمبريالي
أكثر ، واليسار الاشتراكي كان
دائما صهيوني
أكثر ،
الآن يبدو أن ساركوزي سيلغي هذا
التمايز ليكون حزبه هو الأكثر
إمبريالية ، والأكثر صهيونية
بآن .
**فرنسا
في العصر الجديد
لقد
اختار الشعب الفرنسي ، البرنامج
اليميني في إدارة شؤونه خلال
السنوات الخمس القادمة ، وأهمية
هذا الخيار أنه جاء في وقت تنتقل
فيه قيادة فرنسا من جيل إلى جيل
، ومن مفاهيم وأفكار في اليمين
واليسار إلى مفاهيم وأفكار أخرى
،أي أن الفرنسيين اختاروا
اليمين وبرنامجه طريقا ومعبرا
إلى المستقبل
، وستتأكد دقة هذا الحكم مع
نتائج الانتخابات البرلمانية
القادمة ، حين تعطي هذه
الانتخابات لليمين الأغلبية
كما هو أمر متوقع ، وحينها سيكون
مفيدا دراسة معنى صعود اليمين
في فرنسا كخيار شعبي ، وبالتالي
توقع أفاق التوترات داخل فرنسا
، وقد عبرت عن مثل هذا التوقع
والتخوف سيغولين روايال
المرشحة الاشتراكية التي خسرت
معركة الرئاسة ، ومعها يجب أن
تدرس حدود الفكر الديموقراطي
وتجليات الفكر العنصري عند
الأجيال الفرنسية الصاعدة .
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|