ــ
نعم
.. نحو عالم متعدد الأقطاب
بيدر
التل*
لقد انفردت
الولايات المتحدة الأمريكية في
أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي
على المسرح الدولي وأصبحت تهيمن
على السياسة الدولية ، فبعد
انهيار منظومة الدول
الاشتراكية لم يتبقى منافس
للولايات المتحدة الأمريكية
،وعلى اعتبار أن بريطانيا
وغيرها من الدول أصبحت التابع
المطيع لواشنطن... وانتهت
بريطانيا العظمى منذ سنين طويلة
.
فقد تحول العالم من
ثنائي القطبية إلى عالم أحادي
القطبية، وهنا الكارثة، تسيطر
عليه قوة قطبية وحيدة، تتدخل
بما تريد، تفرض أرادتها على
الجميع ،لا احد يستطيع أن
يوقفها عند حدودها وهذا يعني
حدوث اختلال في التوازن الدولي .
بعد انهيار الاتحاد
السوفيتي ظهرت روسيا الاتحادية
كوريث وحيد للقوة السوفيتية،
وقد كانت مهيأة لأن تكون قوة
منافسة للولايات المتحدة وتكمل
مسيرة الاتحاد السوفيتي ولكن
بأفكار جديدة !
فقد ورثت عن
الاتحاد السوفيتي المساحة
والثروات الطبيعية الهائلة
واستحوذت على أغلبية ترسانات
الأسلحة التي كان يملكها
الاتحاد السوفيتي، وهذا وحده
كاف لبقائها قوة عظمى في العالم.
لكن شهدت فترة
التسعينات أسوأ المراحل التي
مرت بها روسيا على الإطلاق ! فقد
كان بتولي الرئيس ( يلتسن ) الحكم
"الذي عرف بطارد الشيوعيين
" أن أجهز على تلك الامتيازات
التي ورثتها روسيا عن الاتحاد
السوفيتي وقضى
عليها.
نعم ... لقد أعاد
روسيا الى الحضيض وقد استحوذ
رجال الأعمال والمافيات على
الأجهزة الحيوية في الدولة ،
وسيطروا على مراكز صنع القرار
في الحكومة ، واستحوذوا على
معظم القطاعات الحيوية ...
كقطاعي الغاز والنفط بسبب
عمليات الخصخصة الواسعة التي
أطلقها يلتسن و بيعه لممتلكات
الحكومة !! وبالإضافة إلى ذلك
إهماله للقطاع العسكري وصناعات
الأسلحة .. وهذا أدى إلى تراجع
كبير في مستوى تلك الأسلحة
وتجارة الأسلحة التي كانت تشكل
إحدى ركائز الاقتصاد السوفيتي ..
وبهذا أدى إلى
انهيار اقتصادي وسياسي مريع ،
وفقدت روسيا هيبتها الدولية
وأصبحت خاضعة للإرادة
الأمريكية لا تستطيع معارضتها ..
وأصبح السيد يلتسن كما قيل مجرد
دمية في يد الغرب يتم
تحريكها بما يناسب المصالح
الغربية ..
وبقي الوضع كما هو
عليه إلى أن جاء بطل روسيا
القومي ، منتشل روسيا من
المستنقع القذر الذي وضعها به
يلتسن ، نعم .. انه الرئيس
فلادمير بوتن ، الذي سرعان ما
باشر بعمليات تصحيحية شاملة
للأوضاع المأساوية ، وبدأ
بإعادة بناء الاقتصاد المنهار
واستعادة الممتلكات الحكومية
وخاصة في القطاعات الحيوية
كقطاع النفط ... ونذكر على سبيل
المثال: ( شركة يوكوس العملاقة
التي كان يملكها اليهودي
ميخائيل خودروكوفسكي الذي حكم
عليه بالسجن 9 أعوام بسبب الفساد
والتهرب الضريبي ) .
ولا ننسى القطاع
العسكري الذي نهض به وأعاد له
مكانته وأصبحت روسيا منافسا
قويا للولايات المتحدة بالنسبة
إلى تجارة الأسلحة وتصديرها
،وبذلك وضع الرئيس بوتن روسيا
على الطريق الصحيح ونهض بها
وبدأ بإعادة مكانتها وهيبتها
الدولية التي خسرت الكثير في
فترة حكم يلتسن .
ولكن .. الرئيس بوتن
لن يرضى بان تبقى واشنطن مهيمنة
على العالم ولن يرضى بعالم
أحادي القطبية ، فهو يرغب
بإعادة أمجاد روسيا ، واستعادة
مكانتها الدولية ، فهو يرفض "
تهميش" روسيا وإبعادها عن
السياسة الدولية !!
وبدأ بوتن باتخاذ
مواقف متعارضة تمامًا مع
السياسة الأمريكية وخاصة في
أكثر المناطق توتراً في العالم
..
فمثلاً: (الولايات
المتحدة الأمريكية ترفض
التعامل مع حكومة حماس وترفض
أيضا التعامل مع النظام السوري
بشكل أفضل ..
ولكن بالمقابل نرى أن موسكو
ترحب بحركة حماس وتعترف بها ..
وكذلك تعتبر سوريا حليفتها في
المنطقة وقد وافقت موسكو قبل
فترة على بيع أنظمة صواريخ
متطورة إلى الحكومة السورية،
غير آبهة بالاعتراضات
الأمريكية والإسرائيلية )..
فقد بدأت موسكو
تتبع سياسة جديدة ومغايرة عن
تلك السياسة المذلة التي كانت
متبعة في فترة التسعينات ،
وبقيت السياسة الروسية على هذا
الحال إلى أن فجر الرئيس بوتن
خطابه التاريخي في مؤتمر ميونخ
للأمن الذي يعتبر نقطة تحول
مفاجئة في السياسة الروسية .. و
بداية انهيار مفهوم " العالم
الأحادي القطبية " !!
فقد انتقد الرئيس
بوتن السياسة الأمريكية بشكل
لاذع ، فالولايات المتحدة تحاول
فرض أرادتها على العالم ، وان
تكون الدولة العظمى الوحيدة في
هذا العالم .. ومن ابرز ما قاله
الرئيس بوتن في
هذا المؤتمر والذي يعكس
وجهة نظر الكثير من الدول والتي
لا تستطيع التصريح به بالصورة
التي فجرها بوتن :
(إن الولايات
المتحدة تخرج من حدودها الوطنية
في جميع المجالات وهذا خطير جدا)
واعتبر الرئيس بوتن
أيضا ( " ان العالم الأحادي
الجانب " بقيادة الولايات
المتحدة بعد نهاية الحرب
الباردة لم ينجح مطلقا إلا في
زعزعة الاستقرار في العالم ) ...
نعم .. هذه روسيا
التي نعرفها .. القوية .. التي لا
تهاب احد ،
وبتحليل الخطاب نرى ان السياسة
الروسية ومخططاتها تعمل من اجل
إنهاء السيطرة الأمريكية
المنفردة على الدول وشعوبها ..
التي لم ينتج عنها سوى الكوارث
والويلات على العالم،
والمستفيد الوحيد .. واشنطن .
وبدأت ردود الفعل
الغربية و خاصة الأمريكية
مستنكرة التصريحات الروسية ..
رافضة وصف العالم بالأحادي
الجانب بقيادة الولايات
المتحدة ..
وبدأت حالة التوتر
بين موسكو و واشنطن .. وبدأ تبادل
الخطابات والتصريحات بين
البلدين ، وكأننا عدنا إلى فترة
الحرب الباردة .. أو كأن الحرب
الباردة تطرق الأبواب وتنذرنا
بأنها قادمة لا محالة !!
لكن .. على الرغم من
هذا التقدم الهائل في السياسة
الروسية .. والتغيرات التي طرأت
منذ تسلم بوتن السلطة ... فان
الغرب وعلى رأسه الولايات
المتحدة لن يقبل بأن تحقق روسيا
أهدافها .. بل يريد القضاء على
روسيا وإنهاء وجودها على المسرح
الدولي !
فحلف شمال الأطلسي
يحاول أن يفرض طوقا على الحدود
الروسية عن طريق استقطابه لدول
أوروبا الشرقية ودمجها في الحلف
.. بهدف الإحكام والسيطرة على
الاتحاد الروسي ( رغم إنكارهم ..
بالطبع) ، أما عن الولايات
المتحدة الأمريكية
فهي تريد مؤخرا
نشر درعها الصاروخي عند
الحدود الروسية ، فهي تريد
أقامة أنظمة
مضادة للصواريخ
ورادار متطور في
كل من بولندا وتشيكيا ..
بدعوى " حماية الأمن الأمريكي
من الهجمات الصاروخية ومن
الصواريخ البالستية القادمة من
دول مارقة (المقصود إيران .. )
والتي تريد استهداف الولايات
المتحدة و مصالحها ، والتي لا
تستهدف الاتحاد الروسي" ..
بالتأكيد .. انه
تبرير مضحك !! فهل تملك إيران مثل
تلك الصواريخ أو قادرة على
امتلاكها ؟ وان كانت تملكها .. هل
لديها الجرأة على ضرب الولايات
المتحدة وحلفائها ؟!
لقد اتضحت الأهداف
الأمريكية .. فواشنطن لا تريد
سوى حصار الاتحاد الروسي ،
والسيطرة عليه ، لكي تبقى
منفردة على المسرح الدولي وتحقق
أهدافها الامبريالية ،
والسيطرة على الشعوب والدول
وتبقى القطب الوحيد في هذا
العالم !
أن الرئيس بوتن يعي
هذا الخطر المحدق بالاتحاد
الروسي .. و الأهداف
التي تسعى إلى تحقيقها
واشنطن .. ويتعين على روسيا أن
تباشر باتخاذ مواقف أكثر صرامة
لإيقاف الولايات المتحدة عند
حدودها ، لكي تستعيد موسكو
مكانتها وهيبتها ، وقد باشر
الرئيس بوتن باتخاذ مواقف
ايجابية في مواجهة هذا الخطر ..
فقد أعلن انه سوف يعيد النظر
باتفاقيات الأسلحة التقليدية
مع أوروبا ، واتفاقيات الصواريخ
القصيرة والمتوسطة المدى ، وقد
أعلن مؤخرا عن صواريخ جديدة
قادرة على ضرب الأنظمة
الصاروخية المضادة ( ردا على
الدرع الأمريكي ) كصواريخ
اسكندر .. وقد وصف الرئيس بوتن
السياسة الأمريكية
بالامبريالية والاستعمارية ،
وبدأ باستخدام مصطلح
الإمبراطورية الأمريكية تعبيرا
عن استيائه و رفضه للسياسات
الأمريكية !!
إن هذه التصرفات
الأمريكية الطائشة ستؤدي إلى
سباق شديد للتسلح .. وسوف تعيد
فترة الحرب الباردة، التي عانى
منها العالم فترة طويلة من
الزمن ...
ولكن ..هناك من يرى
في الصين الشعبية واليابان
وألمانيا أقطابا متوقعة في
السياسة الدولية ، بسبب
الاقتصاد المتنامي لهذه الدول
والذي بدأ ينافس الاقتصاد
الأمريكي ..
ولكني أرى أن القطب
الجديد سوف يكون الاتحاد الروسي
بسبب قدرته العسكرية الهائلة
القادرة على منافسة
الولايات المتحدة ، والترسانة
الهائلة من الأسلحة النووية
الرادعة ،والاقتصاد المتنامي
بسبب
استفادته من ارتفاع
أسعار النفط عالميا واستغلاله
لسلاح النفط والغاز للضغط على
الدول المجاورة .. ويمكن أن نضيف
إلى ما سبق المساحة الهائلة
والثروات الطبيعية التي تتمتع
بها روسيا ...
أما عن الصين
واليابان وألمانيا .. وان كانت
تتمتع باقتصاد قوي ، ولكنها
تفتقر إلى القوة العسكرية
والأسلحة النووية الرادعة
القادرة على المنافسة عالميا
وتفتقر إلى المساحة نسبيا ..مقارنة
مع الاتحاد الروسي والولايات
المتحدة، ولكن إن امتلكت
الأسلحة الرادعة، وتبنت سياسات
جديدة عالميا
سوف تكون تلك الدول
احد أقطاب العالم الجدد، وتنتهي
حالة القطبية الأحادية
والسيطرة الأمريكية المنفردة ..
ولكن هل سيأتي
اليوم الذي سيكون فيه العرب
والمسلمين احد أقطاب العالم،
ويسترجعوا مكانتهم وهيبتهم و
ينافسوا الدول العظمى
؟؟
*باحث
سياسي
Baider.tall@gmail.com
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|