ــ
الحركات
الإسلامية بين الاحتواء
والإلغاء.
الطاهر
إبراهيم*
أعادت أحداث غزة الأخيرة بين
حماس وسلطة "محمود عباس"
إلى الأذهان العلاقة الجدلية
والملتبسة بين الحركات
الإسلامية والأنظمة التي تعيش
هاجس الخوف من تنامي التأييد
لتلك الحركات، في ظل تضاؤل
التأييد لهذه الأنظمة. وإذا
كانت الصحافة العربية قد عكست
تأييد معظم الأنظمة العربية
لمحمود عباس، فإن الشارع العربي
كان يسير في اتجاه آخر لا يتناسب
مع ما ذهبت إليه تلك الصحافة.
بعيدا عما شاع عن قيام حماس
بانقلاب على شرعية محمود عباس
وادعاء هذه أنها لا تقل شرعية
بحال عن شرعيته، فالمؤكد أن ما
حصل كان النتيجة المنطقية
لتعايش قلق بين حركة إسلامية
تؤمن بتحرير فلسطين من البحر
إلى النهر، وسلطة تزعم أن لها
حقا تاريخيا في إرث منظمة
التحرير الفلسطينية، وتعمل على
الاكتفاء –في أحسن حالاتها-
بدولة على الأرض التي احتلتها
إسرائيل في حزيران عام 1967.
الملفت للنظر أن حركة حماس
تُعتَبَر من أكثر الحركات
الإسلامية اعتدالا مع أنها نبتت
في ظل احتلال استيطاني دموي لا
يقبل بأي تعايش مع الآخر. ولا
نكاد نجد في طول الوطن العربي
وعرضه حركة غير حماس استطاعت أن
تنمو بجوار عدو استئصالي، لم
تتنازل عن أي من ثوابتها، بل
ورسخت تلك الثوابت في وجدان
الفلسطينيين. وقد عملت إسرائيل
على أن "تشيطن" حماس
وتبعدها عن اعتدالها بدعم من
واشنطن، فاغتالت الشيخ المؤسس
"أحمد ياسين" -مع أنه كان
مقعداً- لأنه كان صاحب النظرية:
"الدم الفلسطيني خط أحمر"
وهو ما لم يرق لإسرائيل التي
عملت جاهدة لدفع الفلسطينيين
إلى الاقتتال .
نحن نزعم أن اعتدال حماس
واشتغالها بمقاتلة الصهاينة
فحسب، هو الذي جمع الفلسطينيين
من حولها، وأن كل الحركات
الإسلامية التي اتصفت
بالاعتدال تجاه الآخر، وكانت
تقارب وتسدد مع الأنظمة
الحاكمة، كانت أكثر شعبية داخل
مجتمعاتها وفشلت الأنظمة
باقتلاعها. وعلى العكس منها
كانت الحركات التي نهجت نهج
العنف سبيلا، فقد استطاعت
الأنظمة أن تروضها أو أن تكسر
شوكتها.
نستطيع أن نأخذ مثالا على ذلك
جماعةَ الإخوان المسلمين في
مصر، حيث اعتمدت نهجا معتدلا
رفضه بعض المتحمسين من الشباب
الذين كانوا يستعجلون قطف
الثمرة. وكان أن انشق عنها -أو
خرج من عباءتها كما يقال-
مجموعات اتخذت العنف سبيلا
للتغيير. إن
الذين رفضوا أسلوب الإخوان
المعتدل في مصر كانوا من الشباب
الذين دخلوا المعتقلات أواخر
عهد عبد الناصر، فعذبوا
وأهينوا، وعندما أطلق سراحهم
كان لهم رأي آخر.
أما في سورية فقد تشكلت حركة "الطليعة
المقاتلة" من شباب انفصلوا عن
جماعة الإخوان المسلمين بعد أن
ظنوا أنهم يمكن أن يختصروا
الطريق الطويل الذي سار عليه
الإخوان، الذين اعتمدوا تربية
الفرد المسلم طريقا وحيدا لقيام
المجتمع المسلم وبالتالي
الدولة المسلمة. بدأت فكرة
الابتعاد مع الشيخ "مروان
حديد" –مهندس زراعي- عندما تم
اعتقاله في أحداث جامع السلطان
في "حماة" عام 1964. وعندما
أطلق سراحه عزم على السير في
طريق آخر اعتبره الأقصر من ذلك
الذي سلكه الإخوان المسلمون،
وشكل نواة الطليعة المقاتلة"،
ثم لم يلبث أن لوحق واعتقل وعذب
حتى مات في المعتقل عام1964 فخلفه
من بعده "عبد الستار الزعيم"
في قيادة "الطليعة" الذي
وضع خطة سرية لاستهداف ضباط في
المخابرات، انتقاما لوفاة
الشيخ مروان حديد تحت التعذيب
في المعتقل.
روى شاهد عيان حضر لقاءً للمرحوم
الشيخ "عبد الله ناصح علوان"
مع "حسني عابو" الذي كان
يقود الطليعة المقاتلة في حلب
بحضور الرجل الثاني فيها "عدنان
عقلة"، في ربيع عام 1979. وكان
الشيخ "علوان" يحمل رسالة
من الشيخ "طاهر خير الله"
رحمه الله تعالى والد زوجتي
حسني وعدنان. كان "حسني عابو"
هو الذي يحاور الشيخ، و"عدنان
عقلة" ساكت لا يتكلم. في المرة
الوحيدة التي تكلم فيها "عدنان"
قال: "لن نسلم رقابنا للنظام
من دون مقاومة يفعل فينا ما يشاء
كما هو ديدن إخواننا في مصر".
ولقد شكلت هذه المقولة فلسفة
شباب الطليعة، وخصوصا "عدنان
عقلة" الذي آلت إليه قيادة
العمل المسلح في حلب بعد اعتقال
"حسني عابو" ومن ثم إعدامه
بعد شهور من هذا اللقاء. وكان
"عبد الستار الزعيم" قد وقع
في كمين وقتل أوائل عام 1980.
شكلت الاغتيالات لغزا عند النظام
لا يعرف من يقوم بها. حتى تم
اعتقال "خلية نائمة" من "الطليعة"
كانت مختبئة في دولة مجاورة.
عندها رفعت الطليعة من وتيرة
أعمالها التي كان لها صوت مدوٍ
داخل سورية وخارجها كان أهمها
حادثة "مدرسة المدفعية" في
حلب. شارك في
العملية نقيب مناوب، وذهب
ضحيتها حوالي90 طالب ضابط في
حزيران عام 1979.
ابتداء من نيسان عام 1980 بدأت حدة
الأعمال العنفية تتضاءل،
وغادرت قيادات "الطليعة
المقاتلة" سورية، وخمدت
أعمالها أو كادت، واستطاع
النظام السوري أن يفاجئها
بضربات قاتلة، بعدها استدرج
قائدها "عدنان عقلة" إلى
داخل سورية من حدودها الشمالية
مع تركيا، ومن
ثم اعتقله. تشتت بعدها من بقي
حيا من عناصر الطليعة، واستطاع
النظام أن يستدرج من بقي منهم
حيا، ويعقد معهم صلحَ إذعان
أمليت فيه الشروط من طرف واحد،
تم بموجبه إلغاء تنظيم "الطليعة
المقاتلة" من الساحة السورية.
صحيح أن جماعة الإخوان المسلمين
في سورية قد اضطرت لمغادرة
سورية ابتداء من بدء تصاعد
الأعمال العنفية عام 1979، وأن
الآلاف قد غيبوا في السجون، وأن
"الأجندة" التي بدأتها في
التربية خلال سنوات السبعينيات
قد تعطلت. لكن الصحيح أيضا أن
هذه الجماعة استعصت على الإلغاء
والاحتواء، ولم تستطع ضخامة
الأحداث الفظيعة التي تعرضت لها
أن تلغي وجودها من ساحة العمل في
سورية، وصمدت، واستأنفت
مؤسساتها عملها خارج سورية في
أحلك الظروف وأشدها قساوةً، ولم
تستطع ضراوة الضربات التي سددها
النظام إليها أن تنال منها
مقتلا.
أما في مصر فإن التضييق الذي
فرضته أجهزة الأمن خلال أربعة
عقود على نشاط جماعة الإخوان
المسلمين لم ينل من عزيمتها،
وما زالت واقفة على قدميها لا
تملّ من ممارسة نشاطها رغم
الحواجز الأمنية التي تضعها تلك
الأجهزة في طريقها. وعلى العكس
من ذلك فقد تبين للجماعة
الإسلامية وبعض كوادر "الجهاد"
في مصر خطأ مسيرة العنف،
وأعادتا تقويم مسيرتهما
واعترفتا بخطأ هذا النهج الذي
أدى إلى اعتقال الآلاف من
كوادرهما.
يبقى أن نقول أن أكثر ما يضايق
واشنطن في المنطقة هو نشوء
جماعات إسلامية معتدلة تدعو إلى
مبادئها بالحكمة والموعظة
الحسنة، وتنبذ العنف والشدة.
لذلك رفضت واشنطن التعاون مع
حكومة حماس الأولى ومع حكومة
الوحدة الوطنية، مع أن حماس
جاءت إلى السلطة عن طريق صناديق
الاقتراع التي تبشر بها واشنطن.
*كاتب سوري
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|