ــ
أخطاء
العلماء
بقلم:
محمد ياقوت
كثيرًا ما نتحدث عن
معاصي العامَّة من الناس،
وتُسلَّط الأضواء على الصغائر
والكبائر التي يقترفها أهل
الفسق والمجون والميوعة، مع أن
كبائر العلماء قد تكون أشدَّ
خطرًا على الأمة من كبائر أهل
الفسق.
ولنقف سريعًا على
أهم هذه الكبائر والتي يأتي في
مقدمتها: التجريح، وكتم العلم،
وحب الشهرة، والترخُّص والتشدد.
التجريح المتبادل
فتجريح العالِم
لإخيه العالِم كبيرةٌ من
الكبائر، فهذا التجريح الذي
يتسرْبَل عادةً بسربال النُّصح
وهو منه بعيد يؤدي إلى تجرُّؤ
العامَّة على جناب العلماء،
وإذا هان العالم هان المجتمع،
وفي أغلب الأحيان نرى أن هذا
التجريح يحدث بين الأقران في
العِلْم الواحد، بسبب الغيرة أو
الحسد أو لطلب الشهرة.
أما لغة التجريح
فهي سيلٌ من المصطلحات والألفاظ
التي تشكك في العقائد والأفكار
والولاء والبراء عند العلماء،
كالتفسيق والتبديع والتكفير
والزندقة ومخالفة السنة، أو قول
التجريحي: فلان مبتدع، علان
ضالّ، هذا مترخِّص، وسين في
عقيدته دخَن.. إلخ.. إلخ.
كتم الحق والعلم
كبيرة أخرى يقع
فيها بعض العلماء، وهي لا تقل
بشاعةً عن كبائر القتل والزنى
والسرقة، إنها كبيرة كتم العلم
والحق، فالعالِم إذا كتم علمًا
أو أخفى حقًّا؛ بهدف أن ينافق
الظالم أو خوفًا من بطش السلطان
أو جلبًا لمنفعة شخصية لنفسه،
فإنما يرتكب في حق نفسه وحق أمته
ذنبًا عظيمًا مريعًا.
ومثال هذه الكبائر
تجاهُل العلماء جرائمَ الحاكم
المستبدّ والأنظمة الفاسدة،
فتجد العالم يُغرق أحاديثه
ودروسه بالنصوص التي تحرِّم
الزنى أو إطلاق البصر أو حلق
اللحية.. إلخ، ويتجاهل- إرضاءً
للحاكم والوزير- جرائمَ تتم في
حق المسلمين لا تقلُّ بشاعةً من
الزنى والقتل، كتلك الجرائم
التي ترتكبها الأنظمة الحاكمة
في حقِّ الدين والشعب، كسجن
الإسلاميين والدعاة إلى الله،
وتلفيق التُّهَم لرموز
الجمعيات والجماعات الإسلامية،
ومحاربة الحجاب، وفصل
المتدينين من العمل، أو التضييق
عليهم في أقواتهم ومعايشهم..
ناهيك عن جرائم كبرى، كفصل
الدين عن الدولة، والحكم بغير
ما أنزل الله، والعمالة لأعداء
الإسلام..
حب الشهرة
وقد يستخدم الفقيه
أو العالِم لغةً معينةً في
الحديث أو الكتابة، أو ينحو
أسلوبًا شاذًّا في الفتاوى، من
باب "خالِف تُعرَف"، ليرى
مكانه بين الناس، ولتسلَّط عليه
الأضواء والكاميرات، وليلهثَ
وراءه الصحفيون والمذيعون،
وهذه كبيرة قلبية، حذَّر منها
رسول الله- صلى الله عليه وسلم-
وأخبر أن هذا الصنف هو، والعياذ
بالله، من الذين تُسعَّر بهم
النار أول ما تُسعَّر، باحث أو
عالم تعلَّم العلم ليقال "عالم"
وقارئ تعلم القرآن ليقال "قارئ"..
الترخص والتشدد
آفة العلماء هي
الجنوح إلى التفريط أو الإفراط،
أو الضياع في
أحد الطريقين: الجمود أو
التحلل، بيْدَ أن المنهج النبوي
السمْح هو منهج الاعتدال
والوسطية، وهما الفكرة
الأساسية للإسلام في كل أمور
الدنيا والدين، وتوجيهات النبي
واضحةٌ جليةٌ في ترسيخ الوسطية،
فعن ابن عباس- رضي الله عنهما-
قال: قال رسول الله- صلى الله
عليه وسلم-: "إيَّاكم
والغلوَّ في الدِّين؛ فإنَّما
أهلك من كان قبلكم الغلوُّ في
الدِّين" (صحيح- رواه
النسائي، برقم 3057
وصححه الحاكم (1/466)، ووافقه
الذهبي، وهو في السلسلة الصحيحة
رقم 1283).
وقال مبَيِّنًا
طبيعة هذا الدين: "إنَّ
الدّين يسر، ولن يشادّ الدّين
أحد إلا غلبه، فسدّدوا وقاربوا
وأبشروا.." (صحيح- رواه
البخاري، باب الدين يسر، رقم 38).
وعن أنس بن مالك رضي
الله عنه أن رسول الله- صلى الله
عليه وسلم- كان يقول: "لا
تُشدِّدوا على أنفسكم فيشدِّد
الله عليكم، فإنَّ قومًا
شدَّدوا على أنفسهم فشدَّد الله
عليهم، فتلك بقاياهم في
الصَّوامع والدّيارات
رهبانيَّة ابتدعوها ما كتبناها
عليهم" (حسن- رواه أبو داود
(4/276، 277) رقم 4904، وفي إسناد هذا
الحديث: سعيد بن عبد الرحمن بن
أبي العمياء؛ مختلف في توثيقه،
قال الحافظ في التقريب ص (238)
مقبول، وقال أيضًا في التهذيب
(4/57): ذكره ابن حبان في الثقات،
وروى له أبو داود حديثًا واحدًا..
وذكر هذا الحديث، قال الهيثمي
في مجمع الزوائد (6/259): رجاله
رجال الصحيح، غير سعيد بن عبد
الرحمن بن أبي العمياء وهو ثقة!!
وضعف هذا الحديث الألباني كما
في ضعيف الجامع رقم (6232)، وقال
الشيخ ناصر بن سليمان العمر في
كتابه الوسطية: والأقرب حسن هذا
الإسناد، والله أعلم).
الإغراق في
الجزئيات
وتجد فئةً من أرباب
الفقه أو العلم الشرعي أغرقت
نفسَها وغيرَها في جزئيات
وفرعيات صرفت الناس عن الكليات
والأصول، تلك الأصول التي يهدم
فيها أعداؤنا بالمعاول ليلَ
نهار، ويرفع أعداء الدين شعار
"تجفيف منابع الإسلام"..
نرى في تلك الأثناء بلبلةً
وخلافاتٍ عقيمةً حول مسائل
فقهية جزئية أو فقهيات مندوبة
أو سنن مؤكدة أو غير مؤكدة،
وتقام الحروب الكلامية الضارية
بين هذه الفئة من (العلماء).
رغم أن هذه الفئة من
العلماء التي تملأ الدنيا
ضجيجًا على مسائل تتعلق باللحية
وإسبال الثوب ورابطة العنق
وتحريم.. ويكتبون بحوثًا من عينة
"القول البتة في تحريم
الجرافتة"، أو "الصواعق في
تحريم الملاعق".. نجد أن هذه
الفئة المحسوبة على العلماء قد
صمَّت آذانها وعَمِيت أبصارها
على أعراض هُتكت، ودماء سُفكت،
وأموال جُمِِّدت وصُودِرَت،
ومحاكم عسكرية نُصِبَت
للمواطنين، وفساد مالي وإداري
يأكل الأخضر واليابس، وحكم
علماني جائر يُهلك الحرث والنسل.
فنجد أن الإغراق في
الجزئيات قد تسبَّب في صدِّ
الناس عن الكليات، وضلَّلهم عن
قضايا كبرى، رغم أن ديننا دين
الأولويات.
هذه بعض كبائر
العلماء، ينبغي قصرهم على الحق
قصْرًا، وهم إن فسدوا فسد
السلطان، وإن صلحوا أفلحت
المجتمعات، والتذكير بخطورة
هذه الكبائر يأتي في ضوء خطورة
دور العلماء في إصلاح الراعي
والرعية.
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|