في
سورية ولبنان
.... من يحتمي بمن؟
الطاهر
إبراهيم*
العلاقة بين حكام دمشق
والمحسوبين عليهم في لبنان
أصبحت أعقد من أن توجز في عنوان
بمقال في صحيفة أو تعليق في قناة
فضائية. فهي من جهة تختصر تاريخا
مشوها لعلاقة أخوية كان يمكن أن
تؤسس للتكافل والتآلف المتبادل
بين شعبين وحكومتين في القطرين
الشقيقين. ويوم انعكست الآية،
أصبحت القضية تحالفَ مصالح بين
حكام البلدين عندما دخل الجيش
السوري بموافقة أمريكية في عام
1976 إلى لبنان، والأسباب معروفة
فلا نعيد ما كتبناه مرارا. وهي
من جهة أخرى أصبحت علاقة تشكل
عبئا على شعبي البلدين، مثيرة
للبغضاء عندما تم توظيفها في
غير ما ينبغي أن توظف فيه، حتى
أصبح الشعب الواحد أحزابا
متناحرة والطائفة الواحدة
طوائف، ولجأ من أحس بالخوف من أن
يأكله قوي إلى قوي آخر، قد يأتي
عليه يوم يحتاج فيه إلى من يحميه
من هذا الآخر.
وهكذا بدأ الوجود السوري المهيمن
يبني علاقات عنكبوتية مع مختلف
الطوائف والقوى في لبنان، بدأت
مع الميليشيات المسيحية،
لتتطور بعد ذلك إلى كل من رضي أن
ينضوي تحت عباءة الهيمنة
السورية. ومن رفض هذه الهيمنة
كان مآله الاضمحلال من على
الساحة، كما حصل للوجود
الفلسطيني العسكري إذ تحول إلى
مخيمات معزولة عن محيطها
اللبناني بعد أن أرغمت الوحداتُ
السورية –تحت وابل قصف راجمات
الصواريخ- قواتِ "أبو جهاد"
على الرحيل عن الشمال اللبناني
إلى تونس في ثمانينات القرن
العشرين.
وقد غدا العميد "غازي كنعان"
مهندسُ الوجود السوري الركنَ
الركين في لبنان، لمن يبحث عن
حماية. وتحول لبنان دويلات داخل
وطن واحد لا تزيد مساحته عن عشرة
آلاف كيلو متر مربع. بل انقسمت
الحكومة اللبنانية الضعيفة
لحكومتين، بعد أن كَلّف
"أمينُ الجميل" الرئيسُ
اللبناني المنتهية ولايته
العمادَ "ميشال عون"
بتشكيل حكومة عسكرية مصغرة بدلا
من حكومة "سليم الحص" الذي
رفض ذلك. وشهدنا أمرا عجبا، ما
كان ليحدث إلا في لبنان فقد
تعايشت الحكومتان، وكان البنك
المركزي يصرف رواتب كلا
الحكومتين، مايؤكد تآلف
اللبنانيين لو تركوا وشأنهم من
دون تدخل دولي أو إقليمي.
ويوم أن حاول النواب اللبنانيون،
على اختلاف مشاربهم
وانتماءاتهم، أن يلتقوا في
"الطائف"
لصياغة ميثاق عيش مشترك
بينهم، تمّ لهم ذلك، وانتخب
"رينيه معوض" رئيسا، لكنه
قتل. فانتخب "الياس
الهراوي" المقرب من حافظ أسد.
وقد استطاع "أسد" تفسير
بنود الطائف بما كفل لنظامه
البقاء في لبنان إلى ما بعد
وفاته بخمس سنوات.
غير أن تسارع الأحداث بسبب
اغتيال رئيس حكومة لبنان الأسبق
الشهيد "رفيق الحريري" أدى
إلى خروج الجيش السوري من لبنان
في نيسان عام 2005 تحت ضغطٍ من
واشنطن وفرنسا، ما خلق وضعا
لبنانيا مختلفا. واحتاج النظام
السوري، الذي طالما دعم
الموالين له في لبنان، إلى من
يحمي ظهره لبنانيا بعدما توجهت
الأصابع بالتهم لرموز فيه
بالمشاركة في إعطاء الأوامر، أو
تنفيذ تلك الأوامر في اغتيال
الحريري.
قلةٌ من السوريين واللبنانيين
يتذكر أن معظم الانقلابات التي
حصلت في سورية كانت تطبخ في
لبنان، حيث كان السوري لا يحتاج
إلا إلى بطاقة هوية للعبور إلى
لبنان. وبعد أن جاء "حافظ
أسد" إلى السلطة في سورية بعد
انقلابه على رفيقه "صلاح
جديد" في نوفمبر عام 1970 أدرك
أن لا استقرار لحكمه إلا أن يكون
له كلمة الفصل في لبنان بعد أن
تم له ذلك في سورية. وبدلا من أن
يرسل أجهزة مخابراته لاغتيال
خصومه في لبنان، كما حصل مع
اللواء "محمد عمران"، الذي
اغتيل في بيروت عام 1970، عمل على
بسط نفوذه إلى لبنان فتم له ذلك
عام 1976 كما ذكرنا آنفا.
وحتى تكتمل الصورة أكثر نذكّر
بأن حكام دمشق كانوا يعتبرون
لبنان الرئة التي يتنفس بها
نظامهم، وأن خروجهم منه، ما لم
يعوضه وجودٌ من نوع آخر، يعني
خنقا لنظامهم وإعلان وفاته في
سورية. فكان لا بد إذن أن يردّ
لهم حلفاؤهم في لبنان الجميل.
لذلك لم يكن غريبا أن نرى
الموالين الهامشيين الذين
ماكان لهم ذكر لولا لصوقهم
بالنظام السوري فصنع منهم وزراء
ونواباً وربما رؤساء حكومة،
فاستماتوا في العمل على عودة
النفوذ السوري إلى لبنان، وهم
إنما يدافعون بذلك عن نفوذ كان
لهم من قبل.
وإذا كان حزب الله وحركة أمل
كيانين متماسكين لهما وجود راسخ
في لبنان، إلا أن خروج
الجيش السوري من لبنان كشف
عنهما الغطاء في أمور كثيرة،
لعل الوجود المخابراتي أهم
مظاهر هذا الغطاء. كما جرّأ
عليهما فئات ما كانت تجاهر
بعداوتها للحزبين الشيعيين يوم
كان الوجود السوري هو أهم معالم
لبنان السياسية.
كل الدلائل تشير إلى أن حكام دمشق
هم الآن من يحتاج إلى حماية
حلفائهم اللبنانيين أكثر من
حاجة هؤلاء لهم. فحزب الله وحركة
أمل إذا ما فشلت خطتهم
التصعيدية فقد ينحسر نفوذهم
ولكن يبقون على الساحة كقوة،
وقد يكون ذلك في صالح لبنان كله.
أما حكام دمشق فإن موقفهم أصعب
إذ لا يستندون إلى
امتداد شعبي يحتمون به إذا
ما نفد صبر الشعب السوري .
وعندها قد ترتسم صورة النهاية
على شاشة حكام دمشق.
يبقى أن نقول إن الرئيس الراحل
كان بارعاً في رقصه على الحبال
الإقليمية. ففي الوقت الذي كان
يرفض دعم الإمارات في حقها في
الجزر الثلاث ضد إيران، أرسل
للكويتيين ما فهموا منه أنه
معهم عندما ذهبت وحدات من الجيش
السوري إلى حفر الباطن أثناء
الحرب عام 1991. البعض يؤكد أن
تحركه هذا كان -في الحقيقة-
إرضاء للسيد الأمريكي. ولأن
الرئيس بشار ليست لديه براعة
والده، فقد يسقط عن الحبال، ولن
يتلقّاه شبك الحماية الذي كانت
تنصبه واشنطن حماية للرئيس
الراحل، وعندها لات ساعة مندم.
*كاتب
سوري
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|