ــ
ماذا
بعد المشهد العراقي؟
الطاهر
إبراهيم*
كذب المنجمون ولو صدقوا. والنظر
في الكف وقراءة فنجان القهوة،
هما والكذب كفرسي رهان. لكن
النظر في أحوال الأمم، واستخلاص
العبر، ومقارنة الشيء بمثيله
ليس من تلك الثلاثة في شيء بل هو
قراءة للواقع ثم استقراؤه
وقياسه على واقع مضى ورآه
الناس، ولا يكاد يتخلف الشبيه
عن شبيهه إلا في حالات خاصة جدا.
إذا أردنا أن نقارب حالة العراق
الآن، نستطيع أن نقول أن الذبح
وقطع الرؤوس والإرهاب الأعمى (الإرهاب
المبصر هو المقاومة المشروعة
إلا أن واشنطن تسميها إرهابا)
أصبح هو المشهد اليومي. ينام
العراقي ليلا على منظر التوابيت
تدفن في المقابر، ويفيق صباحا
على رؤية أجساد بلا رؤوس، لا
يكاد يتخلف المشهد يوما واحدا.
كل هذا "ببركات" الرئيس
جورج بوش"، الذي ما يكاد يفكر
ببلد إلا وتحل عليه المصائب، من
أفغانستان إلى العراق إلى
فلسطين، وإذا لم يجد، فيتجه إلى
لصومال والسودان، وقانا الله شر
ذلك الشر.
لا نزعم أن دول الجوار غير واعية
للمخاطر التي يتعرض لها العراق
وشعب العراق من أقصاه إلى
أقصاه، وأن هذه المخاطر سيكون
لها امتداداتها الإقليمية وأن
لا أحد من الجوار سيكون بمنأى عن
هذه المخاطر . ولكننا نزعم أن
هؤلاء الجوار لا يدركون حجم
الجحيم الذي سيكونه هذا الحريق،
ولا الحدود التي سيقف عندها
لهيب ذلك الجحيم من دول الجوار
وجوار الجوار. وكيف سيكون
المنظر العام للمنطقة؟ ولا
أستثني فأقول "ما لم يتدارك
القوم الأمر"، فقد كانت لديهم
الفرص الكثيرة منذ ذلك اليوم
الذي شعروا فيه أن بوش يهيئ، -بعد
أحداث 11 سبتمبر2001- لأجندة
متكاملة أراد أن يبدأها في
أفغانستان، ثم العراق من بعد
أفغانستان. وبعد أن جلب إلى
العراق هذا الكم الهائل من
المصائب، لم يفعل أي واحد منهم
شيئا، على الأقل للنأي ببلاده
عما يمكن أن يحصل لها.
ابتداء لقد أصبح الوضع الأمريكي
من السوء في العراق أنه يزداد
سوءاً كل يوم. وأن خطة التجريب
لم توقف أي تزايد في الانزلاق
أكثر فأكثر نحو الكارثة
الأمريكية في العراق، وإذا لم
يستطع "بوش" الصمود حتى
نهاية ولايته، فربما حرض
الجمهوريين في الكونغرس كي
يتعاونوا –من تحت الطاولة- مع
الديمقراطيين لاستصدار قرار
بأكثرية الثلثين، يفرض على
إدارة "بوش" الانسحاب من
العراق، وسيكون ذلك إنقاذا له
لا أكثر ولا أقل. ومهما كانت
الطريقة لإخراج الانسحاب من
العراق فإنه سيكون هزيمة أقسى
من هزيمة "فيتنام".
وبالتأكيد لن تبقى أي قاعدة
عسكرية في العراق، لأنها ستكون
هدفا سهلا للتدمير.
نستطيع أن نستعرض بعض اللاعبين
الإقليميين في العراق. ونؤكد
هنا أن أي لاعب منهم ربما كان
رابحا في ظل الاحتلال الأمريكي
مثل إيران أوغيرها، لكنه قطعا
لن يكون رابحا بعد انسحاب الجيش
الأمريكي من العراق. لماذا؟
إيران، على سبيل المثال، حققت
أجندتها في العراق عبر
مخابراتها -التي كان يسهل عليها
العمل ضمن المناطق الشيعية-
أوبالوكالة عبر الميليشيات
التي كانت تعمل من طهران قبل
الاجتياح الأمريكي. بعض هذه
الميليشيات تعاونت مع الاحتلال
من اليوم الأول واستطاعت أن
تكون جزءاً من تركيبة الحكم مثل
قوات "بدر" التي تم استيعاب
معظم أفرادها في وزارة الداخلية.
فهي محسوبة على واشنطن التي
تهيمن على حكومة المالكي، ثم من
جهة أخرى فهي تغطي على الدور
الإيراني في العراق. وما كانت
واشنطن في وضع يسمح لها أن تفرض
عليها الخيار بينها وبين طهران
لأن واشنطن هي الأضعف في
الميزان. وبالجملة فإنه يحق لنا
أن نزعم أن المليشيات كانت ذات
ولاء مزدوج.
كون الشيعة أقلية في العالم
الإسلامي، يجعل إيران تبحث عن
دور قيادي لها ضمن العالم
الإسلامي. وبخلاف ما يعتقده
الكثيرون فإنها ترفض بشدة
الاقتتال مذهبي في العراق، لأن
ذلك يؤدي إلى اصطفافات تبعدها
عن الدور القيادي الذي تحاول أن
تضطلع به.
أما دول الجوار الأخرى بالرغم من
ضعف تأثيرها على مجريات الأحداث
في العراق، إلا أن
الاستراتيجيين لا يهملون
الغليان الشعبي في تلك الدول
انتصارا لإخوانهم أهل السنة مما
يتهدد وجودهم في العراق، ماقد
يجعل هذه الدول تتخوف من
العواقب. لكن هذه الدول لم تواجه
الأزمة بما يكافئها، ربما ظنا
منها أن واشنطن لابد أن تجد
حلولا تنقذها وتنقذ دول الجوار،
بينما لسان حال واشنطن: "لو
كنت طبيبَ الهوى داويت جروحي".
ويبقى أن المقاومة العراقية التي
تعمل بصمت لها رأي آخر. فهي
تحارب أمريكا بكل ما أوتيت من
قوة، ومصممة على المضي قدما حتى
تخرجها من العراق. ولا ترفض
انسحابها سلما. لكنها ترفض بقاء
أي قواعد لأمريكا في العراق. وهي
تؤكد أنها من سيفاوض على
انسحابها. ولا يخيف المقاومة أن
الميليشيات قد تحاول أن ترث
الحكم، لأن هذه لا تستطيع أن
تعمل إلا في ظل حماية واشنطن أو
طهران.
لكن! ماذا لو رفضت طهران التسليم
بانتصار المقاومة الوطنية في
العراق؟ وهي لا شك سترفض، خوفا
من أن يأتي نظام حكم، بعد انسحاب
أمريكا وانتصار المقاومة، يعيد
تكرار سيناريو الثمانينيات.
أغلب الظن أن طهران ستحاول خوض
حرب مع المقاومة المنتصرة،
وستجد في الميليشيات عونا لها
تقاتل أصالة عن نفسها ووكالة عن
طهران. وعندها لا أحد يمكن أن
يتصور ما سيكون عليه المشهد
العراقي؟ هنا يبرز تساؤل يفرض
نفسه عن موقف دول الجوار التي قد
تجد نفسها مدفوعة إلى معركة غير
محسوبة، وإلى وضع لم يكن في
حسبان تلك الدول؟.
*كاتب سوري
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|