ــ
المضطَهَدون
العرب لو سُئِلوا ....
أيَّ
ذنب فعلوا؟
الطاهر
إبراهيم*
في الخمسينيات، كانت إذاعة B.B.C
البريطانية تبث موجاتها من
جزيرة قبرص تحت اسم محطة الشرق
الأدنى. هذه المحطة تفننت في
استحداث برامج شيقة أصبح لها
جمهورها في غرب الوطن العربي
وشرقه. نذكر على سبيل المثال من
البرامج التي كان يترقبها
المستمع العربي، البرنامج
الثقافي "قول على قول" الذي
كان يعده الأديب الفلسطيني "حسن
الكرمي"، والبرنامج الغنائي
"دكان الألحان"، وبرنامج
"ندوة المستمعين" وبرنامج
المختارات الغنائية "ما
يطلبه المستمعون".
بعد اشتراك بريطانيا مع فرنسا
وإسرائيل في الحرب ضد مصر في عام1956،
فيما أصبح يعرف بالعدوان
الثلاثي، اختفت محطة الشرق
الأدنى ما أحزن المستمع العربي
عليها، لولا أن خلفها في البث
محطة "هنا لندن" التي ما
لبثت أن استقطبت انتباه
المستمعين العرب. فقد احتفظت
بكل البرامج التي كانت تبثها
محطة "الشرق الأدنى"
وأحدثت برمج إخبارية جديدة.
وكان أهم ما أعجب المستمعين
برنامج "ما يطلبه المستمعون"
الذي يترقبه الكثيرون لسماع
أسمائهم تذاع من المحطات
الإذاعية مقرونة مع الأغنية
التي طلبوا سماعها.
أعادني هذا الإرشيف الإذاعي إلى
سنوات الأربعينات والخمسينات
من القرن الماضي، وقد بدأت دول
عربية تتحرر بعد أن رزحت عقودا
تحت نير الاستعمار الأوروبي.
أما المواطن العربي فقد شعر أن
بعضا مما كان يطلبه قد تحقق.
فكان يعبر عن سروره بطلب
الاستماع إلى أغانٍ بعينها كانت
تمتزج في خياله بأحداث وطنية
مفعمة بالشعور الوطني.
من الأناشيد الوطنية التي كان
الشباب العربي يطرب لسماعها
قصيدة نظمها شاعرُ دمشق
ونائبُها في البرلمان "فخري
البارودي"، عندما كان معتقلا
في سجون الفرنسيين يقول فيها:
يا ظلام السجن خيّم ....إننا نهوى
الظلاما.... ليس بعد الليل إلا ....
نور صبح يتسامى.
والقصيدة الأخرى التي يقول فيها:
بلاد العرب أوطاني .... من الشام
لبغدان .... ومن نجدٍ إلى يمنٍ ....
إلى مصر فتطوان.
ولعل أكثر ما كانت تطرب له أسماع
المستمع العربي أنشودة أذيعت
أثناء العدوان الثلاثي:
تقول:
الله أكبـر ...... الله أكبـر ......
ألله أكبـر فوق كيد المعتـدي.
يا هذه الدنيا أصيخي واسمعي
جيش الأعادي جاء يبغي مصرعي.
بالحق سوف أهدّه وبمدفعي
فإذا فنيـــت فسوف أفنيه
معي.
قولوا معي .. قولوا معي.. الله
الله .. الله أكبر .. الله فـوق
المعتدي
ولأنه لم يعد هناك انتصارات، بل
هزائم وانحدارات، فإن ما يطلبه
المواطن العربي أصبح
شيئا آخر. أصبح المواطن العربي
يتمنى أن تعامله حكومته كإنسان
له آدميته وله حقوقه ككل البشر
ولو في حدها الأدنى.
مايطلبه المواطن العربي أن ينام
في بيته، ليستيقظ على الأذان
لأداء صلاة الفجر. لا أن يستيقظ
على قرعات "سقاطة" باب
الدار الحديدية، وصوت أجش يجلجل
"افتـح ولك يا...". فإذا أطل
من بين مصراعي الباب وضع أحدهم
رجله بينهما. وإن هي إلا ثوانٍ
حتى تغص ساحة الدار بأكثر من
عشرين مغواراً، كأنهم جاؤوا
ليحرروا فلسطين، ثم لا يتركونه
حتى يلقى بسيارة تغادر به إلى
حيث لا تدري زوجته وأولاده أين
أخذوه ....وربما لا يعود.
مايطلبه المواطن العربي أن يكون
له الحق في أن يحصل على جواز سفر
يسافر به إلى أرض الله الواسعة
بعد أن ضاقت عليه بلده، ليعالج
أمراضَه المستعصية التي خرجت
معه من زنازين المعتقلات، حيث
قضى شطرا من عمره بعيداً عن أهله
وخلانه.
ما يطلبه المواطن العربي أن يحصل
على الفرص لتعليم أولاده في
الجامعة بالمقدار الذي تؤهلهم
له علاماتهم. لا أن ترفض الجامعة
ابنه وتقبل ابن جاره ضمن "الكوتا"
التي تمنحها لأبناء حزب
الحكومة، مع أن علامات ابنه
أكثر.
مايطلبه المواطن العربي الذي ولد
في المهجر وأراد أن يزور
أقرباءه في وطنه، ألايُصادَرَ
جوازه في المطار، أو على الحدود
البرية، ثم يقال له راجع "الفرع
كذا". وربما لا يتعرض للأذى،
إلا أن مجرد المراجعة تجعل
المواطن منقبض النفس، تتناوشه
الوساوس والأوهام.
ما يطلبه المواطن العربي، أن
يعيش في بلده حياة طبيعية، يعرف
فيها ماله وما عليه، لاأن
تُعتَبَر حقوقه المشروعة مكرمة
من مكرمات الرئيس.
ما يطلبه المواطن العربي، أن
ينعم بحد أدنى من الحرية، ليس
بالضرورة أن تكون كحرية المواطن
السويسري، بل على الأقل أن
يتساوى مع مواطني بعض الدول
العربية كالكويت، مثلا. بل إن
مواطني بعض الدول العربية
يغبطون المواطنين "البدون"
في الكويت على ما
لهم في بلادهم من الحقوق
التي لا يتمتع بها مواطنو أكثر
من بلد عربي.
مايطلبه المواطن العربي أن يكون
العيش في بلده أحبَّ إليه من
الهجرة إلى أمريكا وأوروبا .ولا
يكون ذلك إلا إذا شعر أن كرامته
لا تنتقص، وأنه لا يعامل كما
يعامل "ابنَ الجارية"،
بينما يعامل غيره من حزب
الحكومة معاملة "ابن الست".
وألا يكون في البلد الواحد
مواطن من الدرجة الأولى،
ومواطنون من الدرجة الثانية أو
الثالثة.
ما يطلبه المواطن العربي أن يكون
له حرية الاختيار في كل ما يخصه
كمواطن، فلا تُزَوّرُ إرادته في
الانتخابات والاستفتاءات. وأن
لا يكون كل ما يطلب منه هو "البصم"
على ما لم يؤخذ رأيه فيه.
مايطلبه المواطن أكبر من لقمة
العيش، أن يكون وطنه له كما هو
للآخرين.
ما يطلبه المواطن العربي، ليس
المنافسة على الرئاسة ولا على
الوزارة ولا على عضوية مجلس
النواب. بل -على الأقل- أن يترك
وشأنه "كافي خيره وشره".
وأن يزول الخوف من حياته، لأن
الأمن أهم مقومات الحياة
السعيدة، كما جاء في الحديث
الشريف: "من بات آمنا في سربه
معافى في بدنه عنده قوت يومه
فكأنما حيزت له الدنيا
بحزافيرها".
*كاتب
سوري
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|