ــ
في
بيتنا مصحف
2
- 3
سلمى
السهروردي
وجد المصحف مكانه في
مكتبتي، تحفة قدسية غامضة،
انسحبت قدسيتها من عهد الطفولة
فكانت أشبه ببحيرة ساكنة مستقرة
في أعماق الوعي بل لعلها كانت
البرزخ الذي يفصل بين الوعي
واللاوعي في تكويني الذاتي. لم
يكن المصحف هنا محمياً بالكيس
الأخضر المزركش ، بل كان يحتل
رفاً أعلى في مكتبتي المتنامية
بعض الشيء ، كما أزعم ، و لم تكن
قداسة المصحف في نفسي تختلف، عن
تلك التي كانت تعمر قلبي
والديّ، على الأقل في ثباتها
وغموضها ؛ ولكنني كنت بلا شك أقل
إشارة إليه وتردداً لما تحفظت
من آياته. أشهر طويلة مرت منذ أن
دخل المصحف بيتي كعنوان للبركة،
ورمز للهوية، في حضرة زميلاتي
غير المسلمات كنت أكثر إشارة
إليه، قلبته مرة إحداهن بلطف،
وقالت بمجاملة مصطنعة: جميل،
ربما لم أكن أنتظر منها أكثر من
هذا ولكنني لم أجد حاجة إلى
الولوج إلى عالم هذا الكتاب
العزيز.
منذ ما يزيد على العقد بدأ
صخب يثور حول الإسلام في الرأي
العام الثقافي والفكري
والسياسي الغربي. كان هذا الصخب
على اختلاف مصادره يرمي بحيرة
القدس الساكنة في قاع نفسي
بحصيات فيموجها، ولا يكدرها، لا
تلبث الدوائر الناشئة عنها أن
تتلاشى، ليعود للبحيرة سكونها.
لا أستطيع أن أزعم أنني لم أكن
معنية بما أسمع، ولكنني على ما
يبدو لي لم أكن راغبة في التوقف
عند الذي أسمع. شيء من الخوف
المبهم يدفع المريض إلى التهرب
من الطبيب أو
التورية عليه .
ويستمر نقر الحصيات على
سطح البحيرة الوادع الساكن،
لاحظت أن أصحاب هذه الحصيات
يرتقون بسرعة سلم الشهرة،
فتُكتب عنهم التقارير،
وتلاحقهم عدسات المصورين،
وأحيانا تثير حصياتهم بعض
الزوابع. رجال ونساء تتردد
أسماؤهم في الفضاء العام العلمي
أو الثقافي أو الفني ، ثم يتحول
كل هذا إلى موضوع سياسي يتدخل
فيه القادة والحكومات
والمنظمات !! بسرعة كبيرة يصبح
هؤلاء أحرارا ومبدعين مع أنهم
لم يفعلوا شيئاً، غير أنهم
تطوعوا بتقديم نقد، ولو عارض،
لآية من هذا الكتاب الكريم. أو
أنهم انعطفوا على حياتهم
الأسرية أو المجتمعية ينسبون
إليها السلب على خلفية دينية أو
جنسوية.
يكفي سلمى أن تكتب غداً
مقالاً تنتقد فيه أباها أو
أخاها، وتبكي أمها المعذبة،
التي عاشت في مجتمع ذكوري لا
يرحم، وتذكر كيف أن خالها غمط
أمها، مع الحب، بعض ما تركه الجد.
وربما تفتعل سلمى في هذا السياق
بعض الحكاوي أو الحواتيت على
لغة زميلتي المصرية، لتكون قضية
في عالم المنظمات والتنظيمات،
ولُتكرس (باحثة) و(مفكرة) و(أديبة)
وشاهدة على عالم شر كله. أمّا إن
ارتقت درجة أعلى فنسبت لهذا
الكتاب الكريم خطأ تاريخيا أو
معرفيا فستغدق عليها الألقاب
وستكرم من الملوك والملكات ومن
القادة والرؤساء .
بدأت أتابع الهمهمة،
والمطالبات التي تأتي واهنة مرة
وصريحة أخرى تطالب بإخضاع النص
المقدس لميزان النقد العلمي،
والدخول إليه بمناهج معرفية
بشرية لدراسته كما درس (العهد
القديم) من قبل...
في المعهد الذي أتابع
دراستي فيه ، وفي بحث اختباري
لتاريخ الأفكار قال الأستاذ
المشرف على أبحاثنا كان (
اسبينوزا) المؤسس الحقيقي للنقد
التاريخي للنصوص المقدسة. وقد
أوضح ( اسبينوزا )أن هذا النص (الكتاب
المقدس) (لا يحتوي على مادة
معرفية تخضع لمحطات التصديق أو
الرفض الواقعيين. إنه مجرد كتاب
مفعم بالخطاب الأخلاقي
المناقبي والأسطوري معاً ) .
ولقد أسس اسيبنوزا، وهو فيلسوف
أميل إلى الإلحاد، علم الدلالة (للتاريخ
اللغوي أو البحث الفيلولوجي).
ليفرق بين الحقيقة كما يراها
الدين وتراثه، وبين معنى النص
ومضمونه كما تشير إليه دلائل
الواقع.
وعلى خطا اسبينوزا قام
اليسوعي (ريشار سيمون) في أواخر
القرن السابع عشر بدراسة أكثر
جرأة للكتاب المقدس بيّن فيها
اضطراب النص، وتخلخل
المترابطات، كانت ردة الفعل على
أبحاث (ريشار سيمون) عاصفة لتبقى
عمليات النقد الموضوعي للكتاب
المقدس مزاولات شبه سرية
يتداولها الخاصة، ثم ليصبح هذا
الكتاب هدفاً لكل رامٍ منذ
القرن التاسع عشر. كان الانعكاس
المباشر لهذا الكلام في نفسي: هل
ينسحب مثل هذا التقرير على
الكتاب العزيز المستقر في أعماق
النفس قبل أن يستقر في المكانة
الأولى على رف المكتبة ؟ !
لتنثال في حوار داخلي مجموعة من
التساؤلات : هل تجوز هذه المبادئ
على الكتاب العزيز أيضا
؟! ثم هل أنا مستعدة
لقبول النتائج ؟! لاحظت أنني
أتحدث عن أنا لم يخطر في ذهني (
هم ) أو ( نحن ) . عملية تشبه إلى حد
كبير إرسال عينة إلى المختبر
لإجراء فحص نسيجي ، أو اختبار
إصابة ( بالسيدا ) أو الايدز.. من
كان درهمه جيداً فلماذا يخاف من
جهابذة الصيارفة ؟! لا أخاف من
جهابذة الصيارفة ولكنني أخاف أن
يصبح القرآن هدفاً لكل رامٍ كما
حصل للكتاب المقدس؟! كانت
تفاعلات عارضة تثور داخل نفسي،
دون أن تتحول إلى هاجس ملح، أو
ربما إلى نوع من الوسواس القهري
كما انتهى بي الحال في لحظة من
اللحظات.
كانت الإشارات التي
أتلقاها عبر كتب ودراسات مطبوعة
بعناية وبذخ تبعث في نفسي
مزيداً من الطمأنينة والسكينة
إلى أن المصحف قادر على أن يحافظ
على ثوبه الأخضر المزركش
ومكانته التي لا يمكن أن ترام.
في دراسة لأحدهم في كتاب
مطبوع في إحدى العواصم
الأوربية، والذي يباع بثمن يفوق
راتب موظف من الدرجة الرابعة في
وطني سورية، يضع المؤلف القرآن
على محك المنهج العلمي التاريخي
ليكتشف أن محمداً لم يكن يعلم أن
مريم ليس لها أخ اسمه هارون!! كما
ورد في نداء قومها لها: (يا أخت
هارون..) !! علمت فيما بعد أيضاً
أن السيدة (عائشة) عيرت السيدة (صفية
بنت حيي) بأنها يهودية ، وذلك
فيما يكون بين الضرائر، وجاءت
صفية إلى رسول الله تشتكي، فقال
لها، قولي لها: إن أبي هارون
وعمي موسى. وإخال أن صاحبنا لو
أمسك بهذا النص لجعل منه متكأ
ينتقد على أساسه معرفة الرسول
الكريم !!
في ثانية واهية أو داهية
في دلالتها على عقول أصحابها،
يقول صاحب الكتاب المصقول
جيداً، والمطبوع في عاصمة
أوربية، والذي يباع بثمن يوازي
راتب موظف من الدرجة الرابعة في
وطني سورية، وأحفظ راتب هذه
الدرجة، لأنها الدرجة التي
تعينت فيها في أول أمري، ولا زلت
أتتبع أخبارها!! يقول تعليقاً
على ما جاء في الكتاب العزيز (ووهبنا
له اسحق ويعقوب نافلة..) إن يعقوب
لم يكن إبناً لإبراهيم، وإنما
كان ابناً لاسحق، وأن محمداً
كانت تفوته مثل هذه المعرفة !!
كانت هذه الرسائل بكل ما
فيها من تفاهة النفس والعقل
تجعلني أكثر شعوراً
بالطمأنينة، تدفعني إلى
التساؤل لماذا لا يفسح رجال
الدين المسلمون لأمثال هؤلاء
مكانة مميزة ليعرضوا بضاعتهم
بكل ما فيها من هراء وغثاء؟!!
قيل لابن المقفع يوماً هل
لفظ (كبّاراً) في قول القرآن (ومكروا
مكراً كبّاراً..) لفظ عربي؟!! ضحك
ابن المقفع المفكر العاقل
المتهم بالزندقة، ولا إخاله
لمكانه من العقل أو مكان العقل
منه، وقال للسائل: ويحك هب أن
محمداً لم يكن نبياً، أفلم يكن
عربياً؟!
إن عرض القرآن على مناهج
المعرفة البشرية بالموضوعية
العلمية المتوفرة بين أيدي
البشر حتى اليوم ينبغي أن يكون
مطلباًَ إسلامياً، وأن يمارسه
علماء الإسلام، ورجال القرآن
دون أن يحجروا على الآخرين فعل
ذلك وسيكون كلام كل امرئ بعض
عقله. لن ، نفي استخدمه القرآن
للتأبيد كما علمت فيما بعد ، (لن
يخالف صريح المنقول صحيح
المعقول).
إن العالم الذي يضج الآن
بوسائل المعرفة، وقنوات
انتقالها وبجماهير المثقفين
قادر على الإدراك، والتمييز
فيما أحسب ، كانت هذه بعض تجربتي
العملية التي قادني إليها
القرآن. مادمت لن تحتكر الفضاء
فألق دلوك بين الدلاء.
سأطلب من القارئ، وقتاً
إضافياً، فقد أقحمت نفسي فيما
أشعر في موضوع لم يعد من السهل
عليّ الخروج منه قبل أن أستوفيه
وبشروطه. ما أقدمه لن يكون أكثر
من تجربة علمية بشرية محدودة مع
الكتاب العزيز، كان كل ما سبق
تمهيداً لشرح أبعاد هذه
التجربة، والآن وبعد ممارستي
لها أستطيع أن أزعم أن خوض
التجربة كان في الأصل
استجابة أساسية لدعوة
الكتاب العزيز نفسه (أفلا
يتدبرون القرآن ولو كان من عند
غير الله لوجدوا فيه اختلافاً
كثيراً) النساء/82.
في وسط اللجة التي
ألفيتني فيها لم أكن أمتلك إلا
يقيناً أبيض يعمر نفسي. ونسخة
المصحف في ثوبها الأخضر المزركش
المعلق في صدر غرفة الرجال في
بيتنا على الشاطئ الشرقي
للمتوسط وأخرى أكثر أناقة تحتل
مكانتها أعلى مكتبتي في مدينة
فرنسية غربي المتوسط.
ثم جاءت ساعة الاستحقاق
أو الامتحان. ليتقدم المشرف على
مجموعتنا البحثية في المعهد
الذي أدرس فيه بست أوراق عمل
تتناول قصة الخلق الأولى للكون
والحياة.
ورقة إفريقية مرجعيتها
كتاب الموتى المصري، وما يتردد
في المجتمعات الإفريقية . وأخرى
من بلاد الرافدين مرجعيتها
السومرية، وما قبلها وملحمة
جلجامش ببعدها الإنساني .
وثالثة زرادشتية هندية
مرجعيتها كتاب الفيدا حيث بين
المشرف على الأبحاث أن الهند لا
تقل غنى وكثافة معرفية
وميثولوجية عن إفريقية . وخامسة
صينية (طاوية) اعتبر الأستاذ
المشرف أن البوذية لم تكن إلا
انشقاقاً عن الهندوسية أو
محاولة لإصلاحها برفض جمود
الطقوس، وروح التعالي البرهمية.
وأكد المشرف أن (الطاوي)
كانت أكثر فرادة ، كان الوجود
الكلي بالنسبة للطاو كالبحر.
البحر صورة المبدأ ، جميع
المياه تصب فيه دون أن تملأه ،
جميع المياه تخرج منه دون أن
تنقصه . كل شيء يخرج منه يعود
إليه. بأمره اللامرئي نولد،
ونعود إليه لنموت أو لنحيا من
جديد.
وكانت الورقة السادسة عن
الكتاب المقدس بسفريه أو بعهديه
القديم والجديد. المعلومات عن
الكتاب المقدس متوافرة لدى
القارئ لن أطيل فيها. ولكن
ملحوظة الأستاذ المشرف، وهو
أستاذ عميق التخصص واسع الاطلاع
تستحق بعض التنويه، بعبارة
موجزة، قال في تلك المرجعيات
جميعاً سنلحظ أن اللغة لغة شعر
أو مثل الشعر فيما يلفها من ضباب.
نحن هنا أمام لغة أكثر وضوحاً
وأكثر تحديداً في التعبير
النثري ودلالاته.
ثم وهذا الأكثر أهمية في
كل المرجعيات السابقة المصرية
والإفريقية، والزرادشتية
والهندية سلنحظ أشواقاً تتطلع
من الأرض إلى السماء . في تجربة
النبوءة السامية سنلحظ سعياً
إلهياً يتجه من السماء إلى الإنسان..!! أوراق قد
أجد فرصة للعودة إليها بتفصيل
فيما بعد. ما إن أنهى الأستاذ
المشرف توزيع الأوراق حتى ألقت
سلمى سؤالاً تلقائياً لاواعيا..
وماذا عن القرآن كتاب المسلمين؟!
بهدوء أجاب الأستاذ
المشرف: هل يختلف القرآن عن
الكتاب المقدس في شيء ؟!
قالت سلمى بنبرة من التحدي
الانفعالي : بشيء كثير..
فكانت
ورقة إضافية تنضم إلى سائر
الأوراق. وألقت سلمى بنفسها في
لجة كلفتها الكثير، وعلمتها
الكثير .
في محاولة جادة لإثبات
الذات، الذات الحضارية لأمة
طالما اعتزت سلمى بالانتماء
إليها ، انغمست سلمى بصدق نفسي
ومنهجي في عالم القرآن . كانت
الرحلة طويلة ومضنية وممتعة
ومجدية . ما تعلمت كتابته
وقراءته أيضا كان بعض ثمراتها .
كانت
سلمى في أسرتها المتواضعة، وفي
قريتها البدائية وفي وطنها
الناهض دائماً تعيش السكينة
والرضى ، عالم من الحب لم يعرف
القلق الذي يدمر حياة الآخرين
طريقا إليه . كان هذا العالم
الرضي ظل هذا الكتاب ، شعرت سلمى
أنه قد حُق عليها أن ترد بعض
الجميل ولكن بأدوات هذا الكتاب
نفسه وليس بالرغبة أو الهوى .
قصة الخلق في القرآن
العزيز أعود إليها دون أن أطلب
من أحد منديل الأمان .
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|