ــ
ليلة
القبض على سوريا
محمد
عبد المجيد*
عندما أزمع
الكتابةَ عن سوريا وقضاياها
وهمومها ومشاكلها وأحزانها
وأفراحِها تقف اللغةُ مترددةً
قبل أن تسعفني بمفرداتها، وكلما
أمدّتني ضادُنا الجميلة بألفاظ
أخشى على قلب العروبة النابض
منها، ينتقل الترددُ من اللغةِ
إلى أصابعي، فما كرهتُ شيئاً
مثلما كرهت قطعَ شعرةِ معاوية
مع دمشق.
شرحتُ كثيراً في
السنوات العشر الماضية قصةَ حبي
لسوريا التي بدأت عام الوحدة
بين الاقليمين الشمالي
والجنوبي وظلت دمشق في قلبي لا
تبرحه فهي جزء من دعاء الشرق،
وجبهة الصمود، وآخر المقاومين
المحترَمين!
لكن الواقع يُكَذّب
تلك الصورةَ الورديةَ في ذهني،
ويُخرْجني من عالم الحُلم إلى
عالَم الواقع المرير.
تهكمتُ على نفسي
مؤخرا قبيل اعلان نتيجة
الاستفتاء على الرئاسة
السورية، وقلت لها ربما تكون
النتيجةُ أقل من ثمانين بالمئة
فالرئيس الشاب الذي تعلّم في
الغرب يعرف أن نسبة التسعين في
المئة تثير الاحتقارَ لدىَ
الشعب، وكل صور الازدراء لدىَ
المثقفين ومنظمات حقوق الانسان.
قلت لنفسي أيضا بأن
الرئيسَ الشابَ لن يجعل ضيوفَه
الكبارَ من زعماء ورؤساء وفود
وغيرهم ينظرون إليه تلك النظرةَ
الدونية التي لا نخطئها جميعاً
عندما نقرأ نتيجةَ الاستفتاء
فصدام حسين حصل على مئة في
المئة، وزين العابدين بن علي
اقترب كثيرا منها، أما مبارك
فقد وافق على المسرحية
الأمريكية للانتخابات وجعل
النسبة المئوية لنجاحه كأنها
حقيقية، ثم قام بتأديب منافسه
الدكتور أيمن نور، وألقاه في
بيوت الأشباح المصرية.
كان المشهد من طبيب
العيون مؤذياً للعيون، فسوريا
العظيمة ذات التاريخ النضالي،
والتي يسكن في كل بيت منها قائد
انقلاب عسكري ينتظر الفرصة
المناسبة ليثِبَ على الحُكم
يجعلها الرئيس الشاب أضحوكة
أمام العالم كله، ويجعل شعبنا
السوري يلطم وجهه في المرآة،
فأجهزة استخبارات بشار الأسد
جعلت النسبة أكثر قليلا من سبعة
وتسعين بالمئة.
إنه الاستبدادُ بكل
ما فيه من عنف ودماء وقسوة إلا
أن هناك أيضا مشاهد كوميدية
ليست مقتصرة فقط على الأخ
العقيد قائد ثورة الفاتح، لكنها
تنسحب على كل الطغاة والمستبدين
وهم يزيّفون إرادة الشعب، ثم
يعيدون صناعة الأيدي المرتعشة
والأسنان المصطكة لتكملة
الصورة النهائية للعلاقة بين
الشعب والسلطة، بين الرعية
والحاكم، بين الماشية وراعيها.
كانت النتيجة صفعةً
على أقفية أبناء أكثر شعوب
المنطقة تمرّدا ووعياً وطنياً
وانخراطاً في العمل السياسي
وفهما لتشابكات المنطقة
وصراعاتها الخفية.
كانت النتيجة شبيهة
بيوم أنْ وقف أعضاءُ مجلس الشعب
وقد تلقى كل منهم أوامر من سيد
القصر أن يشتموا، ويلعنوا،
ويسبّوا عبد الحليم خدّام الرجل
الذي تولى تربية الرئيس الشاب.
ووقف ممثلو الشعب
يرتعشون، ولا تستطيع رُكَبُهُم
أن تحملهم، وتكاد تسمع صراخَ
لغة أهل الجنة وهم يفككونها،
ويعجّمونها، ويطلقونها في
آذاننا كأنهم غاضبون عليها
لأنها قامت بتعريتهم.
أربعون عاما وجيشنا
السوري تأكل مشتريات أسلحته ثلث
ميزانية الدولة، ويقف على
أبوابه عدو لا مندوحة عن نزاله
يوما ما، وتحتل جولانَه فرقٌ
رمزيةٌ من الجيشِ الاسرائيلي لو
كانوا على حدود الجزائر أو تشاد
أو الصومال أو إرتيريا لما زار
النومُ عيونَهم.
ومع ذلك فهذا الجيش
لا يستطيع أن يتصدى لطائرات
إسرائيلية تحلق فوق قصر السيد
الرئيس، وتعطي إشارةً بأنها
قادرة على اصابة هدفها حتى لو
كان طبيب العيون في فراشه.
ويصمت جيشنا البطل،
وتسكت كل المدافع، وتصُمّ
أجهزةُ الاستخبارات من الحدود
التركية والفلسطينية
واللبنانية آذانها، وتصُكّ
وجهَها كأنها عجوزٌ عقيم.
فالمعركة الحقيقية
هي مع المواطن السوري، والخوف
الحقيقي يعرف طريقَه إلى السلطة
عندما يتنفس أبناءُ البلد،
وأقبيةُ السجون قادرةٌ على
تذكير السوريين بأنَّ كرامتَهم
هي آخر اهتمامات السيد الرئيس.
عندما يتم توقيف
شاب صغير في الثالثة والعشرين
من عمره ( محمد نافع الصايل من
دير الزور ) وتتم محاكمته بعد
عامين من الاعتقال فتلك لعمري
كارثة إنسانية تتنافى مع كل
القيم والمباديء والأعراف.
إن التعامل مع
حيوات الناس وسنوات أعمارهم
وعدم الاكتراث بقضائها في داخل
السجون انتظارا لمحاكمات قد لا
تأتي أبدا، هو غاية الامتهان
لكرامة المواطن.
عندما يقوم صحفيان(
مهند عبد الرحمن وعلاء الدين
حمدون ) بالاستعداد لعمل تحقيق
صحفي عن النقابات في سوريا،
فإنه من الطبيعي أن يطرحا
أسألتهما على النقابيين.
لكن أجهزة
الاستخبارات البارعة في انزال
الرعب في قلوب السوريين تقرر
احالتهما للمحاكمة بتهمة طرح
أسئلة على نقابيين عن موضوع
صحفي لم يتم نشره بعد، وأن مضمون
الأسئلة ينال من هيبة الدولة!
أي اذلال هذا يريده
الوطن من المواطن ثم يطالَب بعد
ذلك بالدفاع عنه؟
قلنا عشرات المرات
ونكرر مثلها أضعافا مضاعفة ولن
نملّ الحديثَ عنها فهي لُب
الموضوع، وصُلب القضية، بأن
المواطن الذي تطلب منه الدولة
الخنوعَ والمسكنةَ، وتطُعمه
خوفاً، وتسقيه رعباً، وتلقي به
في زنزانات قذرة بدون محاكمة
لعدة سنوات هو مشروع تعاون مع
أعداء الوطن. إنها صناعة نُسخ
جديدة من إيلي كوهين وهؤلاء
سيرشدون عن عناوين وأسماء ضباط
التعذيب في أجهزة الاستخبارات
إذا سقطت سوريا، لا قدر الله، في
براثن خصومها وأعدائها، وهم
كُثر.
المواطنُ الحرُّ هو
الضمان الوحيد لوطنٍ حر، وهو
الذي تفكر كل القوى المعادية
فيه قبل إلحاق الأذىَ ببلده أو
نظامه.
والمواطن السوري
الحُرّ الذي يجلس أمام ضابط
استخبارات ويضع ساقا فوق ساق،
ويرتشف قدحا من القهوة دون أن
يرفّ له جفن أو تتسارع نبضات
قلبه هو القادر على حماية سوريا.
والمواطن السوري
الذي يقدم جواز سفره في مطار
دمشق لضابط الأمن، وينظر في
عينيه، ويؤكد لمنتظريه في
الخارج بأنه قادم إليهم بإذن
الله دون أي تأخير، هو نفس
المواطن الذي سيستثمر في بلده،
وسيدافع عنها في كل المحافل،
وسيمنحها روحه وأمواله ودعمه،
وسيساهم في افشال أي مؤامرة ضد
النظام.
أنا لا أفهم كيف
تفكر أجهزة الأمن في مستقبل
طالب يتم اعتقاله، ثم تتأخر
محاكمته عاما أو اثنين أو أكثر
وكأن مستقبله ودراسته وحياته لا
تعني أحدا في الدولة كلها!
تهمةٌ فيها من
اللاعقلانية والظلم والغباء ما
يجعلها بصقة في وجه كل من يؤمن
بحقوق إنسان خلقه العلي الكريم،
ونفخ فيه من روحه.التهمة هي (
تعريض البلاد لأعمال عدائية )،
وهي فضفاضة، وواسعة، وزئبقية،
أينما نظرت إليها لا تصطدم إلا
بوجه غليظ سادي لضابط مخابرات
لا يعبء لاسرائيل، ولا يكترث
لنشاطات الطابور الخامس، إنما
المهم أن يقول كما قال قائد
الاحتلال في العراق بعد القبض
على صدام حسين: سيداتي سادتي ..
لقد قبضنا عليه!
آه أيها الشهامة
والنخوة والرجولة العربية التي
حتى عندما جاء الاسلام برسالة
خاتم الانبياء تركها كما هي:
إنها نجدة الملهوف، ونخوة رجال
كانوا يخجلون من اطلاق السهم في
ظهر الخصم.
يونس خضر يونس يتم
الحكم عليه بثلاث سنوات لأنه
نشر أخبارا من شأنها أن توهن
نفسية الأمة! هل صحيح أن بلادنا
أصبحت هشة وتحتاج لأجهزة
استخبارات قوية تحاكم
المواطنين الذين يقتربون من (
نفسية الأمة ) خشية أن تسقط،
وتتحطم كما تتحطم لعبة طفل
رخيصة مصنوعة في تايوان؟
الاختفاء القسري هو
نتيجة طبيعية لاختطاف مواطن كان
عائدا إلى منزله، وفجأة تتوقف
سيارة، وينزل منها رجلان كما في
الأفلام الأمريكية، ويصطحباه
إلى مكان مجهول.أي امتهان هذا
لكرامة ابن البلد وأهله وأبناء
وطنه عندما يتم منعه من أن يتصل
بوالدته أو شقيقه ولا نقول
المحامي فتلك رفاهية في عالم
الاستبداد.
وتبدأ عملية العقاب
الجماعي عندما تقوم الأسرة
بالمرور على أقسام الشرطة،
والاتصال بالمستشفيات، ودفع (
إكراميات ) للصغار والكبار من
الأمن على حد سواء من أجل معرفة
مصير ابنهم.
الصحفي سالار أوسي
من القامشلي كان متوجها في
بدايات شهر يونيو إلى نادي
الصحفيين.
ثم اختفى كما اختفى
من قبله الكثيرون، فأمريكا
اللاتينية في ظل حُكم العسكر
كانت هكذا. يختفي المواطنُ
كحشرة سقطت تحت حذاء عسكري، وقد
لا يعود أبداً إلى أهله.
في العاشر من يناير
2005 تقوم المخابرات العسكرية
بمدينة حلب باعتقال الطالب محمد
عبد القادر طالب وهو يدرس في
كلية الهندسة. يختفي كما اختفى
غيره، وأسرته تستجدي أعلى سلطة
في البلاد، لكن أهله نسوّا في
غمرة اللهفة على ابنهم أن قانون
الطواريء المعمول به منذ عام 1964
يسمح للدولة أن تُلقي القبض على
أي مواطن، ولو تم توجيه تهمة
النظر إلى ضابط الأمن بطريقة
تهدد رخاء واقتصاد وسلام الدولة
فإن القاضي قادر على أن يستخرج
من اللاقانون مواد شبحية
تُثَبّت التهمة على المواطن
المسكين.
فؤاد الشغري يتم
الحكم عليه بالاعدام بموجب
القانون 49/1980الخاص باعدام كل من
ينتسب لجماعة الاخوان المسلمين.
ثم يتم تخفيف الحكم إلى 12 عاما،
وهي أيضا تعني الاعدام ولكن في
خلال فترة العقوبة.
أما فارس نقور فهو
حالة من الظلم لا مثيل لها في كل
الأحكام التي أصدرها طغاة وحافظ
عليها زبانية التعذيب.
حاول أن يجتاز
الحدود لأهله المقيمين في
الجولان، لكن سلطات الحدود التي
تصمت صمت القبور عندما تعلن
اسرائيل عن مناورة في الجولان،
تقرر القبض على المواطن الذي
يريد أن يعيش مع أهله أو يعمل
معهم.
الحكم عليه يصدر من
حُماة العدالة بالسجن 12 عاما،
وما أدراك ما السجن في سوريا؟
سيقول قائل بأنه
أرحم من سجون المغرب والجزائر
والأردن ومصر وليبيا وتونس
واليمن وغيرها.
الكاتب عادل محفوظ
كان محظوظا فالذي حَكم عليه
امرأةٌ، وهي قاضيةٌ في مَحكمة
مدنية في مدينة طرطوس. ستة اشهر
فقط بتهمة تعكير صفو الأمة! كل
منا شاهد ولو مرّة في حياته
بلطجياً من قبضايات الحي، يجلس
على المقهى والكل يتملقه، ثم
يجيء صبي صاحب المقهي ويهمس في
أذن الفتوة قائلا: إن هذا الرجل
ينظر إليك!
يضرب البلطجي
المنضدة بقبضة يده فتهتز لها كل
الكؤوس والأقداح، ثم يتوجه إلى
المسكين سائلا إياه عن سبب
النظر إليه!
إنه ليس قانون
القبضايات فقط إنما دستور
الطغاة، ولكل قاض أو ضابط أمن أن
يفسر قوانين الدولة وفقا لمزاجه
أو شجاره مع زوجته أو اكتشافه أن
ابنه الوحيد أصبح مُدمنا، فيخرج
الغضبُ قابضاً على عنق المواطن
في عهد فخامة الرئيس.
لا تزال الضجة
مثارة حول اختفاء 73 مصريا في
سوريا حتى ظهرت قضية اختفاء
عمرو أحمد المواطن المصري
الحاصل على الدكتوراة في جامعة
سانت بيترسبرج الروسية.
دعاه أحد أصدقائه
السوريين، وقضى في ربوع سوريا
الحبيبة 26 يوما، ثم اختفى في
اليوم السابع والعشرين من مايو
2007.
قام بزيارة حلب
لمدة يومين، وفي الطريق إلى
دمشق بعدما اتصل بزوجته الروسية
وأبلغها أنه سيحصل على تأشيرة
دخول روسيا من السفارة في
العاصمة السورية، اختفى فجأة.
أغلب الظن أن الأمن
قام باعتقاله من الفندق، كما
قال شهود عيان، وكانت حملة
اعتقالات بمناسبة الاستفتاء
على رئاسة الجمهورية قد شملت كل
شبر من قلب العروبة النابض.
أرسل والد الشاب
رسالة خاصة إلى الرئيس بشار
الأسد ولم يتلق عليها ردّاً،
ولن يتلقى أبدا، فالرئيس ليس
لديه الوقت لهذا العبث، وكرامة
المواطن وحياته وحقوقه وحريته
آخر ما يفكر فيه القائد الشاب،
فكيف بمواطن مصري تسحله حكومته،
ويعتقل مبارك ثلاثين ألف شخص لم
يُعرض أكثرهم على العدالة، أن
تدافع عن مصري في الخارج أو 73
مصريا اختفوا في الاقليم
الشمالي للجمهورية العربية
المتحدة؟
جناية أخرى يصدر
فيها الحكم بتهمة ( إضعاف الشعور
القومي ) وتلك لا يزيد الحكم
فيها عن ثلاث سنوات مع كل
المستلزمات الواجبة والمرافقة
للحكم من ضرب وركل وتعذيب حتى
يصرخ المواطن ويقول لنفسه دون
أن يسمعه الآخرون بأن هذه ليست
بلدي.
ليلة القبض على
سوريا نترك تحديدها لكل عاشق
لهذا البلد الطارد لأبنائه، ولا
أظن أن مليون رسالة ستقنع
الرئيس بشار الأسد بأن للسوريين
حقوقا في بلادهم أكثر من حقوق
العبيد.
*رئيس
تحرير مجلة طائر الشمال / أوسلو
النرويج
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|