ــ
سورية
على مفترق الطريق
الناخب
السوري
يرزح الكثير من
الناس في سورية الحبيبة والعالم
اليوم تحت نير وهم يبدو من خلاله
أن النظام الحاكم راسخ القواعد
وواثق الخطى. لكن القراءة الأدق
للواقع، وخاصة للتطورات على
الصعيد الداخلي في شهري نيسان
وأيار، تحكي قصة مختلفة تماماً،
قصة نظام واهم، خائف، حائر،
وشعب فقدت أغلبيته العظمى أي
ثقة أو إيمان لها به. الهوة ما
بين الحاكم والمحكوم اليوم باتت
أعمق وأكثر اتساعاً مما كانت
عليه في أي وقت مضى، الحاكم أصبح
منقطعاً كلية عن الواقع،
والمحكوم بات على وشك التحوّل
من مكره إلى ثائر.
مجموعة بسيطة من
الشباب المتحمّس قامت في شهر
نيسان الماضي بمراقبة
الانتخابات التشريعية في
البلاد بشكل مستقل ففضحت زيفها
وتفاهتها أمام العالم أجمع، فما
كان من النظام "الواثق،
الراسخ" إلا أن قدّم موعد
الاستفتاء الرئاسي أكثر من شهر
ومنع أي مراقبين أو صحفيين،
محليين كانوا أو عرب أو أجانب،
من دخول مراكز التصويت. هذا
علاوة على هدر ملايين الدولارات
على احتفالات وأعراس لا معنى
لها، أُجبر معظم المشاركين بها
على حضورها، أو غُرر بهم عن طريق
حملة إعلامية ضخمة لم تعرف لها
البلد مثيلاً من قبل.
ومع ذلك تمكّنت
مجموعة الشباب ذاتها من رصد
انتهاكات النظام لدستوره
وقوانينه، التي جاء هو نفسه
بها، وسجّلت حالات عديدة من
التزييف والتصويت المتكرّر من
قبل الناخب الواحد وحشو
الصناديق بأوراق معدّة مسبقاً
ومشاركة القاصرين، إلى آخر
ماهنالك من انتهاكات تم رصدها
وتعدادها في تقارير سابقة لفريق
الناخب السوري.
النتيجة: بات
بوسعنا أن نؤكد اليوم، بعد
دراسة ميدانية واسعة امتدت منذ
نهاية الانتخابات التشريعية
إلى آخر شهر حزيران، أن نسبة
المشاركة في الاستفتاء الرئاسي
الأخير كانت، بالرغم من كل
المظاهر الاحتفالية وكل
التطبيل والتزمير، متدنية
جداً، إلى درجة بات من الواضح
معها أن نسبة الـ 50% المطلوبة
دستورياً لقبول نتائج
الاستفتاء لم تحقّق. فلنذكر هذا
الأمر جيداً عندما يقوم رأس
النظام بتدشين مدة حكمه الجديدة
بخطاب إلى مجلس الشعب في العاشر
من تموز، ذلك اليوم الذي ستدخل
فيه البلاد مرحلة جديدة من
الاستبداد والتغييب للإرادة
الشعبية الحقيقية.
كما تدلّ دراستنا
على أن المقاطعة الشعبية
للاستفتاء الرئاسي شملت غالبية
المناطق الكوردية، ونواحي
كثيرة من محافظة السويداء، خاصة
التجمّعات الدرزية، وغالبية
القرى الإسماعيلية، ومعظم
القرى الآشورية في الحسكة،
وغالبية المناطق الريفية في
دمشق وحلب وحمص وبانياس وطرطوس
واللاذقية ودرعا، ومعظم
المراكز الاقتراعية في محافظتي
حماة وإدلب (خاصة إدلب، التي
كانت نسبة المشاركة في مناطقها
الريفية متدنية بشكل ملحوظ،
ربما بسبب نمو التيارات السلفية
فيها وصدامها المتزايد مع
السلطة). وكانت المشاركة متوسطة
حتى في محافظة القنيطرة، على
الرغم من إقدام النظام على
اللعب على وتر الجولان في حملته
الإعلامية. بل ولوحظ أن
المشاركة كانت متدنية في عدد من
القرى العلوية المحسوبة على
شخصيات معينة كان لها شأنها في
النظام في العهد السابق.
قد يستنكر البعض
للوهلة الأولى الطبيعة
الطائفية والمناطقية لهذه
الملاحظات والمشاهدات، لكنها
في الواقع إن دلّت على شيء فعلى
ظاهرة التفتيت الاجتماعي التي
يعاني منها الوطن هذه الأيام
نتيجة الممارسات الفاسدة
والقمعية للنظام القائم، والتي
يبدو واضحاً أن النظام سيمعن
فيها في المرحلة القادمة في ردة
فعل ثأرية موجهّة ضد الفئات
والشرائح التي شاركت في
المقاطعة.
من هنا، فيما يبدو،
التقارير الأخيرة عن تهجير
المزيد من القبائل العربية إلى
منطقة ديريك، وعن سياسات تقنين
المياه والطاقة وتخفيض
الميزانيات المخصّصة لتطوير
البنى التحتية في معظم المناطق
السورية لهذا العام.
لقد قاطع الشعب
السوري الاستفتاء الرئاسي كما
قاطع الانتخابات التشريعية،
وكما سيقاطع قريباً ومن دون شكّ
الانتخابات المحلية، لكن
النظام يراهن على قدرته على
تجاوز هذه الأزمة الداخلية
الواضحة عن طريق سياسات "فرّق
تسد" إياها والتي طالما لجأ
إليها في السابق. لكن المشكلة
اليوم أن المجتمع السوري بلغ
مرحلة معينة من التفتت أصبح
معها أكثر هشاشة من ذي قبل،
وباتت معها قدرة النظام على
الاستفادة من حالة الشرذمة
الاجتماعية والفئوية وتسخيرها
لتحقيق مصالحه الخاصة ضعيفة
للغاية. لقد بات واقع التفتت
الاجتماعي أقوى من قبضة السلطة
المركزية، ولهذا الأمر
انعكاسات داخلية اقتصادية
وسياسية وأمنية بالغة في
الخطورة لا يبدو أن النظام يأبه
بها، إن كان متنبّهاً لها أصلاً.
لهذا، يبدو من الواضح اليوم أن
المثابرة على نهج التفتيت
الفئوي ستقود المجتمع والدولة
إلى انهيار داخلي كارثي يتحوّل
فيها التفتت الاجتماعي إلى تفتت
بنيوي يمسّ كيان الدولة ذاته.
الحل، إن كان ثمة
حل، وهذا هو الأمل الذي علينا أن
نعيش ونعمل من أجله، يكمن في
تنبّه وتنبيه الشعب السوري
بمختلف مكوّناته إلى مخاطر هذا
الوضع قبل فوات الأوان. إن
للأزمات التي يختلقها النظام
لنفسه وللوطن في الداخل والخارج
ثمن لم نعد قادرين على دفعه، لا
كشعب ولا كدولة. الوطن بات ينوء
تحت ثقل أوزار النظام
المتراكمة، وقدرتنا على
التحمّل شارفت على النفاذ.
نعم، إن منطقتنا
كانت دائماً منطقة اختلاط إثني
وديني وطائفي وقبائلي، والصراع
الناتج عن التنوّع فيها،
واستغلال الأنظمة الحاكمة
والقوى الخارجية له، ليسوا
بالأمر الجديد، لكن الجديد هنا
هو إمكانية بثّ وعي مختلف
وتبنّي عقلية مدنية الطابع
يمكنها أن تساعدنا على التسامي
فوق الانقاسامات الفئوية
ومواجهة الأنظمة القائمة، مهما
كانت غاشمة، بوسائل فعّالة
سلمية الطابع. ولعلنا في سورية،
وبسبب تاريخنا الأكثر هدوءاً
نسبياً على صعيد التوترات
الإثنية والطائفية، نكون في
موقع يسمح لنا بإيجاد آليات
جديدة وعصرية للتعايش المشترك
السلمي وللتعاون والتعاضد
الإجتماعي بين المكوّنات
المختلفة لمجتمعنا تساعدنا على
مكافحة السياسات التفتيتية
للنظام وممارساته القمعية قبل
أن يقودنا إلى حافة الهاوية.
وكما تمكّن فريق
صغير من الشباب الوطني على
إحراج النظام خلال فترة
الاستحقاقات السابقة، قد لا
يكون التحدي الماثل أمامنا
بالاستحالة التي نتوهمها،
فالنظام لايقلّ هشاشة عن الدولة
التي بناها، أو بالأحرى دمّرها،
أو يكاد، والشعوب لم تكن أبداً
قليلة الحيلة عندما تغدو مقتنعة
بضرورة التغيير وحتميته.
إن دور الشباب
الوطني الأساسي هذه الأيام
يتمثّل في بثّ هذه القناعة
بالذات في صفوف الجماهير كخطوة
أولى وضرورية على الطريق نحو
بناء مستقبل أفضل.
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|