ــ
بينَ
الفكرةِ و الصّنم
كتبها
: أنس إبراهيم الدّغيم*
لطالما كان مالك بن نبي رحمه الله
يشير بهذه الكلمات المعبّرة عن
مشكلة المجتمع المسلم بين
المجتمعات .
و كان هو الذي يقول (( عندما تموت
الفكرة يبرزُ الصّنم )) ، دالاً
من خلال هذه الكلمات الحيّة إلى
المأساة التي تعيشها أمتنا
المسلمة ، و
لن يكون الباحث في مشكلات أمتنا
بمنأىً عن حقيقة ما ذهب إليه هذا
المفكّر الكبير .
فعندما نتخلى عن الحقيقة الخالدة
، فهذا هو الحكم الصّارخ الذي
نصدره على أنفسنا بالموت
الصُّراح ، فإنّ دوام الإنسان
بخلود أفكاره و سموّها .
و لن يكون الإنسان حيّاً إلا
بفكرة يعيشُ عليها و بها ، فمنها
طعامه و شرابُه و شهيقُه و زفيره
.
فكرةٌ عاملةٌ في كلّ لحظاتها ،
تحرّكه حركةً عاملةً في كلّ
لحظاته ، فيرتفع بها إلى الفوق ،
حينَ السُّفلُ قاتل .
فالنّزول بكلّ ألوانه ، ليس من
شأن المسلم الذي يطلب الخلودَ
بخلود رسالته ، و الذي قد وُكلَ
إليه الإعمارُ في هذه الأرض
نائباً عن مولاه فيها ، فهو في
سبيل الله آناء الليل و أطراف
النّهار .
و لن يكون للمسلمِ مكانٌ في هذا
الوجود إلى على ضوءٍ من اليقين
الجمّ و الإيمان الواسع و
الهمّة العليّة ، وهذه هي
الحقائقُ المحرّكة للرّوح
المسلمة حتّى تأخذ مكانها في
الحياة ، و حتى تشقّ طريقها بين
الزّمان و المكان منتهيّةً إلى
المحلّ الرّفيع .
و لعلّ هذا ما ذهبَ إليه محمّد
إقبال رحمه الله في واحدةٍ من
قصائده الرّائعات في ديوانه (
جاويد نامة ) و التي عاد فنقشها
في كتابه القيّم ( تجديد
التّفكير الدّيني في الإسلام ) :
(( أ أنتَ في مرحلة الحياة أم
الموت ، أم " الموت في الحياة
" ؟
اُطلبِ العونَ من شهودٍ ثلاثةٍ
لتتحرّى حقيقة مقامك :
أولها : عرفانُكَ لذاتك
فانظر نفسَكَ في نوركَ أنت
و الثّاني : معرفةُ ذاتٍ أخرى
فانظرْ نفسَكَ في نورِ ذاتِ سواك
و الثّالث : المعرفةُ الإلهيّة
فانظرْ نفسَكَ في نور الله
فإذا كنت ثابتَ الرّوعِ في حضرةِ
نورِه
فاعتبرْ نفسَكَ حيّاً خالداً
إنّه لحقٌّ وحده من يجسرُ على
رؤيةِ الله وجهاً لوجه
" الصّعود " أيّ شيءٍ هو ؟
ليس سوى بحثٍ عن شاهد
قد يؤكّدُ حقيقتكَ نهائياً
شاهدٌ بيده وحده أن يجعلَكَ
خالداً
و ما مِن أحدٍ يقدرُ على الوقوفِ
رابطَ الجأشِ في حضرتِه
و من استطاع ذلك فإنّه ذهبٌ خالص
أ أنتَ مجردُ ذرّةٍ من تراب ؟
اُشدُد عقدةَ ذاتك
و استمسكْ بكيانكَ الصّغير
ما أجلّ أن يصقلَ الإنسانُ ذاته
و أن يختبر رونقَها في سطوعِ
الشّمس
فاستأنفْ تهذيبَ إطارك القديم
و أقمْ كياناً جديداً
مثلُ هذا الكيان هو الكيانُ
الحقّ
و إلا فذاتُكَ لا تزيدُ على أن
تكونَ حلقةً من دخان ))
من هنا يبدأ المسلم رحلته بين
الأسماء ، فيكون حيث كان الحقُّ
، و يقيمُ حيثُ أقامتِ الفكرة
المؤمنة ، فلا يصدرُ إلى عالمَه
إلا من مشكاة الحقيقة الكبرى ،
فيكون النور ُ هو عطيّتَه
الأولى للعالمين .
و لن تنهار أمامه الحوائلُ دونَ
بلوغ مأربه في الحياة إلا بقلبٍ
مؤمنٍ حرٍّ عن الأغيار ، و لن
يكون هذا إلا بالارتفاع عن
سفاسفِ الدنيا و موبقاتها و
بالانشداد إلى ملأٍ غير الملأ
الذي نعيش فيه ، يعزّ فيه المؤمن
و تحيا به جوارحه أطيبَ حياة .
أجل أيّها المسلم : أنت عامرُ
البادية ، و سيّدُ الصّحراء ، و
أنت الذي جعلتَ من صحراء مكّةَ
وادياً ذا زرع ، و رددتَ قفارَ
الجزيرة رياضاً ممرعةً ، تشدو
فيها بلابلُ الخليقة ، و كانت
أرضاً ميتةً لا حياةَ فيها ،
فغنّتْ بطلعتكَ طيورُ الحياة ،
و امتدّت في ترابها الميّت
جذورُ الأمل ، و حين سقيتَها
بالدموع و بالدّماء ، نبتتْ
فيها أشجارُ الحقيقة ، و
تسامقتْ أغصانُها الطّليقة ، و
امتدّت في فضاءات الوجود , و
تساقطَ منها الرّطبُ الجنيّ ،
فأكلَ العالمُ منه و شبع .
فحطّمِ القيودَ التي في يديك ، و
عُدْ إلى منصبكَ من قيادة
العالم ، حينها سترى الأرضَ و قد
دانتْ لك من أقصى شرقها إلى عمقِ
غربها .
وتعال معي لنغنّي مع مالك بن نبي
رحمه الله ، أنشودته الرّمزيّة
التي غنّاها في أول كتابه (شروط
النّهضة) :
(( غنِّ يا أخي المسلم : لكي تهدي
بصوتكَ هذه الخطواتِ التي جاءتْ
في عتمةِ الفجر ، نحو الخطّ الذي
يأتي من بعيد .
و لْيدوِّ غناؤكَ البهيج ، كما
دوّى من قبلُ غناءُ الأنبياء ،
في السّاعةِ التي وُلدت فيها
الحضارات .
و ليملأ ْ أسماعَ الدّنيا ، أقوى
و أعنفَ من هذه الجوقاتِ
الصّاخبة التي قامتْ هنا و هناك
.
هاهم أولاء ينصبونَ الآن _ على
أبواب المدينة التي تستيقظُ _
السّوقَ و ملاهيه ، لكي يُميلوا
هؤلاء الذين جاؤوا على إثرك ، و
يلهوهم عن ندائك ، و هاهم أولاء
قد أقاموا المسارحَ و المهرّجين
و البهلوانات ، لكي تغطّي
الضّجّةُ على نبرات صوتك ، و
هاهم أولاء قد أشعلوا المصابيحَ
الكاذبةَ لكي يحجبوا ضوء
النّهار ، و لكي يطمسوا بالظلام
شبحَكَ في السّهل الذي أنت
ذاهبٌ إليه ، و هاهم أولاء قد
جمّلوا الأصنامَ لِيلحقوا
الهوان بالفكرة .
و لكنّ شمسَ المثاليّة ستتابعُ
سيرَها دونَ تراجع ، و ستعلنُ
قريباً انتصارَ الفكرة ، و
انهيارَ الأصنام ، كما حدثَ
يومَ تحطّمَ " هُبَلُ " في
الكعبة )) .
*سوريا
/ معرّة النّعمان / جرجناز
Eqbal1979@hotmail.com
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|