ثقافة
الأربع تسعات ... 9999%
الطاهر
إبراهيم*
أريد أن أعقد هدنة مع كل الذين
جرت بيني وبينهم مناوشات سياسية
أو اعترضوا على ما أكتب، وأن
نحاول أن نلتقي على قواسم
مشتركة بيننا، بحيث إذا ظهر أن
هناك اختلافا في وجهات نظر
قليلة إلى جانب القواسم
المشتركة الكثيرة، فإننا نهمل
القليل إلى جانب الكثير، لأن
اللغة العربية تطلق الكل على
الأكثر والأغلب، ولا حكم للقليل.
واستطرادا، فإننا نجد مذهب
الإمام أبي حنيفة يعتبر الطواف
حول الكعبة وهو سبعة أشواط
يتحقق بأربعة أشواط، ويقال أن
الطواف أجزأ مع النقص، وتلك
قضية أخرى.
السوريون سبقوا الآخرين في أمور
كثيرة. فنجدهم أول من أدخل مصطلح
المجتمع المدني في قاموس
الحريات، وتبعتهم باقي النخب
العربية. وكنت قرأت للباحث
السوري الدكتور "عبد الرزاق
عيد" مقالا تحت عنوان ثقافة
الخوف، وأعجبتني المعالجة
الوجدانية في المقال. -لاأدري إن
كان قد سبقه غيره من العرب غير
السوريين إلى مثل هذا الطرح-. ثم
تتابعت التسميات المقترنة
بكلمة ثقافة، حتى صرنا نقرأ
مقالات بعناوين مختلفة مثل
ثقافة القمع أو ثقافة الإرهاب (هل
هناك حقا للإرهاب والقمع ثقافة؟)،
وثقافة الإكراه وثقافة
الكراهية، ثم ثقافة تكميم
الأفواه. ولعل البريق والبهرجة
في هذه العناوين عند القراء
لأنها تمس قضايا إنسانية يعاني
منها أكثرية الشعب العربي.
ولأن ما عندي من ذخيرة حول
موضوعات كنت أكتب فيها قد نضب أو
كاد، أحببت أن أسير على منهج
الدكتور "عيد" لعلي أعوض ما
فاتني من مواضيع كانت أثيرة
لدي، و"مالا يُدرَكُ كلُّه لا
يُترَك جُلُّه" (هناك رواية
لهذه الحكمة وردت عن الشيخ
مصطفى الزرقا رحمه الله تعالى
تقول: مالا يدرك كله لا يترك
كله، ولعلها الأصح).
وللأسباب السابقة، ولأسباب
غيرها أبدأ اليوم بنوع من
الثقافة، كتب فيها غيري، ولا
أزعم أني سبقت بها غيري هي ثقافة
الأربع تسعات. وحتى لايذهب
القارئ بعيدا فيظن أنها لمنتج
أطرحه في الأسواق لنوع من
البسكوت أو المنظفات، أبادر
فأقول إني ما أزال أخب داخل
السياسة، ولكنها سياسة نوع آخر
لا ينفجر في الوجه أو تحت
السيارة "يودّيك" في
داهية، أو يدخلك السجن، "كش
برا وبعيد".
ولأن الموضوع قد يكون ذا شجون عند
الكثيرين، منهم من يوافقك ومنهم
من يعترض، لابد أن أشير هنا أن
الكثرة ليست دائما محمودة أو أن
القلة دائما مذمومة. فالمعادن
الثمينة نادرة الوجود في
الطبيعة، بينما الحديد الرخيص
مبذول، والتراب الذي يكاد يكون
لا قيمة له يملأ سهول الكرة
الأرضية.
ولأن الموضوع الذي نكتبه يحتمل
أن نشرق فيه ونغرب، نقول إن
العملات كلما كبر الرقم الذي
تختزنه كلما ضعفت قيمتها
الشرائية، حتى أن العملة
التركية تحتوي الورقة منها على
مبالغ تعد بملايين الليرات
التركية ولاتكاد تفي برسم دخول
دورات المياه العامة (في تركيا
كما في دول أخرى، لا بد من دفع
رسوم على استعمال دورات المياه
العامة).
قد يخفف من البلاء عندما يكون في
عدة بلدان. فالرؤساء الذين كانت
تأتي نتائج الاستفتاء على
رئاستهم بنسب عالية غير محصورين
في بلد عربي وحيد. بل يمكن أن يعد
المرء ثلاث دول أو أربع في
المنطقة كان الرؤساء يحصلون على
نسب فلكية في استفتاء شعوبهم
عليهم قد تصل إلى 99.99% من عدد
المقترعين، مع أنه يكفيهم 51% حتى
يحكم الرئيس وهو مطمئن بأنه جاء
باختيار شعبي. الرئيس "جورج
بوش" صار رئيسا للولايات
المتحدة لأنه تفوق على خصمه "إل
غور" بعدد قليل من الأصوات لا
يزيد عن خمسة آلاف صوت في ولاية
"فلوريدا" في ولايته
الأولى التي بدأت قبل ست سنوات.
علماء النفس وعلماء الاجتماع،
ونضيف إليهم علماء المعارضات
السياسية، يؤكدون أن ما من رئيس
في أي دولة -مهما كان محبوبا من
شعبه- يحظى برضا أكثر من نصف
الشعب إلا نادرا، لأن بعض من صوت
له، إنما صوت رافضا لخصمه
الأكثر سوءاً منه. وقديما قيل:
"إرضاء الناس غاية لا تدرك".
بل إن الشاعر الحكيم قال:
إن نصف الناس أعداءٌ لمنْ
وُلّيَ الأحكام، هذا إن
عَدَل.
في عهد الوحدة بين مصر وسورية في
عام 1958 كانت نتائج الاستفتاءات
تصل إلى أكثر من مائة بالمائة،
حيث كان يقوم رئيس مخفر الشرطة
بإملاء الصناديق "كيفيا".
وعند تعداد الأوراق تصل النسبة
إلى أرقام فلكية.
وإذا كان رئيس أقوى دولة في
العالم بل الدولة العظمى
الوحيدة، تفوّق على خصمه بخمسة
آلاف صوت فقط، أفلا يحق لنا أن
نتساءل عن الحكمة إذن من أن
وسائل الإعلام تظهر أن الرئيس
قد حاز على ثقة 99.99% من
المواطنين؟ وإذا تواضع وزير
الإعلام، جعلها 99.98% فقط. بل إن
نتيجة الاستفتاء في إحدى الدول
المنطقة أظهرت أن من صوتوا ب لا
في الاستفتاء لا يزيد عددهم عن 18
مواطنا. ومن عنده جواب عن هذه
الحكمة فليتفضل مشكورا أن
يخبرنا به، وله منا مزيد الشكر.
*كاتب سوري
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|