ــ
الطابور
الخامس! ... هل اخترق حركاتٍ
إسلامية؟
الطاهر
إبراهيم*
يروى أن قلعة حصينة استعصت على
قائد عسكري حاصرها لفترة طويلة.
فاستقدم وحدات إضافية حتى بلغت 4
طوابير أحاطت بالقلعة إحاطة
السوار بالمعصم. وفي ليلة جلس
القائد يدرس الموقف العام مع
نائبه الذي استقلّ عديد القوات
التي تحاصر القلعة، وأن 4 طوابير
لا تكفي لإرغام الخصم
على الاستسلام. فطمأنه
القائد أن طابور خامسا من أهل
القلعة رضوا بأن يعملوا ضد
الملك من داخلها، وأنه أشد على
القلعة من كل تلك الطوابير.
على مدار التاريخ ابتليت كثير من
الامم ببعض أبنائها الضعفاء
الذين تخاذلوا فباعوا الوطن
للمغير الأجنبي، وأعملوا معاول
الهدم من الداخل، مثل الوزير
"العلقمي" الذي وطأ للمغول
لاحتلال بغداد عام656 هجرية،
فدخلها الغزاة وقتلوا أهلها حتى
جرى ماء "دجلة" مخضبا بدماء
البغداديين ثلاثة أيام
بلياليها من كثرة من قتل منهم.
وهاهو "أحمد الجلبي" يدخل
بغداد على ظهر دبابة أمريكية
معيدا سيرة سلفه العلقمي. من
قبلهما عمل "أبو رغال"
دليلا عند "إبرهة الأشرم"
الحبشي وقاده إلى "مكة
المكرمة" في عام الفيل قاصدا
هدم الكعبة. وهكذا أصبح "أبو
رغال"، بعد ذلك، اسما لكل من
يعين الأجنبي على وطنه.
كل الحروب الحديثة التي خاضها
العرب ضد إسرائيل في القرن
العشرين خسروها بسبب خيانات
اقترفتها قيادات كانت تشغل
مراكز حساسة في الجيش أو في
الحكومة مع أنه لم يكن ينقص تلك
الجيوش العدد والعتاد، مقارنة
مع معارك التحرير والاستقلال
التي خاضتها الشعوب العربية ضد
فرنسا وبريطانيا. فقد شكلت
الشعوب عصابات بأسلحة فردية
وشبابٍ قليل العدد ضعيف
التدريب، ولكنه كان يملك
الإرادة والإخلاص.
من جهة أخرى، فإن الحركات
والأحزاب التي تشكلت بعد
الاستعمار لم تسلم من اختراقات
من منافسيها لسبب أولآخر. ربما
لأن تلك الأحزاب لم تكن تدقق أو
تمحص المنتسبين إليها . وربما
كان ذلك بسبب عوامل الضعف التي
تظهر عند تعرض العضو لعوامل
الإغراء أو الابتلاء، ثم لا
يصمد أمام المغريات، ولا يصبر
عن عند اشتداد الضغوط.
ما يهمنا أن نعرض له هنا، هو مدى
الصمود الذي يستطيعه أفراد
الجماعات الإسلامية مع تعدد
عوامل الإحباط التي كثيرا ما
واجهت الأفراد والجماعات مع
تعاقب الابتلاءات وطول الطريق،
خلال الرحلة التي ليس فيها إلا
أن يبذل الأعضاء ثم يبذلون ثم لا
ينتظرون جزاء ولا شكورا، لأنهم
يطلبون الجزاء في الآخرة. وحتى
لو وصلت الجماعة للحكم، فليس
هناك من مكافأة دنيوية، إذ أن
المنصب هو تكليف لا تشريف، أو
هكذا ينبغي أن يكون.
ما يسمى بظاهرة "الطابور
الخامس"، فإن الحركات
الإسلامية لم تسجل خرقا داخلها،
وعند الإخوان المسلمين على وجه
الخصوص، لماذا؟ لأن الذي ينتسب
للإخوان ينبغي أن يتصف بصفات
يصعب على "المتسلل"
المحافظة عليها لمدة طويلة إذا
ما حاول أن يخترق جماعة الإخوان
المسلمين، مثل الالتزام
بالواجبات الإسلامية والامتناع
عن ارتياد أماكن اللهو مثل
السينما، وأن يلتزم بالواجبات
الإسلامية. أثناء التحقيق مع
معتقل من الإخوان المسلمين في
سورية، سأله المحقق عما إذا كان
الإخوان يقبلون في صفوفهم من
يشرب الخمر أو ... أو .... فيجيب
المعتقل في كل مرة بالنفي.
وعندما سأله المحقق عما إذا كان
يُقبل في الجماعة من يدخن
"السيكارة"؟ أجاب المعتقل:
"على مضض"!.
ومع ما قدمنا فقد تعرضت بعض
الجماعات الإسلامية لمواقف
تمحيص، عندما كان يُعرَض
المنصبُ الحكومي على قياديين في
جماعة ما من قبل أنظمة الحكم،
فتطلب منه جماعته رفض المنصب. في
أغلب الحالات كان العضو لا يرفض
لأنه يحب الظهور، ولا يجد ذلك
داخل الجماعة، فيستغل النظام
فيه ذلك ليخلق شرخا أو اختراقا
من خلاله في الجماعة. في كل
الحالات تكون التجربة
"وبالا" على من يخضع
للإغراء، لأن المنصب الحكومي
الذي يعطى له منصب شرفي، لا
صلاحية له فيه، ولمرة واحدة
فقط، ثم يلفظ لفظ النواة.
على عكس ما يتوقعه البعض، فإن
محاولات الاختراق تشتد وتكثر في
الجماعات عندما تكبر ويشتد
عودها فتصبح هدفا للأنظمة من
خلال استهداف قيادات وأفراد
فيها. وعلى كل حال فإن الأنظمة
تربح في كلا الحالين. لأن العضو
المستهدف سيسقط فيمالو قبل،
ويصبح موضع شك فيما لو رفض، لأن
الإشاعات لن تتركه وحاله.
لم تسلم جماعة الإخوان المسلمين
في مصر من هذا الابتلاء. لكنه
كان ابتلاء مخففا لمجيئه في وقت
ابتلاء كان أشد وأنكى خلال عهد
عبد الناصر. حيث أعدم منهم
العشرات واعتقل عشرات الآلاف
وشرد عشرات آلاف آخرين، فكان
الإغراء بالسلطة ساقية صغيرة
إذا ما نسب ببحر الاعتقال
والنفي والتشريد.
في سورية، نادرا ما حاول حزب
البعث إغراء أعضاء في جماعة
الإخوان المسلمين، لأن
الأيديولوجيا كانت على طرفي نقيض
بينهما. كما لم يشعر البعث أنه
بحاجة لتجنيد أعضاء في الجماعة.
على العكس من ذلك حاول الحزب
استمالة كثير من الناصريين بسبب
تقارب الأهداف. ولأنه أراد أن
يزيح من طريقه عبد الناصر الذي
كان يحظى بتأييدٍ من اشتراكيين
وقوميين، ويعتبر منافسا قويا
للبعثيين في سورية.
في عهد
الوحدة مع مصر، ومع إلغاء
الأحزاب في سورية، تعاون بعض
الإخوان مع عهد عبد الناصر. أكثر
الذين تعاونوا مع عبد الناصر لم
يعودوا لصفوف الإخوان بعد
الانفصال واستعادة الأحزاب
نشاطها. ومن رجع منهم حمل مع
شهوة السلطة، فعانت منه الجماعة
ومن ضعف انضباطه، وساهم بشكل أو
بآخر في بعض الانشقاقات.
أشد ما ابتليت به جماعة الإخوان
المسلمين هو الاختلاف في الرأي،
وإعجاب كل ذي رأي برأيه، مع أن
الخلاف غالبا ما يكون بين
موقفين كلاهما جائز، أي بين
راجح ومرجوح، مع تشبث كل طرف
بموقفه. لم يكن الخلاف أبدا حول
المبادئ، بل كان حول السياسات،
ومع ذلك، فقد أدى الخلاف في بعض
الأحيان إلى انشقاقات في صفوف
الجماعة.
لم يسجل حتى الآن أن الخلاف أدى
إلى الاصطفاف مع قوى يعتبرها
الطرفان قوى عدوة. أقصى ما سجل
حتى الآن هو الابتعاد النهائي
للبعض. مع أن الجماعة حاولت أن
لا تقطع الصلة بمن ترك.
يبقى أن نقول أنه ربما حاول البعض
ممن ترك الجماعة معرفةَ أسرارٍ
–عن طريق من هم على رأيه ولم
يتركوا- قد لا ترغب الجماعة
بنشرها. وربما وصلت هذه الأسرار
بطريق أو بآخر إلى صحف تبطن
الكره للإخوان، فتضيف الصحف على
تلك الأسرار أو تنقص، وتجعل من
الحبة قبة، وغالبا ما تكون تلك
الأخبار ملفقة ولا تقف على
رجلين. ربما يعتبر بعض
الإسلاميين أن الخوض في هذه
المواضيع مما لا يحسن، وأنا
أردد مع المثل: " الدين المخبأ
بابوجة". نؤكد أن تسليط الضوء
على أمور في الظل يكشف الزوايا
المعتمة التي لا تزيد العمل إلا
إظلاما.
هل نستطيع أن نقول أننا أحطنا بكل
النواحي المثيرة للجدل في
الموضوع. ربما توقفت عند أمور،
وفضلت تركها والإعراض عنها وهي
على كل حال أمور ثانوية،
إلاأنها تلقي ظلالا ثقيلة على
شفافية العمل الإسلامي العام.
يبقى أن ما أوردته هو رؤية خاصة
بي، ولا أزعم أنها وحدها
الصواب، فالصواب كثيرا ما
يتعدد.
*كاتب سوري
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|