ــ
مخاض
المنظمات الحقوقية في سوريا
محمد
علي العبدالله*
يعمل في الساحة السورية اليوم
عدد من المنظمات الحقوقية وهي
تعنى بالدفاع عن حقوق الإنسان،
وتعمل على كشف انتهاكات هذه
الحقوق أمام الرأي العام الوطني
والدولي.
بدأ تشكيل أولى هذه المنظمات عام
2001 في فترة ربيع دمشق، وبدأت
بالتكاثر تباعاً خلال الأعوام
الستة المنصرمة، وقد أخذت في
التوسّع في نشاطها والتعاطي مع
الإعلام، وكان لبعضها أثر
ايجابي كبير على المشهد السياسي
السوري عامة والحقوقي خاصة.
إلا أن أياً من هذه المنظمات،
وبسبب ظروف عملها، حيث ما زالت
غير مرخصة وتعمل في مناخ
الملاحقة والتضييق والمنع، لم
تمتلك تصوراً واضحاً أو
برنامجاً حقوقياً صرفاً قائماً
على الدفاع عن حقوق الإنسان
بعيداً عن المسارات السياسية
وارتباطها بالسياسة الداخلية
أو الخارجية للنظام، وهذا انعكس
سلباً على نشاطها وأساليب
عملها. دون أن ننسى غرام بعض
نشطائها بالظهور الإعلامي
وجنون الشهرة المسيطر عليهم.
وجعل بعضها ضعيف النشاط منذ
تشكله، وبعضها الآخر جاهلاً
بثقافة حقوق الإنسان، وهذا بارز
في تركيز معظم هذه المنظمات على
الحقوق السياسية، إذ نادراً ما
اهتمت أي أي منها بالحقوق
الاقتصادية والاجتماعية أو
أعطتها أهمية موازية للحقوق
السياسية، وهذا تركها بعيدة عن
التفاعل مع شريحة واسعة من
المواطنين. ربما كان مرد ذلك أن
عدداً كبيراً من أعضاء هذه
المنظمات "الحقوقية" ليسوا
من الحقوقيين أصلاً، بل من
أصحاب اختصاصات أخرى، دخلوا
اليها دون إعداد كافٍ أو دون
إعداد أصلاً، أما الحقوقيون
منهم فهم موزعون، في حالات
كثيرة، بين أعمالهم اليومية
(مرافعات ـ دعاوى عادية) كونها
مورد رزقهم الوحيد وبين النشاط
الحقوقي الطوعي (المجاني) الذي
قد يستهلك وقتاً وجهداً كبيرين.
لذا كثيراً ما نقرأ البيانات
الصادرة عن تلك المنظمات،
فنجدها بيانات عامة مكتوبة بلغة
عادية تكاد تخلو من أي طابع
قانوني أو حقوقي، لا تعطي
قارئها انطباعاً بأنها صادرة عن
منظمة مختصة، وإذا ما احتوت أي
طابع قانوني فيتم إلصاقه في
مقدمة البيان بطريقة ضعيفة لا
تخدمه وتعطي أثراً عكسياً
(إهمال البيان بدلاً من قراءته).
ويغلب على معظم بياناتها الطابع
الاخباري لا الحقوقي. ناهيك عن
التنافس فيما بينها والحرص على
"السبق" في إصدار البيان،
حتى لو كان هذا السبق على حساب
قوة البيان ودقة معطياته، فلا
مشكلة لدى أي منها ـ من حيث
المبدأ ـ إن احتوى البيان/الخبر
معلومات خاطئة شرط أن تكون هي
المنظمة الأولى التي أصدرته.
إلى جانب هذه الواقع المؤسف نلحظ
وبشكل متصاعد خروج هذه المنظمات
عن أهدافها الحقوقية وامتهانها
العمل السياسي، وهو ما يعتبر
المسار الأكثر بؤساً في تجربة
هذه المنظمات، ويشكل الدالة
الكبرى على وجود نقص في بنيتها،
فهي ـ كالمولود الخدج ـ كاملة
بالشكل ناقصة بالمضمون.
إن خروج هذه المنظمات عن طبيعتها
يعود إلى غياب وضعف بنية
المجتمع المدني السوري، حيث
يميز الدارسون في موضوع المجتمع
المدني بين ثلاث سويّات من
التجمعات المدنية:
السوية الأولى: تتمثل بأبسط
أشكال التجمعات المدنية وهي
التجمعات الرياضية والشبابية
الصغيرة كالنوادي مثلاً، لا
تمارس هذه السوية أي نشاط سياسي
(سري أو علني)، فأهداف تجمعاتها
غير سياسية أصلاً.
السوية الثانية: وتضم مجموعة من
التجمعات ذات الأهداف السياسية
سراً وغير السياسية علناً،
يمارس أعضاؤها العمل السياسي
لكنهم لا يعلنون عن ممارسته
لأسباب مختلفة، ويختبؤن، في
سبيل ذلك، وراء تجمعات غير
سياسية، ومنظمات حقوق الإنسان
تكاد تكون الشكل الأكثر
استخداماً في هذا الإطار.
السوية الثالثة: وهي السوية
الأرقى في التجمعات المدنية،
تجمعات سياسية علناً، يمارس
أعضاؤها العمل السياسي بصورة
علنية، لا بل يدافعون عن
ممارساتهم باعتبارها حقاً من
حقوقهم. ويعد الحزب السياسي
الشكل الأكثر تجسيداً لهذه
التجمعات المدنية من السوية
الثالثة.
إن غياب الأحزاب من الحياة
السياسية السورية، أو بكلام آخر
غياب السوية الثالثة من
التجمعات المدنية، لا يسمح
بنشاط مدني حقيقي كمقدمة لقيام
مجتمع مدني سوري ناضج، وهذا
يفرض وصف الحراك القائم بقوى
مجتمع مدني، قوى تناضل من أجل
خلق مجتمع مدني. فتغييب الأحزاب
السياسية في سوريا ـ وهو حالة
مكرسة قانوناً من قبل نظام
البعث حيث لا يوجد أساس قانوني
لنشوء الأحزاب أصلاً ـ يدفع
بعدد غير قليل من الراغبين في
العمل السياسي الى ممارسته عبر
السوية الثانية، فقد وجد هؤلاء
في المنظمات الحقوقية الغطاء
الأمثل لمشاريعهم السياسية.
الأمر الذي يفسر إصدارها بيانات
سياسية واضحة الدلالات في بعض
الأحيان، بعيدة كل البعد عن
العمل الحقوقي (الاحترافي أو
حتى المبتدأ) ويفسر خروجها عن
طبيعتها كمنظمات حقوقية، فهي ـ
أو كوادرها ـ تعيش حالة مخاض
للانتقال من السوية الثانية الى
السوية الثالثة من التجمعات
المدنية.
إن امتلاك هذه المنظمات لبرنامج
حقوقي واضح ومختص، إضافة الى
تأهيل المحتاج منها، يساهم الى
حد كبير في تفعيل هذه المنظمات
وقيامها بدورها، وصدور قانون
للأحزاب يسمح بالعمل السياسي
الحزبي يتيح الفصل بين العمل
السياسي والحقوقي وهذا مقدمة
ضرورية لإعادة إحياء المجتمع
المدني السوري.
*كاتب وناشط سوري
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|