ــ
جـزء
من الوجه المشرق للحركة الأسيرة
المعتقلون
حطموا المستحيل وحوَّلوا
السجون إلى جامعات
*إعداد
/ عبد الناصر عوني فروانة
رغم ما تعرض ويتعرض له الأسرى في
سجون الاحتلال الإسرائيلي من
قهر وتعذيب ومعاملة لا إنسانية
وظروف حياتية ومعيشية لا تليق
بالحياة الآدمية ، إلاّ أنهم
تأقلموا مع هذا الوضع
الإستثنائي الخطير ، لأنهم
عرفوا مسبقاً طبيعة الإحتلال
ورأوا ومنذ طفولتهم صور إجرامه
، وأدركوا أيضاً بأن الحقوق لا
توهب ، بل تنتزع ، وأن التاريخ
لا ولم يكتب إلاَّ بالدم ،
والإنتصار لا يتأتي إلا بتضحيات
جسام ،
كما وأدركوا في وقت مبكر أن
الاحتلال يستهدف ثقافتهم
وتراثهم ويريدهم
أجساماً مفرغة لا مضمون لها ،
ولهذا لم يستسلموا للواقع
المرير ، وقرروا بإرادة فولاذية
وعزيمة لا تلين تنظيم أنفسهم
وخوض النضال حتى خلف القضبان
لتحسين ظروف حياتهم وانتزاع
أبسط حقوقهم الأساسية ، فقدموا
الشهيد تلو الشهيد ، وسجلوا
وعلى مدار العقود الماضية صفحات
مشرقة من النضال واستطاعوا أن
يسطروا تاريخاً خاصاً بهم ،
حافل بالمآثر والتجارب الرائعة
، ولم يسبق للتاريخ البشري أن
سجل تجربة جماعية خلف القضبان
أكثر إشراقاً من تجربة الحركة
الأسيرة في سجون الاحتلال
الإسرائيلي .
ومن أوجه تلك التجارب تحويل
السجون والمعتقلات إلى قلاع
ثورية ومدارس فكرية وجامعات
خرجَّت أجيال وأجيال ، فخرَّجت
القائد الفذ والمناضل العنيد ،
الكاتب الرائع والشاعر المبدع ،
فحركة التعلم والتثقيف لم تتوقف
، لكنها مرت بمراحل ، ففي
بدايتها كان من الصعب إيجاد
أوراق و أقلام ، ووصل الأمر إلى
استخدام ورق السجائر وأوراق
الكارتون أو أي مادة ورقية
للكتابة، كما أن الأقلام كانت
ممنوعة ولكنها تُهرب
إلى داخل السجون
حتى أن القلم الواحد كان يمرر
على التنظيمات المختلفة لكتابة
ما يحتاجونه من تعليمات وغيرها
، فاضطر المعتقلين إلى خوض
اضرابات طويلة عن الطعام
بهدف السماح بالدفتر والقلم،
وحقهم في ادخال الكتب، وكذلك
السماح لهم بتنظيم
برامج، دورات تعليمية مختلفة في
شتى الميادين، ورغم المماطلة
والتسويف من قبل ادارة مصلحة السجون الاحتلالية ، الا
انه في المحصلة النهائية
تم انتزاع الدفتر والقلم وحق
ادخال الكتب، فانتقلت إدارة
السجون إلى محاربة المادة المكتوبة في الدفاتر من خلال
المراقبة والتفتيش والضبط
والمصادرات، وكذلك من
خلال التحكم في
نوعية الكتب التي يتم إدخالها
بمنع الجدي والمفيد والسماح
بالتافه أو
بكتب التسلية التي تقتل الوقت...
وبكل الأحوال تطورت الأمور وشهدت
نقلات نوعية ويمكن الآن توفير
كافة متطلبات العملية
التعليمية من دفاتر وأوراق وبعض
الكتب وغيرها، لكنها معرضة في
كل لحظة للمصادرة من قبل إدارة
السجون ، كما تعتمد الحركة
التثقيفية على التثقيف الذاتي
من خلال المطالعة الذاتية أومن
خلال نقل المعارف وتبادل
الخبرات من خلال الجلسات التي
كانت تتم بشكل جماعي وعلى شكل
ندوات ثقافية ،
وإذا ما تطرقنا للموضوعات
التي يتم تناولها فالتركيز يتم
بشكل أساسي على الموضوعات
السياسية والأمنية والفكرية و
خاصة الصمود في التحقيق
والتجربة الاعتقالية والتعامل
مع إدارة السجون ، إضافة لمحو
أمية للأسرى الذين لم ينالوا أي
قسط من التعليم ويوضع لهم
برنامج إجباري ، وهذا لا يعني
عدم تناول موضوعات أخرى ، كما و
ركزت العملية التعليمية داخل
المعتقلات على تعليم اللغات
وخاصة العبرية والإنجليزية
وبشكل اختياري للأسرى الراغبين
في ذلك، وتمكن
المئات منهم من إتقان ذلك بل
وقاموا بترجمة العديد من الكتب
والمؤلفات وعملوا بعد تحررهم
وبنجاح وتفوق في هذا المجال .
تميز العديد من المعتقلين
بكتاباتهم
كما واتجه عدد كبير من الأسرى إلى
تعلم الكتابة وإن كانت جزء من
برامج التنظيمات ولكن بتفاوت
بين هذا التنظيم وذاك ، لكن من
المعتقلين من أولوا هذا الجانب
أهمية إضافية فأجادوا وأبدعوا
في كتاباتهم ، النثرية والشعرية
والقصائد والقصص القصيرة
والمقالات والدراسات والبحوث ..
إلخ فكتبت ولا زالت تكتب خلف القضبان مئات القصص القصيرة ومئات
القصائد والخواطر والمقالات
السياسية ، وجزء لا بأس به من
الأسرى واصل كتاباته بعد التحرر
وانضم رسمياً إلى الكتاب
والشعراء والصحفيين والمترجمين
، ومن أبرز هؤلاء محمود
الغرباوي ، فايز أبو شمالة ، أبو
سليم جادالله ، عيسى قراقع ،
أحمد قطامش ، علي جدة ، محمود
جدة ، حسن عبد الله ، عطا
القيمري ، د.عدنان جابر ، عزة
الغزاوي ، على جرادات ، غازي أبو
جياب ، المتوكل طه ، عدنان
الضميري ، ناصر اللحام والقافلة
تطول وليعذرني من لم آتِ على ذكر
أسمائهم .
رغم اختلاف البرامج .. الهدف صقل
الأسرى وزيادة معارفهم
وكان لكل تنظيم برنامجه التثقيفي
الخاص ورؤيته للمواد التي يجب
تناولها ، كما كان كل تنظيم
يمتلك مكتبة خاصة به ، بجانب
المكتبة العامة التي تحتوي في
الغالب على آلاف الكتب المتنوعة
، و هناك آليات لتبادل الكتب بين
مكتبات التنظيمات المختلفة ،
وبالرغم من اختلاف البرامج
وآليات التعليم ، إلا أن هناك
أطار مشترك يوحد الجميع يعتمد
على ضرورة استغلال فترة السجن
في صقل وزيادة معرفة الأسرى
بكافة مستوياتهم ، وأحياناً
كانت تقوم تلك التنظيمات
الفلسطينية على نشر ثقافة موحدة
بين الأسرى من خلال إصدار مجلات
مشتركة تركز في أغلب موضوعاتها
على المواد الوطنية والأمنية
والأدبية ، إلى جانب المجلات
التي يصدرها كل تنظيم على حدا
لأفراده ، وفي تطور يعكس مدى
تلاحم وحدة الأسرى كانت تجرى
ندوات ثقافية جماعية لأكثر من
تنظيم أو لجميع التنظيمات في
ساحة القسم وقت الفسحة ويتناول
فيها موضوع الساعة أو قضية
وطنية عامة وأحياناً تكون
بمثابة مناظرة سياسية .
وكان التطور الكبير الذي شهدته
المعتقلات هو إصرار المعتقلين
بنضالاتهم على اكمال دراستهم
للحصول على شهادة الثانوية
العامة بعدما سمحت إدارة السجون
بذلك وفقاً لشروط معينة
وبالتنسيق مع التربية والتعليم
، وبالفعل تمكن العديد من
الأسرى من الحصول على تلك
الشهادة ، في حين حُرم ممن لا
تنطبق عليهم الشروط من ذلك ، كما
لا زال الأسرى محرومين من تواصل
مسيرتهم التعليمية لمن هم أدنى
مستوى من الثانوية العامة .
انتزاع حق الإنتساب للجامعات
والتعلم عن بُعد
وفي تطور نوعي آخر وكأحد انجازات
إضراب الأسرى المفتوح عن الطعام
عام 1992 ، والذي شمل كافة السجون
واستمر تسعة عشر يوماً ، استطاع
الأسرى انتزاع حق الانتساب
للجامعات والتعلم عن بعد من
خلال المراسلة ، ولكن لم تسمح
لهم سلطات السجون منذ ذلك الوقت
إلاَ بالانتساب للجامعات
العبرية فقط ، وهذا ما مكن مئات
الأسرى من الإلتحاق بالجامعات
العبرية ومواصلة تعليمهم
الجامعي ، والحصول على شهادات
جامعية متقدمة و حصلوا على درجة
البكالوريوس في تخصصات مختلفة ،
و البعض منهم أكملوا دراستهم و
حصلوا على الماجستير .
وقد شكل هذا الإنجاز دفعة قوية
لمئات الأسرى الآخرين الذين
يناضلون من أجل الحصول على
الدرجات العلمية المختلفة
بدءًا من شهادة الثانوية
العامة، ووصولا للشهادة
الجامعية الأولى ثم الماجستير و
الدكتوراه .
أسرى يحصلون على شهادات جامعية
وفي هذا الصدد حصل العديد من
الأسرى على شهادة البكالوريوس
والماجستير ومنهم على سبيل
المثال لا الحصر الأسير
اللبناني سمير القنطار الذي حصل
على البكالوريوس بالعلوم
الإنسانية والإجتماعية وأنهى
دراسة الإجازة في حزيران العام
1997 من جامعة تل أبيب المفتوحة ،
وواصل سمير محاولات للإستمرار
في الدراسة والحصول على شهادات
جامعية أخرى
.
وفي حزيران 2005 حصل الأسير محمد
حسن محمود إغبارية، من قرية
المشيرفة في المثلث الشمالي،
وهي في المناطق التي أحتلت عام
1948 ، و المعتقل منذ عام 1992
ومحكوم بالسجن (3 مؤبدات + 15سنة) ،
على درجة "الماجستير"
في العلوم الديمقراطية من
الجامعة المفتوحة في تل أبيب،
وكان حصل من قبل على شهادة
مماثلة في التاريخ والعلوم
السياسية .
وفي أواخر مايو الماضي حصل
الأسير منصور عاطف ريان من بلدة
قراوة بني حسان قضاء سلفيت شمال
الضفة الغربية على شهادة
البكالوريوس في العلاقات
الدولية والعلوم السياسية من
الجامعة المفتوحة العبرية
بواسطة المراسلة من داخل سجن
هداريم وسط " اسرائيل "
بمعدل 85 % .
أسرى ناقشوا رسائل الماجستير
والدكتوراة عبر الهاتف النقال
ولم يقتصر الأمر على ذلك ففي تحدي
غير مسبوق تمكن بعض الأسرى من
مواصلة تعليمهم الجامعي عبر
الهاتف النقال الذي يتم تهريبه
إلى داخل السجن ومنهم من ناقش
رسالة الماجسير والدكتوراة عبر
الهاتف النقال ، حيث أن العديد
من طلاب الجامعات الفلسطينية
يعتقلوا أثناء دراستم الجامعية
، فيواصلوا دراستهم في السجن
بطريقتهم الخاصة ، ومنهم من
ناقش رسالة الماجستير
والدكتوراة عبر الهاتف النقال
المهرب لداخل السجون وتجاوزوا
ذلك بنجاح .
فعلى
سبيل المثال لا الحصر
الأسير ناصر عبد الجواد 38
عاما ناقش رسالة الدكتوراه (
نظرية التسامح الإسلامي مع غير
المسلمين في المجتمع الإسلامي )
من داخل قسم 5 بمعتقل مجدو عبر
الهاتف النقال لمدة ساعتين ونصف
الساعة مع جامعة النجاح الوطنية
بتاريخ 16/8/2003 ، واعتبرت سابقة هي
الأولى من نوعها في فلسطين،
وربما في العالم وحصل بالفعل
على درجة الدكتوراة ليكون أول
أسير فلسطيني يحصل على هذه
الدرجة العلمية العليا أثناء
فترة محكوميته .
وهذه لم تكن الأخيرة في ظل إصرار
الأسرى وإرادتهم الصلبة ،
فبعدها بفترة وجيزة وفي نفس
العام ناقش أيضاً الاسير
الفلسطيني رشيد نضال رشيد صبري
(29 عاماً) في سجن “عوفر” غرب رام
الله وعبر الهاتف النقال مع
جامعة بيرزيت رسالة ماجستير
ولمدة ساعة ونصف وكانت رسالته
في إدارة الأعمال بعنوان "
إدارة الجودة في الصناعات
الفلسطينية للبرمجيات ".
وتعتبر هذه هي أول رسالة ماجستير
تناقشها جامعة بيرزيت، لأسير من
داخل سجون الاحتلال، والثانية
في فلسطين بعد رسالة الدكتوراة،
التي ناقشها الأسير ناصر عبد
الجواد مع جامعة النجاح .
وفي
مايو 2006 تمكن الأسير طارق
عبدالكريم فياض من مناقشة رسالة
الماجستير على الهاتف النقال من
معتقل عوفر مع جامعة القدس ،
وكانت رسالته حول " تأثير
الانتفاضة على الاقتصاد
الإسرائيلي " .
وتمكن فياض المعتقل في ديسمبر 2003
، و محكوم لمدة أربع سنوات ونصف
السنة، من الحصول على درجة
الماجستير من برنامج الدراسات
الإقليمية في كلية الدراسات
العليا بجامعة القدس
.
وكان فياض أنهى المقررات
الدراسية قبل اعتقاله، وأنجز
رسالته في المعتقل، وهو من
قرية دير الغصون بمحافظة
طولكرم، وأب لطفلين.
وفي الختام أتساءل هل هناك من
مؤسسة أو مركز أو تنظيم وثَّق
هذه الجزئية الساطعة من تاريخ
الحركة الأسيرة ؟؟
ألا يستحق هذا التاريخ
الرائع بشموليته وأجزائه
ومراحله ومحطاته المختلفة
إستراتيجية واضحة ومزيد من
العمل والجهد لأجل توثيقه قبل
أن يندثر كجزء من الوفاء للحركة
الأسيرة وتاريخا المشرف ،
خاصة وأن جزء كبير منه أسير
بذاكرة من شاركوا في صناعته من
الأسرى المحررين ، وأخشى
برحيلهم عن الدنيا أن يرحل معهم
ذاك التاريخ ..!!
ــــــــــــ
*أسير سابق وباحث متخصص بقضايا
الأسرى ومدير دائرة الإحصاء
بوزارة الأسرى
ferwana@gawab.com
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|