ــ
تركة
استعماريّة مثقلة
بقلم:
محمد علي شاهين
كشف مؤرخو القرون
الوسطى المسلمون في موسوعاتهم
التاريخيّة القيّمة الغطاء عن
حقيقة الجماعات والطوائف
الشرقيّة التي مارست دور (أبي
رغال) دليل طريق جيش أبرهة في
زحفه نحو الشمال باتجاه مكّة
زادها الله شرفاً وتكريما.
ولم يضنّ علينا
مؤرّخو الحروب الصليبيّة في
أوروبا بالمعلومات التاريخيّة
التي تفضح حقيقة المتعاونين
الشرقيين مع الغزاة الزاحفين
على معاقل الإسلام ولكن نحو
الجنوب هذه المرّة.
وتحدث جيل
المعمّرين من معاصرينا، عن دور
الخونة والعملاء في تمهيد الأرض
لاحتلال البلاد الإسلاميّة
وتقسيمها، وتمكين المحتل
الأجنبي من السيطرة عليها،
ودوّن مؤرّخوهم صورة المأساة
الأخلاقيّة التي رافقت دخول
قوّات الاحتلال، وفضحت الوثائق
المفرج عنها المستور.
ولم يغفلوا دور
الزمر العسكريّة التي رباها
الاستعمار على عينيه، ورعى
ضبّاطها في معاهده العسكريّة،
ووصفوا معارك جيوش الأقليات (جيش
الشرق الفرنسي في سوريا) ـ الذي
خرّج قادة الانقلابات
العسكريّة ـ التي خاضوها نيابة
عن الأجنبي المحتل مع القوى
الوطنيّة والإسلاميّة.
وهكذا ترسّخ في
أذهان الناس أنّ الخائن لا وطن
له ولا جنسيّة، وأنّ أمّة من
ضعاف النفوس لا تتورّع عن خيانة
الأوطان وبيعها بأبخس الأثمان
في كلّ زمان ومكان.
ففي عام 1940 احتلت
ألمانيا النازية فرنسا، وشكل
المحتلون حكومة عميلة ـ في
منطقة فيشي ـ تأتمر بأمرهم
وتنفذ كل مطالبهم، ولم يتورّع (فيليب
بيتين) أن يتولى رئاسة فرنسا،
ويتقلّد (بيير لافال) رئاسة
الوزراء، ويقوم (جوزيف دارناند)
برئاسة المخابرات الفرنسيّة،
وأن يقسم جميع هؤلاء يمين
الولاء لهتلر.
وتورّط في أوروبا
يهود عملاء للنازيّة في عمليّات
الإبادة الجماعيّة التي
تعرّضوا لها، وأمعنوا في تقمّص
دور الضحيّة، عندما سهّل بعضهم
القيام بها، بل وتمويلها أيضاً،
لغاية في نفوسهم.
ووجدت فرنسا بعد
حادثة المروحة جيشاً من (الحركيين)
المحليّين، أيّدوا سياسة إدماج
الجزائريين المسلمين في
البوتقة الفرنسيّة، وشاركوا في
عمليّة طمس الهويّة العربيّة،
ومهّدوا الأرض لإقامة مليون
أوروبي أوكلت إليهم
المسؤوليّات السياسيّة
والاقتصاديّة والإداريّة،
ومارسوا جميع صور الخيانة،
وأرسلوا إلى ساحات التعذيب
والاعدام رجالاً لم تثبت
إدانتهم، فلمّا
نالت البلاد الجزائريّة
استقلالها بتضحيات أبنائها
وتفانيهم، لم يجد (الحركيون) لهم
مكاناً في الجزائر المستقلّة،
فرحل مع الجيش الاستعماري
الفرنسي نحو مائة ألف عميل أو
يزيدون، يجرون أذيال العار
والخيانة.
وكانت الولايات
المتحدة أبّان أستعداداتها
لغزو العراق قد قامت بتدريب
آلاف العراقيين الذين يعيشون
خارج العراق على القتال،
والتعاقد مع آلاف المترجمين
العرب للخدمة في وحداتها
الغازية، ومعهم آلاف المرتزقة
لحماية الشخصيّات والمقرّات
باسم شركات الأمن والحماية، وقد
أدّت أعمال المقاومة الوطنيّة
إلى طلب المزيد من المتطوّعين
حتى أنّ وزارة الدفاع الأمريكية
اضطرّت للإعلان عن حوافز مغرية
ومكافآت مجزية، تتضمن رواتب
مغرية، ومنح للإقامة، والجنسية
الامريكية لمن يرغب بالتطوع.
والمأزق الخطير
الذي يؤرّق المتعاونين
والمتعاقدين الذين تلوّثوا
بتهمة العمالة للأجنبي ويدعوهم
للخوف من عواقب الأمور ويقلقهم،
هو المصير المجهول الذي ينتظرهم
بعد انسحاب الجيوش الغازية من
عراق الرشيد، وزوال سلطة
الاحتلال.
وما نظن التصريحات
التي أطلقها عدد من المسؤولين
الأمريكيين حول هذه القضيّة إلا
شكل من أشكال المواساة والتطمين.
والحل المتوقع، أن
يجري استيعابهم من خلال بنود
الانسحاب القادم داخل العراق
والدول المجاورة، وأن يوضع بند
مستقل لحل مشكلة المتعاونين مع
الاحتلال على حساب الشعب
العراقي، كما استوعب غيرهم في
العالم العربي .
وما نظن أمريكا
معنيّة بمستقبل هذه التركة
المثقلة، ولا باستيعابها في ما
وراء البحار، لأنّ من يخون
أمّته غير مؤتمن على مصالح
غيرها.
وعندما انسحبت
إسرائيل من غزّة، أخذت معها
أربعة آلاف خائن من الجواسيس
المندسّين الذين اخترقوا
منظمات المقاومة فدلّوا على
عورات المسلمين، من خلال
تجنيدهم في دوائر (الشاباك)
وتسبّبوا في استشهاد أبطال
المقاومة وقادة الإنتفاضة
الميامين.
وتحت ضربات
المقاومة اللبنانية أجبرت (إسرائيل)
على الانسحاب من الجنوب من جانب
واحد، دون قيد أو شرط في أيّار
2000، وانفرط عقد دويلة سعد حداد،
وفرّ جيش الدويلة العميلة يجر
أذيال الخيبة والعار مذموماً
مدحوراً إلى الأرض المحتلّة.
ورفضت اسرائيل
استيعابهم في مستعمراتها، رغم
عرضهم خدماتهم القتاليّة
عليها، وحاولت التخلّص منهم
بتسهيل هجرتهم إلى أستراليا
وكندا والأرجنتين، ومن بقي منهم
داخل الأرض المحتلّة استخدمته
ضدّ الانتفاضة الفلسطينيّة،
ومن احتجّ على سوء معاملته منهم
داست رأسه أحذية العسكر
الصهيوني إمعاناً في إذلاله
واحتقاره.
وكانت الطامّة
الكبرى عودة العائدين (التائبين)
بعد استقرار الأوضاع بيد النخب
العسكريّة المتعاونة، الذين
ورثتهم دول المشرق العربي
ومغربه، في جملة التركة
الاستعماريّة المثقلة.
والأدهى من ذلك أنّ
التركة الاستعماريّة لم تكن
محصورة في الجيش، فقد ترك
الاستعمار خلفه طابوراً
ملوّثاً مهووساً بكل ما هو
أجنبي، يحمل أعلى الشهادات من
أرقى جامعات الغرب ومعاهده، لم
يتورّع عن بث سمومه في كل مرفق
من مرافق دولنا المستقلّة، وجرى
تسليمه مفاصل الدول الإسلاميّة
ومقدّراتها.
فتعدّى على الشريعة
المحمديّة بعضهم وأعلن فصل
الدين عن الدولة وكبّل الأمّة
بقوانين نابليون، وأغلق
المحاكم الشرعية، وأغار على
العربيّة لغة القرآن وأحرفها
وكاد يستبدل الأحرف اللاتينيّة
بالأحرف العربيّة بعضهم الآخر،
حتى الشعر الجاهلي لم يسلم من
تشكيكهم، ومنع الأذان
بالعربية، وألغى التقويم
الهجري.
وفي عهد هؤلاء صدر
قانون القبّعة لأنّها تعيق
السجود، وفرض السفور وانتزع
الحجاب من فوق رؤوس المسلمات
العفيفات في وضح النهار.
وأعاقوا تقدّم
الأمّة ومنعوا نهضتها وكبّلوا
أيديها، وبدّدوا ثرواتها،
وأثقلوها بالديون، وكدّسوا
المال الحرام المنهوب
بالمليارات في حساباتهم
المصرفيّة.
وكرّسوا التقسيمات
الاستعماريّة في شرق العالم
العربي ومغربه، وكانت كل
الشعارات الوحدويّة التي
رفعوها مجرّد عبارات ركيكة
تفتقد المصداقيّة.
وكان العسكريّون في
الزي المدني الذين لم يتزحزحوا
عن السلطة، وجعلوها إرثاً
عائليّاً أقلّ تسامحاً وأكثر
استبداداً، أمّا سلطتهم فكانت
طاغية في غياب الرقابة الشعبيّة.
أمّا المواطن
العربي فقد تحوّل في ظل التركة
الاستعماريّة المسيطرة إلى
كائن استهلاكي نفعي مدجّن، يبحث
بأظافره عن الطعام كالجعلان من
طلوع الفجر إلى غسق الليل، في
أرض تفيض بالخيرات.
لكن المعظّمين
لشعائر الله لا زالوا يرجمون
قبر (أبي رغال) ويرجمون معه كل
الشياطين التي خلّفها النظام
الاستعماري في البلاد
الإسلاميّة قبل رحيله وهو قرير
العين.
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|