ــ
التضخيم
والتقزيم في صراعات المنطقة
صبحي
غندور*
تخضع الصراعات
الدائرة الآن في كلٍّ من العراق
ولبنان والأراضي الفلسطينية
المحتلّة إلى توصيفين يتجاوزان
الحقيقة: التوصيف الأول الذي
يراها فقط كصراعٍ بين قوى
إقليمية ودولية، وخاصّةً بين
أميركا وإيران. أمّا التوصيف
الثاني، فيصوّرها فقط صراعاً
على السلطة.
الأوّل يمارس
التضخيم، والثاني يعتمد
التقزيم. وفي الحالتين ابتعاد
عن الجوهر الأساس لهذه
الصراعات.
فأصل المشاكل في
هذه المواقع العربية الثلاثة
المتأزّمة الآن، هو غياب
التوافق الوطني على كيفيّة
التعامل مع مسألة الوصاية
الأجنبية أو حالة الاحتلال.
فالاحتلال الأميركي للعراق
أحدث فرزاً عراقياً بين مؤيّدين
ومعارضين له، لكن في ظلٍّ
تسميات طائفية وإثنية لكلٍّ من
الجانبين على الرغم من تناقض
الواقع مع هذه التسميات.
فالمعيار المذهبي لا يفرّق على
أسس إثنية أو عرقية، وبهذا يصحّ
القول أنَّ مسلمين سنّة وشيعة
هم في الجانبين. كذلك الأمر عند
اعتماد المعيار الإثني أو
العرقي، حيث نجد عراقيين من
أصول مختلفة مشاركين في الحكم
أو معارضين له، كما أنّهم
موزّعون أيضاً بين رافضين
لأسلوب العنف المسلّح، أو
مساهمين به في أشكال مختلفة.
ولا أفهم كيف يجوز
توزيع سنّة العراق بين أكراد
وعرب رغم أنّهم جميعاً مواطنون
عراقيون في بلد عربي، ولا يحصل
في المقابل فرزاً بين الشيعة
العرب (في العراق والمنطقة
العربية) وبين الشيعة
الإيرانيين الذين هم خارج نطاق
الدائرة العربية أصلاً.
فإذا كانت
التصنيفات تعتمد المواقف
السياسية كمعيار، فإنّ ذلك
يُسقط عنها السمة الطائفية أو
المذهبية أو العرقية، حيث نجد
حلفاء هذا الطرف أو ذاك ينتمون
لطوائف وجنسيات مختلفة
إقليمياً ودولياً.
ينطبق هذا الأمر
أيضاً على الحالة اللبنانية حيث
هناك تشويه للصراع الدائر بين
الحكومة والمعارضة. فلا الحكومة
والمؤيّدون لها هم من طائفة
واحدة فقط أو مذهب واحد، ولا
المعارضة أيضاً هي طائفية أو
مذهبية.
ولعلّ الصراع
الحاصل في الأراضي الفلسطينية
هو أبلغ دليل على خطأ ومخاطر
التسميات الطائفية والمذهبية
للأزمات المشتعلة في المنطقة.
إذ ليس هناك أي بعد طائفي أو
مذهبي في المواجهة القائمة بين
حركتيْ "فتح" و"حماس"،
ورغم ذلك فإنّ صراعهما هو جزء من
المنظومة المتحكّمة الآن في كلّ
صراعات المنطقة.
هي ليست طبعاً
صراعات بين "خير وشر" ولا
بين "أيديولوجية الكراهية
وعقائد الحب"، ولا هي أيضاً
بين "شرق وغرب".. تماماً كما
أنّها ليست بصراعات طائفية
ومذهبية وعرقية. فلا تكبير
طبيعة هذه الصراعات يصحّ معها،
ولا تصغيرها يحجب حقيقتها.
إنّها صراعات
الموقف من الاحتلال وكيفية
العلاقة مع نهج الوصاية
الأجنبية. وعلى من يشكّك في هذه
الخلاصة، أن يراجع مواقف
الإدارة الأميركية في أوعية
الأزمات المتصلة في المنطقة.
فإدارة بوش وضعت
في مطلع العام 2002 عنواناً
لحروبها العسكرية والسياسية في
العالم هو "دول محور الشر"
كردٍّ على الهجمات الإرهابية
التي تعرّضت لها أميركا في
سبتمبر 2001. لكن لم يكن للعراق
ولا لإيران ولا لكوريا الشمالية
(أطراف محور الشر الذي حدّده
بوش) أي علاقة في هجمات سبتمبر،
ولم تكن هناك علاقة أصلاً لأيٍّ
منها مع "جماعات القاعدة".
ورغم ذلك جرى
احتلال العراق بحجّة امتلاكه
لأسلحة الدمار الشامل ودعمه
للإرهاب. ثمّ بعد العراق جرى
تركيز إدارة بوش على إيران
أيضاً بحجّة دعم الإرهاب
(لاستقطاب دعم أميركي داخلي) لكن
مع حشد دعم دولي وإقليمي ضدّ
مشاريع إيران النووية.
أمّا سلوك إدارة
بوش مع كوريا الشمالية، فكان
تجاهلاً لها في معظم الأوقات
حتى حينما قامت بإجراء تجارب
على سلاح نووي، فإذا بواشنطن
تدعو للعودة إلى لجنة المفاوضات
السداسية!
أي أنَّ إدارة بوش
اعتمدت أسلوب الحرب والغزو مع
بلد لم تكن فيه أسلحة دمار شامل،
وهي تهدّد وتتوعّد إيران لأنّها
تسعى لامتلاك الطاقة النووية،
بينما تمارس واشنطن التهدئة
والحوار مع طرف يصرخ عالياً
أنّه يملك السلاح النووي ويجري
التجارب عليه!
هذا نموذج لسياسة
الخداع والتضليل التي مارستها
إدارة بوش على الأميركيين وعموم
العالم، ودلالة كبيرة على كذب
الشعارات التي ترفعها الإدارة
الأميركية بينما تحصد أميركا
والعالم كلّه النتائج السلبية
لممارساتها. لذلك عجز بوش عن
التأثير على الرأي العام
الأميركي في خطبه المتلاحقة
مؤخّراً وما زالت نسب الاستطلاع
حول سياسته تسير من سيء إلى
أسوأ.
لكن هذا الانحدار
في ثقة الأميركيين بإدارتهم لا
يرافقه مراجعة داخل المنطقة
العربية بين المراهنين على
الإدارة الأميركية ومشاريعها
لمستقبل الشرق الأوسط.
ففي العراق، ما
زالت المراهنات هي على الصراعات
والعنف المسلّح والحلول
الأمنية، وعلى دعم دولي أو
إقليمي لهذا الطرف أو ذاك،
عوضاً عن التوجّه نحو وفاق وطني
عراقي يطالب في الحدّ الأدنى
بقرار دولي شبيه بالقرار 1559
الذي صاغته واشنطن وباريس من
أجل سحب القوات السورية من
لبنان وحل الميليشيات فيه.
فلماذا لا يحصل تحرّك عراقي
وطني يطالب بقرار دولي مشابه
يدعو لسحب القوات الأجنبية وحل
كل الميليشيات بدعم دولي
وإقليمي؟!
على الجانب
اللبناني والفلسطيني، تكثر
أيضاً التساؤلات حول الموقف
الأميركي الذي يدعم حكومة
السنيورة في بيروت ويرفض مطالب
المعارضة الداعية إلى انتخابات
مبكّرة، بينما تواصل واشنطن
حصارها على الحكومة الفلسطينية
وتحرّض المعارضة الفلسطينية
ضدّها وتشجّع على انتخابات
مبكرة في الأراضي الفلسطينية؟!
هي ازدواجية في
المواقف الأميركية بدأت تنعكس
على المواقف العربية، ولا نجد
معياراً واحداً يمكن العودة
إليه في فهم هذه المواقف. إذ لو
كانت الديمقراطية والعملية
الانتخابية هي المرجعية، لصحَّ
هذا المعيار على كلّ الحكومات
الفلسطينية واللبنانية
والعراقية. ولو كانت المعايير
طائفية ومذهبية لما كان تناقض
المواقف يحصل تجاه هذه
الحكومات.
إذن، هو من جديد
معيار المواقف من الاحتلال
والوصاية الأجنبية ومصير إدارة
بوش ومشاريعها في المنطقة.
المؤسف أنّ
المنطقة العربية أصبحت أيضاً
سوقاً استهلاكية لمشاريع دولية
وإقليمية، وحكوماتها المعنية
بالأزمات "تأكل ممّا لا تزرع
أمنياً، وتلبس ممّا لا تصنع
سياسياً".
حتى الإدارة
الأميركية، فهي تستهلك الآن ما
هو مصنوع خارج الإرادة الشعبية
الأميركية التي عبّرت عن نفسها
في انتخابات نوفمبر الماضي وفي
توصيات مجموعة بيكر/هاملتون.
ولقد عانى العالم
وما يزال من سياسة
"الانفرادية الأميركية" في
تقرير مصير العالم وأزماته.
وهاهي شعوب أميركا والعالم معاً
تعاني الآن من "الانفرادية
البوشية" في تقرير مصير
أميركا والأزمات الدولية التي
بعضها هو صناعة "بوشية"
فقط.
شيئاً فشيئاً،
تتقلّص أميركياً مساحة حرية
إدارة بوش في تنفيذ أجندتها،
لكن للأسف فإن سلبيات نتائج
أعمالها في المنطقة العربية ما
زالت تتمدّد يوماً بعد يوم.
المشكلة عربياً
ليست فقط في كيفيّة فهم
الصراعات وأحجامها، بل أيضاً في
المقدار المتاح لحرّية
الإرادات المحلية!
*
مدير "مركز الحوار العربي"
في واشنطن
alhewar@alhewar.com
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|