ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الأربعاء 11/07/2007


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


 

عملية تفجير المساجد

ميرون رافوبورات

ملحق هآرتس 6ـ 7 ـ2007

لم تقفز محاولات محو القرى العربية التي بقيت فارغة بعد حرب الاستقلال عن الأماكن المقدسة والأطلال الأركيولوجية. ويتبين الآن أنه كانت في قيادة الجيش سياسة مقصودة لتفجير المساجد، حيث أن ثلاثة منها دمّرت بأوامر من موشيه ديان، الذي كان حينها قائداً للجبهة الجنوبية. أما رئيس الأركان حينها يجئال يادين، وهو عالم آثار ابن عالم آثار، فلم يتأثر من الشكاوى التي قدمتها دائرة الآثار في الجيش.

رسائل من خلف الحدود

حتى تموز 1950 كانت مدينة المجدل، التي تسمى عسقلان حالياً، مدينة مختلطة. إذ بقي يعيش فيها ثلاثة آلاف فلسطيني في غيتو مغلق ومحاط بأسلاك شائكة، إلى جانب السكان اليهود الذين وصلوا للتوّ. وكانت المجدل قبل الحرب مركزاً تجارياً وإدارياً يقيم فيها 21 ألفاً من السكان، وكانت لها كذلك أهمية دينية كبيرة: ففي أزقتها، بين خرائب المجدل القديمة، كان مشهد الحسين، وهو بناء عتيق أقيم في نهاية القرن الحادي عشر وقد دفن فيه، حسب التقاليد، رأس الحسين بن علي، حفيد النبي محمد، الذي شكل مقتله في معركة كربلاء في العراق إشارة الانشقاق بين الشيعة والسنة في العالم الإسلامي. وقد دأب حجاج مسلمون، ليسوا فقط من الشيعة، على زيارة الضريح. غير أنه منذ تموز 1950 لم يبق لهم هناك ما يزورونه. فقد فجّر الجيش الإسرائيلي ضريح الحسين.

ولم يكن هذا الموقع الإسلامي المقدس الوحيد الذي تمّ تدميره بعد حرب الاستقلال. وحسب أبحاث البروفيسور إيل بنفنستي، فإنه من بين مئة وستين مسجداً كانت قائمة في القرى الفلسطينية التي شملها اتفاق الهدنة وبقيت تحت سيطرة إسرائيل، لم يبق اليوم سوى أقل من أربعين. غير أن الأمر الاستثنائي في حالة مشهد الحسين هو أن هناك توثيق لهذا التدمير، وهناك تحمل للمسؤولية المباشرة من جانب شخص ليس سوى قائد الجبهة الجنوبية حينها، ضابط اسمه موشيه ديان. ويشير التوثيق إلى أن تفجير المكان المقدس في المجدل هو عمل مقصود، وجزء من عملية أوسع، شملت ما لا يقل عن مسجدين آخرين، واحد في يبنا والآخر في اسدود.

ويمكن تسجيل التوثيق في خانة رجل مؤسساتي هو شموئيل يافين، الذي كان حينها رئيس دائرة الآثار، وهي الصيغة الأولى لسلطة الآثار. ويافين ليس ناشطاً سياسياً، وفق ما يقول عالم الآثار راز كوتلر،الذي أجرى أبحاثاً عن العقدين الأولين من علم الآثار في دولة إسرائيل. كما أن يافين لم يكن مناضلاً من أجل حقوق العرب. ويقول راز إن يافين كان باختصار رجل علم، وهو متخرج من المدرسة البريطانية، رجل دائرة الآثار في حكومة الانتداب الذي كان يؤمن بوجوب المحافظة على كل بناء عتيق وكل مكان مقدس، لا فرق إن كان يهودياً أو مسيحياً أو إسلامياً. لذلك قام بإرسال كتب احتجاج، وهو ما اعتبرته قيادة الجيش إزعاجاً.

وكتب يافين في 24 تموز 1950 إلى المقدم يعقوب بات رئيس دائرة المهام الخاصة في وزارة الدفاع، وأرسل نسخة لرئيس الأركان حينذاك يجئال يادين ولعدد من كبار القادة: «لقد وصلتني أنباء بأنه قبل وقت قصير قام الجيش بتفجير المبنى الكبير في خرائب المجدل والمعروف باسم مقام الحسين، وهو بناء مقدس للمسلمين. وقد كان المبنى قائماً على الأرض عندما زرته آخر مرة في العاشر من حزيران، مما يعني أن سلطات الجيش لم تعثر على سبب لتدميره منذ أيام الاحتلال وحتى منتصف عام .1950 ويتعذر عليّ أن أفهم أن تفجير المقام له صلة بقضية المتسللين، لأن المتسللين لم يكفوا عن دخول المنطقة طوال تلك الفترة».

وكان احتجاج يافين من الناحية الظاهرية احتجاجاً إدارياً، فقط ظاهرياً. فقد كتب أيضاً أنه ينبغي للجيش أن يفهم أن هناك «أماكن مقدسة»، وأنه إذا كان مضطراً لفعل شيء فيها، «من الحق والنزاهة والأدب أن يبحث الأمر أولاً مع الجهات المشرفة على تلك المناطق والأراضي والتشاور معها للبحث عن سبل لتجنب أعمال التدمير». ويقرر يافين أن هذا لم يحدث. ويضيف: «لقد بلغني أنه في ذلك الوقت تحديداً تم تدمير مسجد في قرية اسدود المهجورة. فهذا ليس الفعل الأول. وقد سبق لي أن لفت انتباهك مراراً لمثل هذه الأفعال في أماكن أخرى، بل لقد صدرت أوامر صريحة من جانب رئيس الأركان للحفاظ على مبانٍ وأماكن كهذه، ولكن يبدو أن كل هذا لا ينفع مع قادة من نوع معين... وأعتقد أنه ينبغي تقديم القائد المسؤول عن التفجير إلى المحاكمة ومعاقبته، لأنه في هذه الحالة ليس ثمة تبرير لأي فعل متسرع يمكن اتخاذه في ظروف حرب».

ويتبين من مراجعة أرشيف الجيش الإسرائيلي أن المقدم بات، سلم شكوى يافين لرئيس الأركان يادين. ولكن يبدو أن يادين، الذي غدا لاحقاً كبير علماء الآثار في إسرائيل، وهو ابن عالم الآثار الشهير البروفيسور أليعزر سوكينك وزميل يافين في دائرة الآثار الانتدابية، لم يتأثر. ففي أسفل رسالة بات حول شكوى يافين عن تفجير المسجد كتب يادين بخط يده: «1ـ صادق على استلام الرسالة وأبلغ أن الأمر قيد المعالجة... 2ـ أضف ذلك إلى مادة (موشيه) ديان في لقائي مع بن غوريون».

ومن المنطقي جداً الافتراض بأن الكتابة هي بخط يد يادين نفسه، إذ من العسير تصديق أن شخصاً آخر كان بوسعه لقاء بن غوريون مع «مادة ديان». وكما يظهر من توثيق آخر بخط يده على الرسالة فإن يادين لم يول الشكوى أهمية كبيرة. فقد أضاف بخط يده عبارة «تبن على التراب»، أي ليس في شكوى يافين أي جديد، وأن المسألة معروفة.

كما أن ديان نفسه لم يتأثر. ففي رسالته الجوابية التي أرسلها لديوان رئيس الأركان، في العاشر من آب كما يبدو (لأن التاريخ غير واضح)، وتحت عنوان «هدم مكان مقدس»، كتب ديان: «1ـ إنني أسعى للردّ على هذه الرسالة شفوياً لرئيس الأركان. 2ـ التفجير تمّ على أيدي قوات الساحل وبناء على أوامري». والكلمات في النقطة الثانية مشطوبة بخط، ولكن رسالة بتاريخ 30 آب تبدّد كل شك. فقد ردّ ديان هناك على رسالة تتعلق بـ«المساس بالآثار في منطقة عسقلان»: «لقد توجه لي رئيس الأركان بهذا الشأن وأبلغته أن العملية تمت بأوامر مني».

وكان هذا الجواب مربكاً لدرجة أن يعقوب برولوف، رئيس وحدة العمليات في هيئة الأركان، توجّه خطياً لديوان رئيس الأركان مطالباً بتوضيحات حول ما يجب فعله للرد على يافين. وتلقى أمراً من شخص غير محدّد، ولكن بخط يد يمكن أن يكون خط يادين «وقع خطأ هنا ويفترض أن لا يتكرر». ويبدو أن التغطية ليست اختراعاً جديداً.

المشهد الجديد

وبشككل غير مفاجئ تكرر الأمر من جديد. في نهاية تشرين الأول أرسل يافين رسالة أخرى، وهذه المرة مباشرة ليادين. وفي هذه الرسالة اشتكى «تفجير المسجد العتيق في يبنا»، وهو مسجد يعود بناؤه إلى ألف عام ولا تزال مئذنته واقفة حتى اليوم على تلة جنوبي يبنا قرب محطة القطار. وذكر يافين ليادين أنه سبق وتلقى وعوداً بأنه ستتم هذه المرة معاقبة المخالفين، ولكن تبين له هذه المرة أن هناك فجوة هائلة بين الأوامر الصريحة التي تحظر المساس بالمساجد وبين السياسة المطبقة على الأرض.

وكتب يافين ليادين «لقد تلقيت للتو رداً رسمياً من رئيس ديوانك (ميخائيل أفيتسور) وبعد أن قرأته صرت في حيرة تامة من أمري. فمن جهة أضع أمامي أوامرك الصريحة التي تتحدّث جهاراً عن الحفاظ على الأماكن ذات القيمة الأركيولوجية أو التاريخية... ومن جهة أخرى أقرأ في رسالة المقدم ميخائيل أفيتسور، أن المسجد في يبنا تم تفجيره في التاسع من تموز ,1950 قبل الموعد الذي أعلنوا فيه عن وقف تفجير المساجد. فكيف يستوي الأمران؟».

والاقتباس الذي يعرضه يافين في رسالته يوضح أن تفجير المساجد كان ظاهرة واسعة بما يكفي لإصدار أمر خاص بضرورة الكف عن ذلك. وفي سياق رسالته كتب يافين أيضاً أن «حواراتي حول هذه المسائل (تفجير المساجد) مع أشخاص عديدين لهم ضلع في معالجة قضايا السياسة المتبعة بهذا الشأن جعلتي أشد قلقاً». ولم يشر يافين إلى الأشخاص الذين تحاور معهم، ولكنه يلاحظ أنه «ليست هناك إمكانية للكتابة صراحة عن كل ما أراه».

ويقول دافيد إيل (سابقاً حمل اسم تروتنر)، والذي كان القائد العسكري للمجدل في تلك الأيام أنه «لا يريد العودة» إلى تلك الفترة. أما المؤرخ مردخاي بار أون الذي كان رئيس ديوان ديان كرئيس للأركان وبقي مقرباً منه لسنوات طويلة، فيقول إنه لم يخدم شخصياً في تلك الفترة في القيادة الجنوبية، ولذلك فإنه لا يعرف عن تفجير المساجد في المجدل، يبنا وأسدود، وأنه في كل الأحوال لم يسمع أبداً بأمر كهذا.

ولكن بار أون يشير إلى «أنني بصفة قائد سرية في قيادة المنطقة الوسطى طردنا العرب من قرية زكريا، ولم نهدم المسجد حيث لا يزال قائماً حتى اليوم. ومع ذلك أعلم أنه في الجنوب في قريتي برير وهوج تمّ مسح القرى واختفى المسجد فيها، ولكنني لا أعلم بوجود أمر بتدمير المساجد فقط. ولا يبدو لي الأمر معقولاً».

ولا تظهر قضية تدمير المساجد في الكتاب الذي أعده كالتر باسم: «هل هو الماضي فقط؟ تكون علم الآثار الإسرائيلي»، الذي صدر قبل عام في بريطانيا. وكالتر عالم آثار عمل في سلطة الآثار في العشرين سنة الأخيرة، وهو لا يعتبر نفسه من «المؤرخين الجدد» كما ليس له حساب يصفيه مع الصهيونية أو مع الدولة، ومع ذلك فإن قصة علم الآثار الإسرائيلي تظهر في كتابه بشكل لا بأس فيه على أنها قصة تدمير: تدمير من الأساس لمدن وقرى، تدمير لثقافة كاملة، تدمير حاضرها وماضيها، من رسوم حياتية عمرها ثلاثة آلاف عام وحتى الكنس التي كانت قائمة في أحياء عربية تم تدميرها، ومن مدرج روماني نادر (تضرر وتم إنقاذه من التدمير في اللحظة الأخيرة) إلى القلاع والحصون التي تم تفجيرها واحداً تلو الآخر. ولولا عدد من المجانين بالأمر، مثل يافين وآخرين، الذين كانوا يتوسلون من أجل المحافظة على هذه النصب التاريخية، لتم محوها جميعاً عن وجه الأرض.

ويظهر من الشهادات المقتبسة في الكتاب أن هذا التدمير تم بقسم بسيط جداً منه في حمى المعارك، غير أن القسم الأكبر تم في وقت لاحق، لأن بقايا الماضي العربي كانت تزعج المشهد الجديد وتذكرهم بالواقع الذي كان الجميع يحاول نسيانه. وقد كتب أ. دوتان من دائرة الإعلام في وزارة الخارجية في آب 1957 في رسالة مقتبسة في كتاب كالتر أن «خرائب القرى القريبة والأحياء العربية أو كتل المباني الواقفة مهجورة منذ عام 1948 تثير مشاعر صعبة وتسبب ضرراً سياسياً كبيراً. وفي السنوات التسع الأخيرة تم إخلاء الكثير من هذه الخرائب... غير أن ما تبقى منها برز بشكل أوضح مغايراً للمشهد الجديد. ولذلك يجدر بنا إخلاء هذه الخرائب التي لا صلاح لها والتي تفتقر إلى أية قيمة أركيولوجية».

ويكشف كالتر في كتابه عن أن يافين ورجال وحدة الآثار معه حاولوا مرة تلو مرة إيقاف عمليات التدمير هذه. ليس دائماً، وليس بشكل متساوق، وليس لأسباب أخلاقية أو من منطلق الاحترام للبشر (للعرب) الذين عاشوا طوال مئات السنين في هذه القرى أو الأحياء. كانت اعتباراتهم علمية، وكالتر مقتنع بأن هذه المقاربة كانت نابعة من خلفياتهم المهنية. فقد عملوا قبل عام 1948 في دائرة الآثار الانتدابية، تحت إدارة بريطانية وإلى جانب موظفين عرب. ويروي كالتر أنهم ناضلوا في الدائرة من أجل «تهويد» أسماء مواقع أثرية، ولكنهم ظلوا مخلصين لها لدرجة أنه بعد قرار التقسيم عام 1947 اقترح يافين بقاء وحدة الآثار موحّدة حتى بعد تقسيم البلاد إلى دولتين يهودية وعربية. بل أن سوكينيك، والد يادين ذهب أبعد من ذلك. وقال في مداولات جرت في كانون الأول 1947 «لا أؤمن أن الدولة العربية ستحافظ على المواقع الأثرية. وعلينا أن نضع السيادة العلمية فوق السيادة السياسية. إننا معنيون بعلم الآثار في كل أرجاء البلاد، والسبيل الوحيد إلى ذلك هو دائرة موحّدة».

شهادة زور في مجيدو

ويقول كالتر إن «يافين لم يكن عالم الآثار الأكبر في العالم، ولكنه كان صاحب استقامة شخصية، والتي حسب المعايير البريطانية، هي الميزة الأهم. غير أن هذا التراث لم يتوافق مع قومجية الخمسينيات، لأن بن غوريون أراد محو كل ما كان قائماً، محو الماضي الإسلامي».

وفي نظر بن غوريون، فإن كل ما كان موجوداً قبل تجديد اليشوف اليهودي هو أرض قاحلة. وقد قال بن غوريون في مؤتمر لأبحاث أرض إسرائيل عام 1950 أن «محتلين أجانب جعلوا من بلادنا صحراء». ومن هنا يمكن فهم الفشل الذي مني به يافين ورجال أمثاله في المحافظة على شيء من هذا الماضي. وتحديداً في الخمسينيات، عندما كان علم الآثار موضة، وعلماء آثار مثل يادين أبطال ثقافة، جرى إبعاد رجال العلم عن المواقع الإدارية. واضطر يافين لتقديم استقالته وتسلم «رجال تنفيذيون» مثل تيدي كوليك عملياً إدارة المواقع الأثرية الهامة في إسرائيل.

لقد تم تشكيل دائرة الآثار رسمياً في تموز ,1948 كجزء من دائرة الأعمال العامة في وزارة العمل. وقبل تشكيل الدائرة عمل قدامى شعبة الآثار الانتدابية في محاولة للمحافظة على الآثار، وفي الأساس لمنع السطو عليها، من دون نجاح. فقد تمت سرقة متحف قيساريا بأسره، وكان هذا مصير كل الاكتشافات والوثائق في تل مجيدو، والتي كانت قد جمعت في مكاتب بعثة التنقيب من جامعة شيكاغو، والتي بدأت التنقيب في المكان منذ العشرينيات. واختفت كلياً مجموعات نادرة، مثل مجموعة دير نوتردام في القدس، وسرقت أيضاً مجموعة مقتنيات خاصة ومحلات الآثار في يافا وفي القدس.

وقدم عمانويل بن دور، الذي عين نائباً ليافين في شعبة الآثار، تقريراً بعد زيارته لقيساريا قال فيه «اختفت من البيت الحكومي كل القطع (أكثر من مئة من بقايا مخطوطات وأجزاء أعمدة). كما دمّرت المجموعة التي كانت في مكتب البطريرك الأرثوذكسي». غير أن الضرر الذي لحق بموقع مجيدو كان محرجاً على وجه الخصوص، بسبب أن الحفريات في المكان تمت على أيدي علماء آثار أميركيين مما دفع القنصلية الأميركية للسؤال عن المسؤول عما جرى. وفتح يافين تحقيقاً في الأمر. وزعم القادة العسكريون المحليون أن الوحدات العسكرية العربية هي التي دمرت الموقع. واكتشف يافين أن هذا ليس صحيحاً، وأن جنوداً إسرائيليين هم من سرقوا الموقع وأشعلوا النار بعد ذلك في مكاتب بعثة التنقيب.

وفي التقرير السري الذي أعده يافين اقتبس عن رسالة داخلية للوحدة العسكرية التي عملت في المنطقة ما يلي: «بالتشاور مع قائد الكتيبة ومع ضابط العمليات في اللواء اتفقنا على أنه في حالة التحقيق من جانب القنصل الأميركي... سوف نقدم (لمزيد العار) شهادة زور، بأن هذا الموقع كان على هذا الحال عند احتلاله وأن الجريمة نفذت على أيدي العرب قبل هروبهم».

غير أن سرقة الآثار لم تكن سوى جزء ضئيل من المشكلة. فالتدمير كان المشكلة الأساس. وفي آب 1948 شرع الجيش بتدمير طبرية العتيقة، على ما يبدو بقرار محلي. وباءت بالفشل كل محاولات إنقاذ شيء من السمات الخاصة بهذه المدينة. وفي أيلول زار المكان يعقوب فينكرفيلد، رجل «حرس النصب التاريخية» في دائرة الآثار.

وكتب فينكرفيلد في تقريره أن «الجيش في طبرية شرع بتدمير شريط محترم من البيوت في البلدة القديمة. وجرى التشديد في الحوارات التي جرت مع كل الرجال المسؤولين في المكان على الأهمية الخاصة للحجر القديم الذي منه لوحة الأسود، القائمة في داخل أحد الأسوار. وقد وعدونا بالحفاظ على هذا الأثر الذي يعود تاريخه إلى ثلاثة آلاف سنة، غير أنني في زيارتي الأخيرة وجدت هذه اللوحة تحديداً مفجرة إلى شظايا». إن التدمير في طبرية كان هائلاً لدرجة فاجأت حتى بن غوريون عندما شاهد ذلك في زيارته للمدينة عام .1949

وفي حمى التدمير تضررت أحياناً أماكن مقدسة لليهود. وفي زيارة لحيفا في آب 1949 اكتشف يافين أن الجيش يهدم أجزاء واسعة من المدينة العربية في منطقة ميدان الحمراء، تحت إشراف مهندس البلدية. وبكلماته المهذبة أعرب يافين عن دهشته من عملية الهدم هذه: «لقد رأينا بأم أعيننا تدمير نصف مبنى كان يستخدم كنيساً في شارع اليهود... وحسب يهود من سكان المكان ممن جالوا بين الخرائب تم هناك تدمير كنيسين أو ثلاثة كنس... ويبدو أنه مع بعض الانتباه كان بالوسع تجنب هدم هذه الأماكن المقدسة».

انطباع مخيب

لقد شرعوا بهدم القرى فور انتهاء المعارك. وفي جولته في الشمال رأى يافين الجيش وهو يفجر القرى قرب طبرية وجبل طبور، وطلب أن تتم مشاورة رجال الآثار قبل تفجير القرى، لأنه «في الكثير من القرى هناك في البيوت الكثير من أحجار البناء الأثرية». وفي زرعين (حيث اليوم كيبوتس يزرعيل) تم تفجير برج صليبي كما تمّ تفجير قلعة في أم خالد قرب نتانيا.

ومع ذلك كانت هناك نجاحات: أعطيت الأوامر في شفاعمرو بتفجير القلعة، ولكن رجلاً من وحدة الآثار وصل فعلاً إلى المكان في اللحظة الأخيرة ومنع التفجير. وفي المزيرع (وهي قرية جنوب راس العين) وقعت معجزة حقاً. فالجيش استخدم في البناء أعمدة جميلة كانت منصوبة في منتصف القرية كهدف للتصويب الناري، كما يبدو من دون أن يعرف أحد أن هذا هو «المعبد الوحيد الباقي في الدولة من العهد الروماني»، حسب قول يافين. وعندما تقرر تدمير المعبد في تموز ,1949 وصل إلى المكان مراقب آثار وتم منع التفجير. ويعرف هذا المكان اليوم باسم «خربة مانور» وهي تعرض للزيارة في كل التوصيات للسياح في المنطقة.

ويروي كالتر أنه في شباط ,1950 وبمبادرة من يافين ورجال آخرين، فهموا على ما يبدو أنه إذا لم يحدث تدخل حكومي، فإن الماضي المديني لأرض إسرائيل سوف يختفي تماماً، ووافق بن غوريون على تشكيل لجنة حكومية لـ«المواقع والنصب المقدسة والتاريخية». وشارك في اللجنة ممثلون كبار من الجيش والوزارات الحكومية، وفي تشرين الأول عام 1951 قدمت اللجنة تقريرها. وفي الاستنتاجات جاء أنه ينبغي المحافظة على كل من «عكا وعدد من الأحياء في صفد، وأقسام قليلة من يافا وطبرية، وأقسام قليلة من الرملة واللد، وأقسام عدة في ترشيحا كوحدات كاملة». وكانت المعركة من أجل المحافظة على باقي المدن ومئات القرى خاسرة.

ولكن المؤسسات لم تفِ حتى بهذا الاتفاق. ويروي كالتر أن يافين كان أحد الأوائل الذين ناضلوا ضد قرار هدم يافا بأسرها، وهو قرار اتخذ في آب .1950 وبعد ذلك انضم إلى النضال فنانون عمدوا إلى السكن في المدينة المهجورة، وكذلك رجال سلطة التطوير مما أدى إلى إنقاذ أحياء عدة من التدمير الكلي. وفي اللد كان النجاح أقل. وفي حزيران 1954 كتب يافين رسالة احتجاج إلى وزير التعليم في أعقاب قرار بهدم «الحي القديم في مدينة اللد». والقانون الإسرائيلي، كما القانون البريطاني، قرر أن ما بني بعد عام 1700 يعتبر أثرياً، غير أن يافين كتب مطالباً بالحفاظ على هذه المواقع أيضاً من أجل السياحة، وكذلك لأنها «كنوز حضارية وتعليمية وشهادات تاريخية حية ينبغي على كل دولة متنورة أن تحافظ عليها».

ويمكن بوضوح أخذ الانطباع من كتاب كالتر أن التدمير لم يكن عرضياً، وأن من نفذه كان يعي مغزاه. فالبرنامج الفكري لهذا التدمير كان مفصلاً في رسالة وزارة الخارجية في آب 1957 بناء على طلب غولدا مئير. فبعد أن طلب المسؤول في الوزارة، أ. دوتان نفسه، من مدير عام وزارة العمل «إخلاء الخرائب» قام بتصنيفها إلى «أربعة أنواع» من «الخرائب» وبالتبريرات التالية: «أولاً يجب التخلص من الخرائب وسط المستوطنات اليهودية، في المراكز الهامة أو على طرق المواصلات المركزية؛ المعالجة السريعة لخرائب القرى التي بقي سكانها في البلاد مثل البروة شمالي شفاعمرو وخرائب صفورية؛ المناطق التي تجري فيها عمليات تطوير كما هو الحال على طول خط سكة الحديد من القدس إلى بارغيورا، فلدينا انطباع مخيب بأن أرض الثقافة تتنفس؛ كذلك يجب الانتباه إلى الخرائب في مناطق السياحة الواضحة مثل خرائب القرية الشركسية في قيساريا القائمة حتى الآن والمهجورة.... وبناء عليه مطلوب أن تتولى وزارة العمل أمر إخلاء الدمار... ويجدر الأخذ بالحسبان أن التعاون مع جهات غير حكومية يتطلب إبداء الحذر، لأنه من الناحية السياسية يفضل إتمام ذلك من دون أن يقف أحد على أهميته السياسية».

ويقول كالتر إنه فوجئ لاكتشاف حجم التدمير، ولكن بقدر معين يفهم رغبة القائمين على التدمير. فالقرار بعدم تمكين اللاجئين الفلسطينيين من العودة كان محتوماً، حسب رأيه، إذا كانت النية هي إقامة دولة يهودية هنا. وهو يقول إن هذه كانت قواعد اللعبة في تلك السنوات، ولو أن اليشوف اليهودي خسر في ,1948 لكان من المنطقي الافتراض أن المنتصرين العرب سيتصرفون تجاه اليهود بالطريقة ذاتها. وبسبب عدم القدرة على المحافظة على مئات المدن والقرى الفلسطينية المهجورة، لم يكن هناك خيار سوى تدمير معظمها. وهو لا يحمل أيضاً على علماء الآثار الإسرائيليين الذين اهتموا في بداية عهد الدولة بالآثار اليهودية فقط، وفي أفضل الحالات بآثار مسيحية أو رومانية، ولكنهم تجاهلوا تماماً الآثار الإسلامية. ويقول كالتر إن من الطبيعي أن الباحثين يهتمون أولاً وقبل كل شيء بالآثار المتعلقة بهم. وعدا ذلك فإنه بالتناسب مع الضغط السياسي الذي مورس عليهم من جانب أشخاص مثل بن غوريون، الذي تطلع علناً لمحو الماضي العربي لهذه البلاد، فإنهم تصرفوا باحترام. وكتب كالتر أن «هناك في بداية علم الآثار الإسرائيلي ما يثير الخجل والكثير مما يمكن التفاخر به».

ومع ذلك، يقول كالتر، إن كتابه هو «كتاب عن الخسارة، عما كان يمكن أن يكون هنا ولم يعد موجوداً. إنه خسارة لعلم آثار بدأ مع تقاليد علمية ولم يستمر بها، خسارة معلومات تاريخية هائلة، خسارة مشهد القرى. وأنا لا أعتقد أن مشهد القرى ذاك يعود لنا، بل هو يعود لأناس أقاموا هنا، ومع ذلك ثمة توق إلى المشهد الضائع هذا. ليس بوسعنا استعادته، ولكن على الأقل يجدر بنا أن نقر بالحقيقة وأن لا نكذب على أنفسنا».

ويقول كالتر إنه من حظ هذه البلاد أن فيها الكثير جداً من المواقع الأثرية، بحيث لم يكن بالوسع تخريبها جميعاً. ولكن تلك المواقع التي دمّرت، تواصل الحياة بأشكال أخرى. فمقام الحسين، ذلك المبنى المقدس في المجدل، دمر تماماً عام ,1950 ولكن المؤمنين المسلمين لم يتنازلوا عنه، وقبل بضع سنوات أقام الإسماعيليون القادمون من الهند منصة رخامية في المكان الذي كان فيه المقام العتيق، ومنذ ذلك الحين يفد آلاف المؤمنين سنوياً إلى هذا الموقع القائم في أطراف مستشفى برزيلاي حالياً. أما في يبنا فقد بقيت مئذنة المسجد القديم الذي دمّر، وإلى جانبه أطلال وشجرة تين واحدة. وفي زيارة للمكان قبل أسبوع ظهرت على التلة مجموعة من العجائز الأثيوبيين يصلون بورع تحت شجرة التين تلك. كما لو أن المكان ظل مقدساً، حتى رغم تغيير السكان.

السفير 9/7/2007

http://www.assafir.com/WeeklyArticle.aspx?WeeklyArticleId=24085&ChannelId=3218

-----------------

نشرنا لهذه المقالات لا يعني أنها تعبر عن وجهة نظر المركز كلياً أو جزئياً


السابقأعلى الصفحة

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ