نفحاتُ
الرُّوح 1
الكُنُوزُ
الإيمانيةُ والشرعيةُ
والأخلاقيةُ لسورة الحُجُرات
بقلم
: الدكتور محمد بسام يوسف
الكنـز الأول : أضواء
تحليلية
أولاً : سُمِّيَتْ سورة (الحجرات)
بسورة (الأخلاق).. وهي :
-
سورةٌ مدنية.
-
نزلت في السنة التاسعة للهجرة.
-
تتكوّن من ثماني عشرة آية (18 آية).
ثانياً : تحتوي سورة (الحجرات)
على حقائق كبيرةٍ في التشريع
والتوجيه، وترفع بناءً ضخماً
للأخلاق الإسلامية والعلاقات
بين المسلمين، وتؤسِّسُ قواعد
راسخةً للإيمان وحقيقته.. ما يجعل أهميتها
عظيمةً يفوق حجمها الصغير (18 آية
فقط).. ويجعل منها منهجاً
متكاملاً ودستوراً ناضجاً لكل
مسلم.
أول ما يبرز لنا عند دراسة
هذه السورة العظيمة.. أربعة أمور
:
1-
أنها ترسم لنا عالماً قائماً
بذاته، يقوم على قواعد وأصولٍ
ثابتةٍ راسخةٍ من التربية
والتهذيب والسلوك الإنسانيّ
النظيف.. الذي يجب أن يسود بين
البشر، ضمن مجتمعٍ مسلمٍ خالص.
2-
أنها تمثّل أنموذجاً ومثالاً
حياً، للجهد القرآنيّ الضخم،
وللتربية النبوية العظيمة في
إنشاء الأمة المسلمة وتربيتها..
وهي الأمة التي أصبحت حقيقةً
واقعةً حيةً على الأرض، وأعطت
المثل لكل مسلمٍ، أنّ بناء هذا
المجتمع المسلم ممكن وحقيقي،
وليس ضَرباً من الخيال.. وأنّ
القرآن الكريم يرسم لنا الخطوط
العامة والقواعد والأصول، التي
يمكن عند اتباعها
وتَمَثُّلِها، أن ينتج مجتمعاً
مسلماً حقيقياً، يشبه ذلك
المجتمع المثالي الذي بناه
وشيّد بنيانه رسولُ الله صلى
الله عليه وسلم.
3-
أنها تؤكّد على حقيقةٍ كبيرةٍ
تُهِمُّنا جميعاً -نحن المسلمين-
وأبناء الأمة الإسلامية، هي:
إنّ الأمة الإسلامية المثالية
التي يمكن أن تُبنى حقيقةً
واقعةً على الأرض.. كما بُنِيَت
في فترةٍ سابقةٍ من التاريخ
الإنسانيّ.. هذه الأمة المسلمة
لم تنشأ فجأةً، وإنما نمت نمواً
طبيعياً بحكمةٍ ودأبٍ وصبرٍ
وجُهدٍ وجهادٍ متواصلٍ.. في
التربية والإعداد والرعاية
والعناية.. واحتاجت إلى
المعاناة والتجارب الطويلة
والابتلاءات الشاقة، وإلى
رعاية الله عز وجل أولاً
وأخيراً وفي كل وقتٍ أو مرحلةٍ
من مراحل بنائها.. ما أعطى جيلاً
فريداً، ودولةً قويةً، وحضارةً
متقدّمةً، وأمةً كانت خير أمةٍ
أُخرِجَت للناس.
4-
أنها تربط ربطاً وثيقاً بين :
الإيمان والأخلاق، فالمسلم
عندما يؤمن بالله عز وجل تمام
الإيمان، فلا بد أن يسعى بشكلٍ
حثيثٍ لإرضائه سبحانه وتعالى،
ما يؤدي به إلى التحلّي
بالأخلاق الإسلامية الفاضلة
الحميدة.. وارتفاع شدة تمثل
الأخلاق الفاضلة، سيؤدي
بالضرورة إلى ازدياد قوّة
الإيمان في النفس الإنسانية
المسلمة.. لذلك ومن هنا نستنتج
الحقيقة الكبيرة التالية:
إنّ
أعداء الإسلام يركّزون هجمتهم
الشرسة على الأخلاق الإسلامية،
لِيُخرِجوا المسلمَ بشتى
الوسائل عن هذه الأخلاق الفاضلة..
لكنهم في الحقيقة يهدفون من
وراء ذلك إلى النيل من إيمان
الإنسان المسلم.. الذي عندما
تتخلخل أخلاقه.. فإنه يتخلخل
إيمانه.. فيخرج عن الإسلام
وتعاليمه.. وهذا هو في حقيقة
الأمر هدف الأعداء بالضبط،
للنيل من المسلمين.
الكنـز الثاني : (لا
تُقَدِّموا بين يَدَي اللهِ
ورَسولِهِ)
(يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ
اللَّهِ وَرَسُولِهِ
وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ
اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (الحجرات
: 1).
هذه الآية
الكريمة تمثل الأصل الأول الذي
تقوم عليه حياة المسلم.. هو أن
التلقي في أمور الحياة العامة
والخاصة لا يكون إلا من الله عز
وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم..
فالحكم في كل شؤون حياتنا لله عز
وجل وحده، وطاعة رسوله صلى الله
عليه وسلم.. هي طاعة له وحده لا
شريك له: (مَنْ يُطِعِ
الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ
اللَّهَ..) (النساء: من الآية80).
تبتدئ
السورة بالنداء للمؤمنين،
تمهيداً لما سيُلقى عليهم من
تكليف، فيقول الله عز وجل لهم:
يا مَن آمنتم بالله رباً،
وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ
رسولاً ونبياً، وبكتابه
دستوراً.. يا هؤلاء.. لا تقطعوا
أمراً، ولا تقوموا بأي فعلٍ أو
عملٍ، ولا تُبدوا رأياً أو
قولاً في قضيةٍ.. حتى يحكم الله
ورسوله بها.. أو يأذن بذلك..
واحذروا مخالفة أمره ونهيه عز
وجل.. فالله يعلم وأنتم لا
تعلمون، وهو يسمع أقوالكم،
ويعرف أفعالكم ويعلم بها..
فالتزموا منهجه وشرعه.. فإن
خرقتم هذه القاعدة الإيمانية،
فإنكم بذلك ترفعون من منزلتكم
إلى سويّة منزلة رب العالمين
الحاكم المشرّع الآمر الناهي..
أو ترفعون من منزلة مَن
تطيعونهم من البشر من دون الله..
إلى منزلة الله عز وجل الواحد
الأحد.. وبذلك تقعون في الشرك
وتأثمون!..
إذن.. فالآية الكريمة
توضّح لنا مفهوم العبودية لله
عز وجل وحده لا شريك له، وضرورة
الإذعان لمنهجه وشرعه في كل
نواحي الحياة.. وفي ذلك قال الله
سبحانه وتعالى في محكم التنزيل:
(فَلا
وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ
حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا
شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا
يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ
حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ
وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (النساء:65).
هكذا إذن :
تسليم مطلق لله عز وجل وحكمه
ومنهجه ودينه.. ومن غير أي حرجٍ
نفسيّ!.. ويتأكد لنا ذلك في قوله
أيضاً عز وجل:
(وَمَا كَانَ
لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ
إِذَا قَضَى اللَّهُ
وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ
يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ
مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ
ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) (الأحزاب:36).
لنتدبّر
في نتائج (عدم) الالتزام بمنهج
الله عز وجل
يمكن أن
نجمل نتائج عدم الالتزام هذا..
بما يلي:
التناحر،
والتنازع، والاختلاف، والضلال،
والوقوع في الشرك، والخضوع
للأحكام الوضعية الجاهلية التي
يضعها البشر.. (أَفَحُكْمَ
الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ
وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ
حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة:50).
لنتدبّر
في الدروس والعظات المستوحاة من
الآية الكريمة
1- وجوب
الطاعة المطلقة لله ورسوله،
ووجوب التقيّد بمنهج الله عز
وجل وشرعه.
2- الالتزام
بمنهج الله عز وجل من علامات
صحّة الإيمان أولاً.. ومن علامات
تقوى الله عز وجل ثانياً.
3- التطاول
على دين الله عز وجل وشرعه
ومنهجه.. برفع منزلة البشر
والطواغيت والطغاة إلى منزلة
الله سبحانه وتعالى، بالاعتراف
بشرائعهم، أو بوضع التشريعات
والمناهج للناس والادعاء بأنها
أحكم أو أعدل من منهج الله عز
وجل وشرعه.. هذا التطاول، إنما
هو شرك وكفر بالله جل وعلا.
كيف
امتثل المؤمنون من صحابة رسول
الله صلى الله عليه وسلم بهذه
الآية الكريمة ؟!..
ما عاد أحد
منهم يُدلي برأيه في حكمٍ أو
أمرٍ قبل أن يرجعَ إلى حكم الله
ورسوله، وهذه بعض الأمثلة:
1- (روى أحمد
وأبو داود والترمذي.. عن معاذٍ
رضي الله عنه، أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال له حين بعثه إلى
اليمن: بمَ تحكم؟.. قال: بكتاب
الله سبحانه وتعالى.. قال: فإن لم
تجد؟.. قال: بسنّة رسول الله صلى
الله عليه وسلم.. قال: فإن لم
تجد؟.. قال: أجتهد رأيي ولا آلو (لا
أقصّر).. فضرب في صدره وقال:
الحمد لله الذي وفّق رسولَ
رسولِ الله لما يُرضي رسولَ
الله صلى الله عليه وسلم).
2- (عن أبي
بكرة الثقفي، أن النبي صلى الله
عليه وسلم سأل في حجة الوداع: أي
شهرٍ هذا؟.. قلنا: الله ورسوله
أعلم، فقال: أليس ذا الحجة؟..
قلنا: بلى، قال: أي بلدٍ هذا؟..
قلنا: الله ورسوله أعلم، فقال:
أليس البلدةَ الحرام؟.. قلنا:
بلى، قال: فأي يومٍ هذا؟.. قلنا:
الله ورسوله أعلم، فسكت.. فقال:
أليس يومَ النحر؟.. قلنا: بلى)!..
هكذا إذن..
فقد كان الصحابة رضوان الله
عليهم يتحرّجون من الإجابة، على
الرغم من معرفتها!.. لاحظوا
قولهم: (الله ورسوله أعلم)، وذلك
خشيةً من أن يكون قولهم تقدّماً
بين يدي الله ورسوله!..
إذن : التزام كامل
بمنهج الله عز وجل.. مع أدبٍ جمٍّ
تجاه رسول الله صلى الله عليه
وسلم، الذي هو ناقل الشرع
والمنهج عن الله سبحانه وتعالى.
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|