رقابة
إسلامية!
صبحي
غندور*
هي حالة صحّية طبعاً أن تمارس بعض
القنوات العربية، وفي مقدّمتها
قناة الجزيرة، دور المحرّك
للشارع العربي في قضايا تهمّ
الأمَّة والمجتمع.
وهذا تطوّر هام وإيجابي في مسيرة
وسائل الإعلام العربية بعدما
كان الإعلام التلفزيوني العربي
يعني أولاً إعلام الناس بأنشطة
ولقاءات الحاكمين
وإنجازاتهم
قبل أي حدث هام.
لكن لا أعلم ما هي الدوافع التي
جعلت قناة الجزيرة تحديداً تعطي
الأولويّة في مقدّمة كل نشراتها
الإخبارية، ولأيام متتالية،
لموضوع تصريحات البابا
الكاثوليكي، ومن ثمّ قيامها
باستطلاع آراء عددٍ من المراجع
الدينية حول الموضوع، فإذا
بالخبر يتحوّل إلى حدث تتبعه
موجات من ردود الفعل الغبية
والسيئة كالتي حدثت في الأراضي
الفلسطينية المحتلّة ضدَّ
كنائس مسيحية عربية بعضها لا
يتبع أصلاً للكنيسة البابوية في
روما.
وكأنَّ من قام بهذه الأعمال
السيئة يريد تثبيت المقولة التي
تتّهم المسلمين بالعنف
العشوائي وبرفض الآخر!
لقد كان من المهمّ طبعاً التعليق
على ما ورد على لسان بابا
الكنيسة الكاثوليكية، بل كان من
المهمّ، وما زال، دعوته لعقد
مؤتمر حوار إسلامي/مسيحي في
الفاتيكان للردّ على مضمون ما
جاء في محاضرته، ويا ليت قناة
الجزيرة - أو الحكومة القطرية-
كانت هي المبادرة للدعوة إلى
مثل هذا المؤتمر/الحوار ليُنقَل
فضائياً عبر "الجزيرة"
وغيرها، وبحضور ومشاركة فعّالة
من الفاتيكان وغيره من
الفعاليات المسيحية
والإسلامية. فالموضوع عن العلاقة بين الدين والعقل، هو مادّة حيوية
في الفكر الإسلامي ويستند إلى
تراثٍ إسلامي مهم حتى بالنسبة
للأوروبيين من خلال مدرسة ابن
رشد وتأثير الحضارة الإسلامية
عموماً، والأندلسية خصوصاً،
على النهضة الفكرية والعلمية في
أوروبا.
لكن ما حصل في الأيام الماضية كان
تكراراً مشابهاً لما جرى مطلع
هذا العام حول الرسوم
الكاريكاتورية في صحيفة
دانمركية، حيث تولّى المسلمون
أنفسهم – وعن غير قصد طبعاً-
الترويج والدعاية لهذه الرسوم
السيئة والمسيئة، فجرى نقلها من
صحيفة محلية مجهولة إلى كل
وسائل الإعلام بالعالم.
فاستنكار ما جاء عن الإسلام في
محاضرة البابا الكاثوليكي (وقبل
ذلك الرسوم الكاريكاتورية في
الدانمرك) هو واجب طبعاً، لكن
المشكلة هي في وسائل التعبير عن
هذا الاستنكار وفي تحويل الأمر
من حالة فكرية وإعلامية إلى
غليان شعبي عاطفي يحقّق أحياناً
غايات المسيئين ويدعم مقولاتهم.
وكما شهدت قضية الرسوم ردود فعل
خاطئة داخل الأراضي الفلسطينية
المحتلّة ضدَّ أشخاص ومؤسسات
أوروبية لا علاقة لهم بالحكومة
الدانمركية ولا بتلك الصحيفة،
كذلك تحدث الآن إساءات ضدَّ
كنائس مسيحية، ولم نشهد من قبل
كل العلماء المسلمين الذين
يدعون حالياً إلى الغضب وإلى
التحرّك الشعبي، استنكاراً
حاسماً لها.
إنّ هذا النوع من ردود الأفعال هو
الأخطر على وحدة الأوطان
والمجتمعات، وعلى الدين
الإسلامي نفسه الذي لا يجيز
التعرّض للمعابد الدينية أيّاً
كانت. ولا ينبغي أن ينسى
المسلمون ولا العالم كلّه موقف
عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)
حينما دعاه راعي كنيسة القيامة
إلى الصلاة فيها، فرفض الخليفة
عمر ذلك حتى لا يأتي يوماً أحد
فيقول: هنا صلّى عمر، ويدعو إلى
تحويل الكنيسة إلى مسجد. هذا وقد
جرت المحافظة على الكنائس
المسيحية ورعايتها في المنطقة
العربية على امتداد تاريخها
العربي الإسلامي.
فالإسلام، كما عرفه وعاشه العرب المسلمون
والمسيحيون (بل واليهود أيضاً)،
هو إسلام التسامح والتعايش
الديني الذي حافظ على التعدّدية
في المجتمع الواحد، خاصّة في
ظلِّ القيادة العربية لحقب
التاريخ الإسلامي.
أيضاً، ما الحكمة الآن من
الإثارة الإعلامية والسياسية
لقضية تُحدث شرخاً بين العرب
والمسلمين من جهة، والمسيحيين
الكاثوليكيين في العالم الذين
تضامن معظمهم ويتضامن مع
القضايا العربية ضدَّ سياسة
الإدارة الأميركية الحالية
وضدَّ الاحتلال الإسرائيلي؟
ولِمَ هذا الإصرار على دعم
المقولة الأميركية/الإسرائيلية
حول "صراع الحضارات" وصراع
"الشرق الإسلامي مع الغرب
المسيحي"؟
فمن المهم أن تكون هناك "رقابة
إسلامية" على ما يقال ويُنشَر
في الغرب، لكن بعض ردود الأفعال
اللاحقة لهذه "الرقابة" هي
موضع شبهة أحياناً لأنّها تحاول
الإساءة لوحدة الأوطان وتعايش
الأديان، وتجعل من "الرقابة
الإسرائيلية اليهودية"
المستفيد الأول، إن لم يكن
الوحيد، من صراع "الشرق
الإسلامي" مع "الغرب
المسيحي" ومن انشطار
المجتمعات العربية وصراعاتها
الداخلية، فكيف إذا كان هذا
"المجتمع" هو الشعب
الفلسطيني الخاضع للاحتلال
الإسرائيلي اليهودي؟!
ثمّ لماذا تخرج "ردود الفعل"
هذه عندما يكون "الفاعل"
أوروبياً ضعيفاً ولا تحصل تلك
الهبّات الشعبية الغاضبة إذا
كان "الفاعل" أميركياً أو
إسرائيلياً؟!
هناك "رقابة إسلامية"
مفقودة الآن حول قضايا خطيرة تحدث في البلاد
العربية والعالم الإسلامي
عموماً. هناك فتنة إسلامية تحدث
في العراق وغيره وتحتاج إلى
معالجة صحيحة من قبل كلِّ العرب
والمسلمين، وهذه الفتنة أشدّ من
القتل الذي يحدث أيضاً في
العراق بفعل الاحتلال
وتداعياته.
هناك حصار على الفلسطينيين في
غزّة وعلى الأراضي الفلسطينية
المحتلّة، وهناك قتل يومي
تمارسه قوات الاحتلال، ولم تخرج
المسيرات الغاضبة في أرجاء
العالم الإسلامي لوقف الحصار
وإنهاء الاحتلال!
هناك أماكن إسلامية (ومسيحية)
مقدّسة خاضعة للاحتلال
الإسرائيلي لحوالي أربعين
عاماً، وهناك إجراءات وممارسات
إسرائيلية لتهويد القدس وهدم
المسجد الأقصى تحتاج إلى ردعٍ
لها من قِبل حكومات وشعوب
العالم الإسلامي، في الوقت الذي
تقيم فيه بعض هذه الحكومات
علاقات طبيعية مع إسرائيل ولم
تجمّد هذه العلاقات حتى في ظلِّ
العدوان الوحشي الأخير على
لبنان.
فكيف يطالب البعض في مصر أو
الأردن أو فلسطين بطرد سفير
الفاتيكان ولا يتحرّكون لطرد
الدبلوماسيين الإسرائيليين من
القاهرة وعمّان والدوحة
وغيرها؟!
لماذا سياسة "القوة على الضعيف
والضعف أمام القوي"، ولماذا
تضيع الأولويات في صراعات
المنطقة وقضاياها، ولماذا
إثارة المشاعر العنفية على
"الحديث البيزنطي" لبابا
الكنيسة الكاثوليكية ولا يتمّ
التحرّك والغضب الفاعل تجاه ما
يحدث في الأمَّة من احتلال
وفتنة وتمزيق وظلم وغياب للعدل
السياسي والاجتماعي؟
لماذا تغيب "الرقابة
الإسلامية" عن حال المسلمين
في بلدانهم وعن الأخطار
الحقيقية المحدقة بهم؟
فلنبدأ أولاً بطرد الدبلوماسيين
الإسرائيليين من عواصمنا.
* مدير "مركز
الحوار العربي" في واشنطن
alhewar@alhewar.com
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|